قراءة سريعة في كتاب "إسدود قلعة الجنوب" بقلم:د. عادل جوده
تاريخ النشر : 2020-07-28
قراءة سريعة في كتاب "إسدود قلعة الجنوب" بقلم:د. عادل جوده


قراءة سريعة في كتاب “إسدود قلعة الجنوب”
د. عادل علي جوده

عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين

[email protected]

يقع كتاب "إسدود قلعة الجنوب" في مائتين وخمس وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، وهو عبارة عن دراسة تاريخية اجتماعية اقتصادية سياسية، من تأليف الدكتور أحمد حسن جوده، المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

والحقيقة أن الكتاب بما اشتمل عليه من معلومات ثرية يعد من أمهات الكتب التي تناولت بلدتنا الغالية إسدود؛ وهي من الأراضي المحتلة عام 1948م، بل ويعد مرجعاً مهماً يستند إليه الباحثون وطلبة العلم، وقد اتسم بدقة التفاصيل وشموليتها، ويسرني ههنا أن أقدم للقارئ الكريم قراءة سريعة لهذا الكتاب الذي صدر عام 2013م عن "مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع" في غزة بفلسطين الحبيبة.

ولعلي أبدأ بسطور موجزة أقتبسها من الغلاف الخلفي للكتاب، عن صاحب هذا الإصدار الثري، فهو الدكتور أحمد حسن جوده، المولود في بلدة إسدود عام 1932م، وأنهى الدراسة الابتدائية في مدرستها (1946م)، وأكمل المرحلة الثانوية في مدينة المجدل عام 1948م، وفي مدينة غزة عام 1950م، وفي عام 1955م حصل على ليسانس آداب/تاريخ من جامعة القاهرة، وفي عام 1964م حصل على درجة الماجستير من جامعة تكساس/أوستن، وفي عام 1971م حصل على درجة الدكتوراة من جامعة متشجان. وهو مؤسس مكتبة دراسات الشرق الأوسط بجامعة تكساس/أوستن وأمينها في المدة من 1969م – 1972م. وحول مسيرته العملية فقد قام بتدريس "تاريخ العرب الحديث والمعاصر"، و"تاريخ أوروبا الحديث"، والقضية الفلسطينية" في الجامعة الليبية في بنغازي في المدة من 1972م إلى 1979م، وفي جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) في المدة من 1979م إلى 1991م. وله في مجال التأليف عدة أبحاث وكتب منشورة باللغة العربية والإنجليزية، منها "المصالح البريطانية في الكويت"، و"تاريخ العرب الحديث"، و"Revolt in Palestine in the 18th Century: The Era of Shaykh Zahir Al-Umar".

استهل المؤلف كتابه بإهداء شامل جامع إذ خصه لوالديه رحمهما الله وإخوانه، وزوجه، وأولاده، وجميع أبناء إسدود في الوطن والشتات، وإلى الشعب الفلسطيني الصامد في كفاحه من أجل تحرير الوطن الحبيب.

ثم وضع مقدمة وافية تناول فيها الأنماط المختلفة في كتابة تاريخ المدن أو القرى مبيناً سمات كل نمط من هذه الأنماط، ومشيراً إلى أن تاريخ المدن والقرى له دور مهم في معركة التحرير والدفاع عن الهوية والجذور وتطوير المفهوم العالمي لتأكيد الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين الطاهرة عبر العصور، سيما وأن الحياة اليومية للقرى تمثل ترسيخاً للهوية الوطنية، ودحضاً للأباطيل التي يروجها العدو الذي ماانفك يواصل حملات التزييف والتزوير والتشويه.

وتسهيلاً على القارئ ليقف على تاريخ إسدود وأهميتها في محيطها الأكبر، ولتكون الصورة أكثر وضوحاً، ضمّن المؤلف كتابه جزءاً خاصاً تحت عنوان "توطئة تاريخية" تناول فيها أولاً: أهمية موقع فلسطين بين بلدين يتمتعان بظروف اقتصادية ممتازة ويمثلان قوتين عظميين وحضارتين من أقدم حضارات العالم وهما "حوض النيل" (مصر)، وحوض الرافدين دجلة والفرات (العراق). وثانياً: أهمية موقع فلسطين على الحدود بين الصحراء جنوباً وشرقاً وبين جبال وسهول خصبة شمالاً وجنوباً. وثالثاً: أهمية موقع فلسطين على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ورابعاً: ما شكلته تلك العوامل من إقامة مراكز التجمع السكاني في المناطق الجبلية شرقاً وشمالاً، وفي السهل الساحلي والأودية الداخلية. ثم راح المؤلف يسرد تطور الأحداث التاريخية  التي كانت فلسطين مسرحاً لها على مدى عصور مختلفة، ثم توسع المؤلف في تناول "تاريخ إسدود" عبر خمسة عناصر مهمة:

