قراءة في كتاب الدكتور صالح الطائي فصيل البراغيث "ذكريات في زنزانة الأمن"
تاريخ النشر : 2020-07-28
قراءة في كتاب الدكتور صالح الطائي فصيل البراغيث "ذكريات في زنزانة الأمن"


قراءة في كتاب الدكتور صالح الطائي فصيل البراغيث "ذكريات في زنزانة الأمن"

 بقلم الدكتور رحيم جودي

- تحمل كتب المذكرات انطباعات شخصية وتعد مصدراً مهماً من مصادر الكتابة التاريخية، لكونها تسلط الضوء على الأحداث من خلال تقديم صورة أقرب إلى الواقع من الخيال من أي مصدر اخر يبعد عنها زماناً ومكاناً، ومن بين تلك الكتب ما صدر مؤخراً عن دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع (٢٠٢٠) سوريا - السويداء وهو كتاب الدكتور صالح الطائي الموسوم "فصيل البراغيث، ذكريات زنزانة الأمن" الذي يقع في (١٣٢) صفحة من الحجم المتوسط .

- غلاف الكتاب:

هو مرآة حقيقية تقدم انعكاساً بصرياً في جذب القارئ لمحتوى الكتاب إذ تتوسط الغلاف يدان تمسكان قضبان السجن، وسطح الغلاف الموشح باللون الأسود يعكس دلالة واضحة عن الليل في غياهِب السّجون.

- عنوان الكتاب:

لطالما سمعنا تلك المقولة التي يتردد صداها في آذاننا "الكتاب يقرأ من عنوانه" وبواطن الكتاب تكشف ظاهر العنوان " فصيل البراغيث" إذ شبِّه المؤلف رجال الأمن الذين ينتشرون في ازقة مدينته بالبراغيث التي تقتات على دماء الضحايا وتعد لسعتها من أشد اللسعات الماً ووجعاً في عهد "جمهورية الخوف" .

ـ المقدمة:

بدأ المؤلف مقدمة كتابهِ بقول: (إياك وأن تترك الطرق، أطرق بشدة وعنف وقوة وقسوة، أجمع كل قواك وأطرق بها، ولكن بعملية واحتراف، لا بتهور واندفاع، وفي النهاية لابد وأن ينكسر شيء؛ قد يكون مهماً ... الخ) .

ويبدو من خلال قراءة المقدمة بأن المؤلف أراد جذب انتباه القارئ وإعطائه فكرة عامّة حول ما سيعثر عليه في ثنايا الكتاب، وكأنها أوراق من ذاكرة الوجع، استقى منها دروساً وعبرَ أراد من خلالها ان يستفيد الآخرون في الحاضر والمستقبل، دونها بموضوعية وحيادية بعيداً عن المبالغة والتهويل، وثمة مثل فرنسي يقول:

(الخبز الناشف يحتاج إلى أسنان حادة) فالإرادة الصلبة والعزيمة والقيادة والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية والتحرر من سلطة الانظمة الدكتاتورية الاستبدادية والبحث عن الحرية، فضلاً عن ملكة الكتابة التي ظهرت بواكيرها عند الطائي منذ طفولته وسط تشجيع واشادة مدرسي اللغة العربية؛ هي من جعلت هاجس أوجاع الذاكرة يظل يلاحق الطائي في كل لحظة من لحظات حياته مشحوناً بذكرى الألم ، فالذكريات المؤلمة لا تتلاشى بيسر بل تبقى تجدد نفسها في مخيالنا تذكرنا بالمآسي التي مرت بنا. فأخذ يسطر تلك الآلام بأسلوبهِ المعهود السلس والرشيق كأنه يحدثك وجهاً لوجه عن العذاب النفسي والجسدي ولسعات  "فصيل البراغيث".

