الحكيم...ملك الحوار الشائق ...!!! بقلم/د.يسري عبد الغني
وفي تصورنا أن أبرز خصيصة اشتهر بها توفيق الحكيم في مسرحياته ـ التي جاوزت الثمانين ـ أسلوبه الحواري الشائق الرائق الذي امتاز واتسم بالسهولة الممتعة الممتنعة ، وبسلاسة العبارة ، وتسلسل الأفكار التي ترتدي أزياءها اللغوية السليمة الصحيحة البسيطة ، لتكون بحق السهولة الممتنعة ، وتتجافى التكلف والتقعر ، كما تتخلل لغته الحوارية في نفس الآن روحاً مصرية أصيلة ، تسرع في التقاط المفارقات في اللغة أو الموقف وتفجرها ـ إذا لزم الأمر ـ بالسخرية التي تولد الشجن أو البسمة الطربة المحببة إلى النفس الإنسانية .
وبهذا الأسلوب الحواري المتميز والذي تفرد به الحكيم ، شارك معاصريه من مزدوجي اللغة ، مثل : الدكتور / طه حسين ، والأستاذ / عباس محمود العقاد ،والأستاذ / إبراهيم عبد القادر المازني ، والدكتور / محمد حسين هيكل ، والأستاذ / أحمد حسن الزيات ، والدكتور / أحمد أمين.. وغيرهم ، شاركهم رحلة بحثهم الدائب في تعصير لغة الكتابة الأدبية ، وفي السعي المستمر إلى تحقيق هوية ثقافية عربية معاصرة مستنيرة تجاهد في مصالحة الماضي الموروث والحاضر المجلوب ، عن طريق تمثيل القديم بلا تعصب ، والاحتفاء بالتيارات الحضارية الوافدة بلا أدنى تهافت اعتباطي ، أو تحفظ يخرجها على نحو متشكك أو متردد .
ومن هنا كان من أميز كتابات الحكيم كلها ، تعبيرها عن تيار أللا شعور ، لقد رضع من الثقافة العربية الشرقية الأصيلة الموروثة ، وتغذى من الثقافة الغربية والعالمية الوافدة .
فإذا كان قلب الحكيم مع : الجاحظ ، وأشعب ، وأهل الكهف ، والقرطبي ، وابن هشام ، وأحمد بن عبد ربه , والطبري ، فقد كان عقله مع : أريستو فان ، وسوفو كليس ، وجوته ، وإبسن ، وبرنارد شو ، وبيتهوفن ، وموزارت ، ودافنشي ، وسيزار ، و رامبرانت .. وغيرهم ، ولذا كانت كتابات الحكيم تترقرق بنكهة الموقف الشرقي الذي هضمه جيداً ، واستوعب ما امتاحه من شتى الينابيع الثقافية التي استرفدها سواء كانت إسلامية أو عربية أو فرعونية أو يونانية أو فرنسية أو عالمية أو مصرية حديثة ، استوعب كل ذلك بمشاعر الفنان وعقله .
وهكذا إذا ما كانت الجذور مؤصلة معمقة في التربة الثقافية القومية ، وكان ريها من تهطال غيوم ريح الشمال الوافدة ، فإنها لا تفقد جوهر طبيعتها أو أصالتها ، وإنما تشعر ـ ما لا بد من استثماره الآن ـ فكراً عصرياً واعياً مستنيراً يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد .
ولا شك أن نتاج توفيق الحكيم الإبداعي والفكري الذي وصل إلى ما يربو عن مائة مؤلف ، تخصبه الدراسات الجادة الممنهجة ، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تنكر دوره الريادي في تاريخنا الفكري والثقافي والإبداعي المعاصر ، ولكنها يمكن أن تختلف وتتقارع حول قيمة هذا الإنتاج وطبيعته ، وتتقارع حول ما إذا كان لهذا الإنتاج دلالة أو أكثر ، وهذا يجعلنا نؤكد على ضرورة أن تكون الدراسات أو الكتابات النقدية عن توفيق الحكيم كتابات جادة تسبر الغور بعيداً عن التسطيح ، فلا يصح أن تكون مجرد أناشيد جوقية جوفاء بعيدة عن المنهج العلمي السليم .
وبعد ذلك يمكنا القول أن ميراث الحكيم الأدبي والفكري يشبه قطع الكريستال الأصيلة المعلقة في سماء أدبنا العربي الحديث التي تتضوأ باللمعان ، الرائقة الشفافة ، فيرى الواقفون حولها ألواناً تتنوع كلما زفزفتها ريح الزمن ، وبهذه المناسبة فإن تعبير الكريستال الأصيل هذا هو تعبير أستاذنا الدكتور / إبراهيم حماده أستاذ النقد والدراما (رحمه الله ) والذي تعلمنا منه الكثير ، وبالذات عندما عملت تحت قيادته كمحرر في مجلة القاهرة التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب
الحكيم.. ملك الحوار الشائق بقلم:د.يسري عبد الغني
تاريخ النشر : 2020-07-27
