المقاول بقلم محمود فودة
تاريخ النشر : 2020-07-28
المقاول بقلم محمود فودة


لا أدري كيف اجتمعت له تلك الخصال المتناقضة، أبواه أميّان، أخوته وأخواته يُعدون على أصابع اليدين، يتزاحمون على قصعة الطعام يتخطفونه من بعضهم البعض، لاحظَّ في الطعام لمن تخلف عن موعده ، ومن تأخر عن النوم ففراشه الأرض، الحياة معركتهم الكبرى، جميع الأسلحة فيها متاحة، يبتغون إلى المال كل وسيلة،
متفردٌ هو بين إخوته، يضارعُ نجوم السينما وسامة، ذو عينين زرقاوين وشعر أصفر، وقامة فارعة، تتقد عيناه ذكاء، ذاكرته حديدية ومع ذلك لم يكن له حظ كبير من التعليم، تخطى الثانوية بالكاد، قوته الجسدية ووسامته أهلتاه لكثير من الأعمال، لكنه اختار حياة الدِّعة والراحة و المكسب السهل... رفض أن يكون فَرّاشًا في مدرسة أو عاملا في شركة، أراد أن يكون عصفورا ينقر في الأرض ما حلا له التنقير، لكنه في الحقيقة تنقل بين المصالح الحكومية مثل دَبُّور شَرِه، يحمل حقيبة زاخرة بشتى المعاملات الحكومية، ينجز الأوراق الرسمية، مقابل مبلغ من المال، ساعده على ذلك حلاوة لسانه،وخفة روحه، كوّن بسرعة البرق علاقات قوية مع الموظفين، جعل لكل منهم نسبة محددة على ما ينجزونه من أوراق، ذاع صيته وحظي بثقة الناس، لكن... أيُرضيه هذا الفتات الذي يقتاتُ عليه؟ استغل قدرته الرهيبة على الإقناع في عمل أيسر ومال أوفر، امتهن النصب، تعددتْ القضايا في حقه، وصدرتْ ضده بعض الأحكام التي كانت في حكم إيقاف التنفيذ، علاقاته القوية بضباط القسم وأمناء الشرطة مكنته من الإفلات طويلا... الانتخابات لعبة لا يجيدها أحد مثله، يحرك الضعفاء وذوي الحاجات كما يحرك البيادق فوق رقعة الشطرنج، بل لديه من الكياسة والخبرة ما يمكنه من اللعب بكل القطع ، المرشحون أنفسهم عرائس في يديه يحركهم كيفما يحلو له، عملية الانتخابات في كل صورها-في عقيدته- ليست إلا مقاولة... كرهته عندما كان يأتي إلى بيتنا ويتحدث إلى والديّ وإخوتي الكبار بكلام معسول ووعود براقة، حدجتُه بنظرات متقدة متتابعة كالشرر، سخطت عليه وهو يتقدم المرشح المحظيّ، يشق له الطريق بين الجموع فيحتضن ابن عمي العريس دونما سابق علاقة به، مَقتُه حين أراه بين جيشه، يحملون كراتين المواد التموينية وعليها صورة المرشح إياه وتحتها المائة جنيه، تندرت عليه وسخرت منه فأسرّها في نفسه، جُننتُ وأنا أراه في الدورة التالية يلعب اللعبة نفسها لمرشح آخر ضد من كان يفسح له الطريق، ثرتُ في وجهه حينما قطع يدي وقص لساني واغتال حريتي وحبسهما في صندوق مزيف، وقفتُ أمام قاضي الاقتراع لأدلي بصوتي، فزجرني و كاد يحبسني لولا أنني انسحبت مخذولا مقهورا حينها علمتُ بأن هناك من صوت نيابة عني، بينما اكتشف صديقي المعارض أن لا وجود لاسمه بين الناخبين، تنتهي مقاولته ويتسلم المرشح الفائز مقعده كامل التشطيب تحت قبة ارتفعت على جثث شعب مغيب... مَرَق بسيارته الجديدة فوق طريق قريتنا الترابي، حجب عنا غبار سيارته الرؤية وكتمت أنفاسنا، ذات ثورة قامتْ في أعقاب فساد فاضح، جلس يتفاوض على مقاولة وطنية جديدة...
كنتُ أنا وصديقي أول اسمين كتبا في كشف ضحاياه في ميدان التحرير
٢٠٢٠/٧/٢٣