وفي وكر الشياطين قدم الطائي نبذة تاريخية بِإيجَازٍ عن بدايات ونشأة البوليس في العهد الملكي منذ تأسيس الدولة العراقية في عام ١٩٢١ مروراً بالعهد الجمهوري وحتى وصول حزب البعث إلى السلطة عام ١٩٦٨ وصولاً الى عهد صدام حسين الذي أهتم بالجوانب الأمنية على حساب الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال تكوين عشرات الأجهزة الأمنية القمعية وفك ارتباط مديرية الأمن العام من وزارة الداخلية وتشكيل وكالة أمنية تتكون من "جهاز المخابرات" و"جهاز الاستخبارات" و"الحرس الخاص" وغيرها من الأجهزة الأمنية القمعية برئاسة ابنه قصي .

- خمس دقائق:

تحدث الطائي عن أساليب الخطف التي تتبعها الأجهزة الأمنية من خلال الخطف من الشارع والبيت والدائرة أو توريط الهدف بعلاقة مع فتاة فضلاً عن افتعال حوادث السيارات وكيف تم اختطافه بطريقة الاشتباه بحجة أن بقائه في مديرية الأمن العام لن يستغرق أكثر من خمس دقائق، فالأمر مجرد اشتباه، وهي الدقائق الخمس التي امتدت على مدى "ثلاثة أشهر ويومان"  .

- الخوف من المركب؛ والكتمان:

ثمة مثل بغدادي قديم يقول: (الحمى تأتي من الرجلين)، وهذا يتضح من خلال تحدث الطائي بحسرة وحزن عن صديقه المهندس المقرب من النظام والمشرف على بناء قاعات مديرية الأمن العامة؛ الذي التقى به لحظة وصوله إلى المديرية، ولم يخبر أهله عن مكان اعتقاله، وعن أحد أقاربهِ الذي يعمل سكرتيراً للمدير العام لمصرف الرافدين.

- الطيبة والسماح:

القلوب الكبيرة وحدها تعرف أن تسامح، تحدث الطائي كيف أنه سامح صديقه المهندس الذي ارسل له بعد عام 2003  طلب صداقة عبر (الفيس بوك)، بل والتمس له العذر عندما تذكر حادثة الطباخ الذي اخبر أهل احد المعتقلين عن مكان اعتقال ابنهم وكان مصيره الموت.

- محكمة الرفاق والمحاكم الخاصة:

وتناول الطائي صدور تشريع من مجلس قيادة الثورة (المنحل) في ثمانينات القرن الماضي بتشكيل محكمة دائمة خاصة بمديرية الأمن العامة لمحاكمة منتسبي الأجهزة الأمنية واعضاء حزب البعث "المنحل" وتنفيذ حكم الإعدام بكوادر حزب الدعوة الإسلامية بأثر رجعي.

- البحث عن المخطوف:

تحدث المؤلف تحت هذا العنوان الفرعي عن كيفية ايداعه في غياهب سجون مديرية الأمن العامة وفشل محاولات أخيه الأكبر للتوسط عند خيرالله طلفاح، وعن الصداقات المتينة التي عقدها مع بعض المعتقلين الذين أخبروا أهله عن مكانه بعد إطلاق سراحهم.

في رفيق زنزانتي تحدث الطائي عن صديقه الشيوعي الذي جمعته به زنزانة واحدة عام ١٩٧٧ في مديرية الأمن العامة، وكيف مات، وصدقت نبوءته: (ان التضحيات خدعة لا يشعر بتفاهتها الا من خسر عمره من اجل لا شيء ولم يجد فرصة للندم)، ولم يتذكر عدد أيام السجن الانفرادي وإنما يتذكر البراغيث التي تنهش جلده المتهرئ من أثر السياط، وصوت المحقق الأجش، وأخذ الاعترافات، وأنواع التعذيب النفسي والجسدي وهو معصوب العينين ومقيد اليدين خلف الظهر، وثمة مفاجأة في جنة الأمن وجدها بعد خروجه من زنزانة السجن الانفرادي ودخوله قاعة كبيرة يبدو وكأنها ضمت كل أطياف الشعب العراقي،  ومن المضحكات المبكيات ان أول اعتراف عليه كان من قبل سيد حسين الذي التقى به لقاءً عابراً في مقهى على شارع المحيط بالكاظمية لمدة نصف ساعة.