العنصر الأول: إسدود قديماً؛ وفيه استند إلى نتائج الحفريات الأثرية التي قامت بها بعض الجامعات الأمريكية في ستينيات القرن العشرين، والتي أشارت إلى أن بدايات نشأة المدينة كانت في أوائل العصر البرونزي المتأخر بين (3000-2100) قبل الميلاد مرجحة أن يكون قوم العناقيين؛ أحد الأقوام الكنعانية، أول المؤسسين للمدينة وأطلقوا عليها اسم "أشدود" بمعنى "الحصن". إلا أن المؤلف ذهب إلى أن المصادر التاريخية، بالتوازي مع نتائج الحفريات الأثرية، تكاد تجمع على أن تأسيس إسدود كان بين (1800 – 1700) قبل الميلاد. ثم وثق المؤلف محطات تاريخية مهمة ومتعددة من بينها نجاح الفراعنة في تحرير بلادهم من الهكسوس في أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد، وتعقبوهم إلى فلسطين وسوريا، ولكون إسدود ذات موقع مهم على طريق الغزو، فقد عزز الفراعنة تحصينات الحماية لخطوط مواصلاتهم الحربية والتجارية. ومن بينها محاولات أقوام بحر إيجه (الباليستا) النزول على الشواطئ المصرية، إلا أنهم جوبهوا بمقاومة شديدة، فارتدوا خائبين باحثين عن شواطئ أخرى حتى استقر بهم المقام في الأجزاء الجنوبية من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من غزة حتى إسدود. ومن بينها في القرن الحادي عشر قبل الميلاد هاجم العبرانيون اليهود إسدود لإشباع شهوة التوسع لديهم، إلا أن الفلسطينيين صدوهم ودحروهم خائبين. ومن بينها في القرن الثامن قبل الميلاد حينما اكتسحت الجيوش الآشورية سوريا وفلسطين وقامت بتصفية الدولة اليهودية القائمة في شمال فلسطين ودخلت عدداً من المدن الفلسطينية ومنها إسدود التي لم تستسلم تماماً، فثارت ضد الاحتلال متلقية الدعم والتأييد من حكام مصر، فقام الآشوري الجديد "سرجون الثاني" بمحاصرة المدينة لثلاث سنوات (715 _ 712 ق.م.)، وفي العام 711 ق.م. فتحها الآشوريون واتخذها "سرجون الثاني" عاصمة لولاية آشورية، لكن حاكم مصر إبساميتكوس قاد جيوشه لملاقاة الآشوريين فاصطدم بمدينة إسدود المنيعة فحاصرها مدة ثلاثة عقود حتى تمكن من الاستيلاء عليها عام 630 ق.م، وهو الحصار الأطول في التاريخ كما وصفه المؤرخ اليوناني "هيرودوت". وواصل المؤلف سرد الأحداث التاريخية متسلسلة من سيطرة البابليين على الدولة اليهودية في الجنوب، إلى سيطرة "كورش ـ حاكم فارس ـ على بابل، وهناك عقد صفقة مع اليهود بإعادتهم إلى فلسطين مقابل تقديم المساعدة لجيوشه في زحفها نحو مصر، إلا أن التوسع الفارسي لم يعمر طويلاً أمام الغزو المقدوني بقيادة "الإسكندر الأكبر" الذي سيطر على منطقة الشرق بأكملها ومن بينها مدينة إسدود.

الواقع قارئي الكريم أني أود الاستطراد أكثر في هذا السرد التاريخي المليء بالأحداث، لكن تحسباً لمساحة النشر أدعوك لقراءة الكتاب وتأمل هذه المحطات المهمة في تاريخ إسدود القديم.

العنصر الثاني: إسدود الحديثة؛ وأكتفي هنا بالإشارة إلى الموقع الجغرافي لمدينة "إسدود" كما حدده المؤلف، إذ تقع عند التقاء خط طول 117 مع خط عرض 129 في الجزء الجنوبي من السهل الساحلي الفلسطيني الخصب، على الطريق التجاري الدولي بين مصر والشام، وهي تقريباً منتصف المسافة بين غزة ويافا، وتبعد عن كل منهما حوالي 41كم، ومما أكسبها أهمية أكثر أن هذا الطريق الدولي ينقسم عند إسدود إلى فرعين: الأول: يستمر على الساحل مروراً في "يبنا"، و"يافا"، و"أرسوف" ثم "عكا"، ومن هناك يتجه شرقاً ثم شمالاً إلى دمشق. والثاني: يتجه من إسدود إلى "بشيت"، و"عاقر"، و"الرملة"، و"قلنسوة"، و"اللجون" (مرج ابن عامر)، ومنها باتجاه الشمال الشرقي إلى دمشق. وحسب تقديرات عام 1948م ذكر المؤلف أن عدد بيوت القرية يتراوح ما بين 850 إلى 950 بيتاً، ومساحتها لا تقل عن 350 دونماً، وتعداد سكانها قارب الخمسة آلاف نسمة أو يزيد. وفي هذا الجزء من "إسدود الحديثة" وثق المؤلف معلومات مهمة عن الجامع الكبير الذي كان يتوسط البلدة، والذي تم تشييده أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر وفق نمط إسلامي متقن بحجارة بيضاء كالحجر القدسي، وله بهو كبير، وأمامه رواق طويل قائم على أعمدة ذات أقواس جميلة، وله مئذنة مرتفعة في الركن الجنوبي الغربي من الجامع، وأمام الرواق من الجهة الشمالية ساحة كبيرة لدورة المياه وللوضوء، وقد تناوب أبناء عائلة جوده على إمامته.

العنصر الثالث: مخطط القرية؛ وقد أشار المؤلف إلى أن مخطط القرية كان على شكل مربع تقريباً يتوسطه الجامع الكبير، وتخترقه ثلاثة شوارع رئيسة تتجه من الشرق إلى الغرب؛ أولها من الشمال "شارع الجَوَدِه" وهو امتداد للطريق القادم من قرية الباطني الغربي، ويتوسط حارة الجوده. وثانيها الشارع الأوسط وهو امتداد لطريق آخر إلى قرية البطاني الغربي، وثالثها شارع المصريين وهو امتداد للطريق القادم من قرية بيت دراس. وضمن معالم القرية ذكر المؤلف ثلاثة مقاهٍ على جانبي الإسفلت وهي "مقهى سعيد وجميل كتوع"، ومقهى "أحمد ومحمد غبن"، و"مقهى خليل النجار"، وذكر كذلك "مصنع حجارة الإسمنت والقرميد".

العنصر الرابع: مساكن القرية؛ وقد أشار المؤلف إلى أن بيوت القرية ـ التي تتراوح مساحاتها في الغالب بين (150 و 500) متراً مربعاً ـ كانت في غالبيتها العظمى مبنية من قوالب الطين المجففة بحرارة الشمس، وهذا الطين حينما يُخلط بالقَصْل يصبح صلباً يتحمل أمطار الشتاء وخاصة بعد أن يتم تلييسها سنوياً بطبقة طينية أخرى تعويضاً عما يصيبها من تعرية جراء أمطار الشتاء.

العنصر الخامس: المقامات الدينية؛ وقد عدد المؤلف العديد من المعالم الدينية المهمة مثل "مقام سلمان الفارسي" صاحب فكرة حفر الخندق في غزوة الأحزاب. و"مقام المتبولي" وهو مبنى قديم مقام على ضريح الشيخ إبراهيم بن علي المتبولي المصري الذي اشتهر بالتصوف وعمل الخير، وعطفه على الفقراء وأبناء السبيل. و"مقام أحمد أبي إقبال".

وفي الجزء الخاص بالسكان، توسع المؤلف في الحديث عن السكان في فلسطين بشكل عام، مشيراً إلى الأقوام التي توطَّنت فيها قروناً عدة، فأصبح الناس خليطاً متناسقاً منسجماً يصعب معه تحديد أصول العائلات، لكن فيما بعد تعارف الناس فيما بينهم على أنساب وانتماءات قبلية وعرقية تعود أحياناً إلى عشرة جدود أو أكثر.

ثم أشار المؤلف في حديثه عن السكان في إسدود إلى أن الوصف أعلاه ينسحب على إسدود وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية. وفي تركيزه على السكان في إسدود تناول المؤلف ما تميزت به إسدود من انتعاش اقتصادي، وما تميز به أهلها من حسن المعشر وكرم الضيافة، مما شجع أعداداً كبيرة من عائلات القرى المجاورة والبعيدة للقدوم إليها والإقامة فيها وتداخلها مع أهالي إسدود فنشأت بينهم علاقات مصاهرة.