كانت عصاري الوحشة في سجون مديرية الأمن العامة تقبض النفس وتعصر القلب حد الخواء أما ظاهرة إخلاص رجال الأمن المطلق إلى النظام الحاكم واحترام ضباطهم فكانت مجرد زيف، أما الرعب فكان يتمثل بدعوات الليل للتحقيق إذ تعرض خلالها إلى اللكمات والرفسات وأشد انواع التعذيب فضلاً عن الصعق الكهربائي والكيبلات.

تحدث الطائي كيف قام صدام حسين بتصفية رفاق الدرب ومنهم هادي عجيل الذي زرقوه أبره قاتلة توفي على اثرها بعد أيام من اطلاق سراحه، وكيف نشرت جريدة الثورة نعي رفيق درب صدام حسين في القاهرة وكأنهم يطبقون  المثل المصري: (يقتل القتيل ويمشي في جنازته) ! .

وذكر الطائي كيف ارسلت له زوجته ورفيقة دربه وأم أولاده دعاءً بخط يدها كان يضعه تحت وسادته فيشعر بالطمأنينة.

أما في حفلة شواء الوزراء فقد تم اعتقال مجموعة من الوزراء واعضاء مجلس قيادة الثورة (المنحل) وكبار الضباط ومدراء عامين وسفراء وشخصيات مجتمعية بذريعة التآمر على النظام وادخلوهم ليلا إلى الزنزانات الانفرادية، وبعدها تم اطلاق سراحهم، كما تحدث عن طلب أحد ضباط الأمن من السجناء تنظيف القاعة من خلال محاضرة تخللها السب والشتم بأقذع الصفات.

كما تحدث عن الشباب ولعبة (الدومينو)، ووصفهم بالأبطال. وفي صديقهما اللدود أراد الطائي تقديم نصائح مجانية بعدم الثقة العمياء بالسجناء، وفي رحلة السطور تحدث الطائي عن أستاذ المقام العراقي وعازف آلة (السنطور) هاشم محمد الرجب الذي كان معه في السجن. وفي الأكراد الطيبون وصل الطائي إلى قناعة راسخة بأن النظام الدكتاتوري لا يميز بين القوميات والأديان والطوائف فالكل مجرمون حتى تثبت براءتهم. وتطرق الطائي إلى المتصوف الأفغاني الذي جاء سيراً عن طريق إيران لزيارة ضريح الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" والقي القبض عليه في خانقين، وأرسل إلى مديرية الأمن العام في بغداد، كما تحدث عن رجل احوازي القي القبض عليه بالقرب من الحدود العراقية - الإيرانية في عهد الشاه وكيف ثارت ثائرته عندما شتم أحد الشباب أمامه الشاه، وشرع يصف أدق تفاصيل : (غضب وتطاير الزبد من فمه)، وتطرق الطائي إلى حالة إنسانية قل مثيلها قام بها أحد اشقياء الكاظمية يدعى حافظ سليمة في سجون الأمن العام، كما ذكر الشاب الفلسطيني الذي التعاون مع الأجهزة الأمنية. وفي الصديق اللدود كأنه استشهد بالحديث النبوي الشريف : (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، كما تحدث عن لحظة اطلاق سراحه وخيبة الأمل التي إصابته من الوضع الجديد بعد (٢٠٠٣) .

وفي وداع وضياع تذكر موقف صديقه الشيوعي صاحب الحكمة: (اصمد فهم أضعف منك)، وفي زبدة المخيض تحدث الطائي عن تجربته وكأن التجارب لا تقرأ في الكتب ولكن الكتب تساعد على الانتفاع بالتجارب ومن تلك الكتب (فصيل البراغيث).

وختاماً  أرى أن الكتاب جدير بالقراءة، ويمثل إضافة جديدة للمكتبة  العراقية والعربية.