وحول أقسام السكان في إسدود، ذكر المؤلف إلى أن سكان إسدود يشكلون أربع حمائل، وهم: حَمولة "الجَوَدِهْ" وتقيم في الجهة الشمالية والشمالية الشرقية من إسدود، وحَمولة "الدعالسة" وتقيم في الناحية الشرقية وفي جنوب الشارع الأوسط، وحَمولة "الزكاكتة" أو "الزقاقتة" وتقيم في الناحيتين الغربية والشمالية الغربية، وحَمولة "المناعمة" وتقيم في وسط القرية والأجزاء الشرقية على جانبي الشارع الأوسط.

وأوضح هنا أن مفردة (عائلة) تختلف في معناها عن مفردة (حَمولة) فالعائلة تتكون من الذرية التي تعود جذورها إلى رجل واحد، فمثلاً "عائلة جوده" تعود ذريتها للجد المؤسس "جُودَه"، فإذا جاءت عائلات أخرى من خارج إسدود وانتمت بالولاء إلى "عائلة جوده" فأقامت معها علاقات عمل ومصاهرة، فحينئذ تتشكل "الحَمولة"، وفي هذه الحالة يُقال "حَمولة الجَوَدِهْ" أي المكونة من "عائلة جوده" ومعها تلك العائلات الأخرى المنتمية إليها، لكن حين بناء شجرة العائلة فإنها لن تشمل أبناء تلك العائلات الأخرى.

وبعد أن تحدث المؤلف بشيء من التفصيل عن مكونات كل حَمولة، توسع قليلاً في الحديث عن "عائلة جوده" ومؤسسها الأول جدنا (جوده) وقصة رحيله من وادي فاطمة في مكة المكرمة، وإقامته في إسدود وزواجه فيها، ومن نسله تكونت "عائلة جوده"، وأشير هنا إلى أن المعلومات التي تفضل المؤلف بذكرها حيال قصة الرحيل تخالف في محتواها ما أشارت إليه مراجع أخرى، وكذلك لاحظت بعض الاختلاف في أحفاد جدنا (جوده) عما هو مدون في مراجع أخرى، وأعكف حالياً على المقارنة بين ما اشتمل عليه هذا الكتاب القيم وما وثقته المراجع القيمة الأخرى في هذا الشأن، بالتزامن مع البحث عن مراجع أخرى لبلوغ المعلومات المؤكدة إن شاء الله.

ثم وثق المؤلف في كتابه القيم مخاتير كل قسم من أقسام السكان في إسدود، مقدِّماً نبذة سريعة عن منصب أو وظيفة المختار. ووثق كذلك الخلفية التاريخية لمكانة "المجلس المحلي" الذي حرصت عليه حكومة الانتداب البريطاني، ففي حين أبقت على نظام المختار، إلا أنها أصدرت قانون المجالس المحلية للحد من احتكار المختار للسلطة. ثم تحدث المؤلف عن "المقعد في القرية" وذكر أصحاب المقاعد الرئيسة.

ووجدتني في الصفحات من (67 إلى 129) كما لو أنني أشاهد الآن حياة الناس الاجتماعية في إسدود في ذاك الزمان عبر الصور التي استطاع المؤلف أن يرسمها بحروفه وهو يسرد أدق التفاصيل الحياتية؛ مناسبات الزواج، والختان، والعزاء، والأعياد والمواسم، والعادات والتقاليد، ودور المرأة في القرية، والملابس، والخبز والحلويات، وألعاب الأطفال، ومعاناة الناس في ما يتصل بالحالة الصحية جراء إهمالها من قبل الانتداب البريطاني آنذاك، وروابط المودة بين أهالي إسدود وسكان القرى المجاورة، ثم تحدث عن التعليم إذ كان اهتمام الدولة العثمانية بالتعليم تقليدياً ورمزياً، فكان التعليم يقتصر على المساجد على أيدي أئمتها، وكانت هنالك مجهودات فردية ومبادرات شخصية من بعض المشايخ، إذ كان الشيخ يتخذ من بيته مكاناً لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، وفي عام 1922م قررت حكومة الانتداب فتح بعض المدارس وقد ذكرها المؤلف وذكر أسماء مديريها ومعلميها.

وفي الصفحات من (131 إلى 172) تناول المؤلف الحياة الاقتصادية في إسدود، إذ كانت تقوم في الأغلب على الزراعة وقد اشتمل الحديث على البيارات والحواكير وتوزيعاتها وأصحابها ـ ولفت انتباهي عدم وجود (بيارة جدّي عبدالحميد بن جوده بن سليمان جوده) بين البيارات ـ، كما تناول المؤلف بشيء من التفصيل الأراضي الزراعية وتوزيعاتها على امتداد القرية واتساعها، وركز المؤلف على قانون الأراضي الزراعية في العهد العثماني الذي كان مجحفاً في حق المزارعين وما يترتب عليهم من ضرائب للدولة مقابل فلاحة الأرض، وفي جانب الصناعة أشار المؤلف إلى بعض الصناعات الخفيفة التي كانت تغطي حاجة الفلاح، وأما التجارة فكانت معظمها محلية إذ تختص بتوفير الاحتياجات اليومية لأهالي القرية كالحبوب، والسكر، والشاي، والقهوة ...إلخ. ولم يغفل المؤلف المعاملات المالية التي كان يتعامل بها الناس إذ كانت في البداية تتم بالمقايضة، إلا أن هذا الأسلوب اختفى تماماً بعد الحرب العالمية الأولى، أما العملات التي كانت موجودة في العهد العثماني فهي (الليرة الذهبية وتدعى العسملي) و(الفضية وتدعى المجيدي) و(القرش) و(البشلك) و(البارة).

وفي الصفحات من (175 إلى 212) نكأ المؤلف جراحات لم تلتئم، وآهات لم تهدأ، وغصات لم تزل تعصف بالكيان الفلسطيني بأكمله، إذ اختصت بأوضاع الناس حتى عام 1939م، والحركة العمالية وعصبة التحرر، وحرب 1948م، وانتهاءً بالجيش المصري في إسدود في المدة من (29/5 إلى 28/10/1948م)، وصولاً إلى نكبة عام 1948م إذ احتل العدو الصهيوني الكثير من المدن والقرى الفلسطينية، وقتل الكثير من أبنائها عبر المجازر التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه وممتلكاته. وإني لأدعوك قارئي الكريم إلى قراءة ما دونه المؤلف من أحداث في هذه الصفحات ليتسرب إليك الشعور بنشوة الفخار إذ كان الصمود والاستبسال عنوان تلك المرحلة في فلسطين كلها بشكل عام، وفي إسدود بشكل خاص، وقد وفق المؤلف إذ جعل عنوان هذا الكتاب "إسدود قلعة الجنوب"، لأنها بالفعل كانت كذلك قلعة الجنوب الفلسطيني في وجه الغاصب الذي لن تهدأ لنا جوارح إلا بإخراجه من أرضنا وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف على كامل التراب الفلسطيني من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً، ومن نهر الأردن شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً، وإنه لمشهد بإذن الله آت.

وفي الصفحات من (213 إلى 255) وثّق المؤلف في كتابه العديد من الأمثال الشعبية، وبعض الحزازير أو (الفوازير) في إسدود. أما الأمثال الشعبية فقد مهد لها بمقدمة لافتة أثمنها له عالياً، قال فيها: "جميع الشعوب لها أمثالها وموروثها الشعبي، وهي ثمرة تاريخ طويل حافل بالأحداث والتجارب والحكايات، وتعتز الشعوب بهذا المخزون الغني بالمعاني والحكمة، وكثيراً ما تتخلل هذه الأمثال آدابها من شعر ونثر. وفي محيطنا العربي قلما يخلو حديث أو نقاش خاص أو عام، اجتماعياً كان أم سياسيًّا، من استعمال بعض الأمثال للتدليل على صحة موقف معين أو لتدعيم رأي محدد، وكأنها قاعدة ثابتة لا تحتمل النقص"، ثم راح يسرد الأمثال الشعبية التي جرت على الألسن، وأُدوِّنُ هنا بعضها على نحو لفظها: "ابن الحرام لا بينام ولا بخلّي غيره ينام"، و"ابن العم بينزِّل العروس عن ظهر الفرس"، و"اتجوز الأصيلة ونام عالحصيرة"، و"إجاك الموت يا تارك الصلاة"، و"اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، و"أعطي الخبر لخبازه ولو أكل نُصّه"، و"أهل إسدود أهل الكرم والجود" ... إلخ. وأما الحزازير؛ فأضع بعضها لك قارئي الكريم وأترقب إجاباتك عليها: "إشي قد الكف بيقتل ميّة وألف" ما هو؟، و"عبده في آخرها عقدة" ما هي؟، و"طويل طويل ما بطول بز البقرة" ما هو؟.

ولم يغب عن المؤلف أن يُضمّن كتابه قائمتين جميلتين؛ الأولى تختص بالمتزوجين من خارج إسدود، والثانية بالمتزوجين بأكثر من زوجة.

ثم ختم المؤلف كتابه ببعض الصور المؤثرة عن بلدة إسدود، وبيوتاتها، وأهاليها، وما تبقى من معالمها، بالإضافة إلى عدد من الصور التي التقطت له في زيارتيه لقرية إسدود؛ الأولى عام 2011م والثانية عام 2012م، وصور أخرى لوثائق قديمة تخصه؛ منها: صورة لشهادة تبليغ ولادته بتاريخ 8/2/1932م، وصورة لبطاقة هويته، وصور لبعض سندات القبض من بينها وصل استلام ضريبة المنازل والأراضي، وصورة جميلة لشهادة نجاحه في الصف السابع من "مدرسة ذكور إسدود الأميرية"، السنة الدراسية 1945/1946م، صادرة عن وزارة المعارف في حكومة فلسطين، وكان لافتاً فيها أن تقييم التلميذ لا يوثِّق الدرجات التي حصل عليها في كل موضوع، بل يوثِّق رتبته (ترتيبه) بين زملائه الآخرين في كل موضوع من الموضوعات الثمانية التي اشتملت عليها الشهادة وهي: "الدِّين" وترتيبه الرابع، و"اللغة العربية" وترتيبه الثاني، و"اللغة الإنجليزية" وترتيبه الثالث، و"الحساب والهندسة" وترتيبه الثاني، و"التاريخ والجغرافية" وترتيبه الثالث، و"علم الصحة ودرس الطبيعة أو مبادئ العلوم" وترتيبه الثالث، و"الرسم والتدريب اليدوي" وترتيبه الثالث، و"الرياضة" وترتيبه الخامس، وتضمنت الشهادة ملاحظات معلم الصف وجاء فيها: "مواظب، حسن الأخلاق والسلوك، والتوقيع: أحمد الرمادي؛ رئيس المدرسة، وتجدر الإشارة أن عدد تلاميذ الصف كان (9) تسعة تلاميذ، والشهادة عبارة عن أنموذج مطبوع تتم تعبئته بخط اليد.

وتضمنت الصور كذلك مخططاً لقرية إسدود بخط اليد مبيناً شوارعها بتعرجاتها، وشجرة مرسومة لنسل العائلة تبين الجد المؤسس "جوده" وابنيه "محمد" و"عبدالجواد" والأجيال الثلاثة الأولى من أحفاده، وكما أسلفت أنني وقفت فيها على التباسات مهمة في الأسماء، وجارٍ التحقق بشأنها.

وأختم هنا أن الكتاب يمثل ثروة معلوماتية هائلة، ويعد إضافة ثرية للمكتبة العربية من حيث ما اشتمل عليه من سرد تاريخي شامل ودقيق عن بلدتنا إسدود، وما تميز به من شمولية التفاصيل ودقتها وكلها توثق لحقيقة راسخة؛ أن هذه الأرض، وهذا التاريخ، وهذه المقدسات، وهذه الحضارة، ليست إلا فلسطين ولن تكون إلا لشعبها العظيم. وقد اشتملت الصفحات الأخيرة من الكتاب على قائمة المصادر التي استند إليها المؤلف، وعددها واحد وأربعون مصدراً باللغتين العربية والإنجليزية، وكم وددت لو اشتمل الكتاب على هوامش داخلية توثق اقتباسات المؤلف حيثما وجدت.

ولا يسعني هنا إلا أن أبرق للمؤلف همسة شكر مجللة بعظيم التقدير على ما بذل في هذا الكتاب ليس فقط من جهد فكري لا يقوى عليه إلا ذوو العلم الغزير والدراية الواسعة في البحث، إنما أيضاً ما بذل فيه من جهد جسدي يتمثل في التنقلات بين المكتبات، والتجوال بين صفحات المراجع المهمة، وأيضاً ما واجهه المؤلف من معاناة أثناء زيارتيه إلى إسدود ليمنح الكتاب نكهة فلسطينية خاصة مفعمة بالحنين.