تيار الواقعية القمعية انتج الكثير من الروايات لما في القمع من تنوع غريب، فقد ذكر الناقد “جابر عصفور” انواع مختلفة من القمع يعاني منها الانسان، فهناك (روايات القمع الديني) مثل رواية (الزلزال) للروائي “الطاهر وطار” ، و(روايات القمع السياسي ) و(روايات القمع الاجتماعي) مثل رواية (اصوات) للروائي “سليمان فياض” ، ورواية (الحب في المنفى ) للروائي “بهاء طاهر” ورواية (انا حرة) للروائي “احسان عبد القدوس” ورواية (الحرام) ورواية (العيب) للقاص والروائي “يوسف ادريس” ورواية (ساق البامبو) للروائي الكويتي “سعود الستعوسي” وهناك رواية مهمة للروائية الايرانية “مريم مجيدي” بعنوان (ماركس والدمية” تدخل في هذا التوصيف.
*القمع في الظلال الطويلة
لعل اختيار الروائي (أمجد توفيق) لكلمة الظلال ويصفها بالطويلة ليست بلا هدف او وظيفة بالسرد، وقد استخدمت هذه الكلمة في اكثر من رواية، وغالبا ما ترمز للخوف ، فرواية (ظلال الاخرين) للروائي “مناف زيتون” ورواية (اسطورة الظلال) للروائي المصري “أحمد خالد توفيق” ورواية (الظل الاحمر) للروائية “ليلى حسن” كلها تعبر عن تيار (أدب الرعب) ولا ادري لماذا استحضرت في ذهني رواية (الرجل الذي فقد ظله) للروائي المصري “فتحي غانم” وانا اقرأ رواية (الظلال الطويلة) للروائي “أمجدد توفيق”
*شخصيات اتعبها الظل
يقدم السارد – الروائي- شخصيات تظهر بعد الاحتلال الامريكي للعراق، وتأخذ فرصة اكبر من حجمها ومن غير استحقاق، شخصيات كانت في السجون تنتظر تنفيذ حكم الاعدام، العفو يشملها لتخرج للنور بعد ان اتعبها (ظل) الاحتجاز وظلمة السجون، لذلك هم اقسموا ان يحتفلون في عيد ميلاد الرئيس !” عباس حربه – عزيز الأرمني- أسمر ياقو- جبار الأسود – وجاسم الريس” هؤلاء الخمسة المجرمون المحترفون يشكلون عصابة تديرها بذكاء (أنتصار خاتون) “اتفقوا على مناداتها بالخاتون، وهو يعرفون جيدا أن الخاتون واسمها انتصار ليست أكثر من بغي في حي شعبي”ص36 ، في وقت سقوط بغداد، وبدأت عمليات السرقة والنهب، وانتصار وشقيقها المدمن كانوا يسكنون في احد البيوت المتهالكة بشارع الرشيد، الصدفة والحظ وفرت فرصة لتستولي على اكياس من رزم الدولارات من البنك المركزي ، وبنفس الوقت تعرض شقيقها للقتل لتتخلص من (الفقر والبغي وظل شقيقها الثقيل) “ربما كان مقتل الشقيق ثمنا لفسحة من الزمن استطاعت انتصار أن تخفي أموالها، وتفكر في أساليب لاستثمار المال، وتغيير حياتها”ص45 وتكون النقلة النوعية للسكن من زقاق في شارع الرشيد الى قصر بالمنصور “دهش- عباس- حين عرف أن المرأة الجميلة الانيقة الثرية ليست سوى انتصار.. وذكر ملاحظة ضحكت لها انتصار كثيرا، قال أنه وزملاؤه يجدون أنهم يعيشون العصر الذهبي الذي يحلم به أي رجل يكره الدولة والقانون ورجال الشرطة”ص”46 .
*شريان السرد
تعد الامكنة هي الدم الذي يسري في شريان السرد، ومنها تتكون الشخصيات، وفي الرواية مكانين، بغداد في فترة الانفلات والفوضى والاحتلال ، وشخصيات انتصار والعصابة وحتى رجال الاحزاب ، شخصيات على طبيعتها (تفعل وتقول ما تريد) ، والمكان الثاني (باريس) حيث تعيش الشخصية المحورية الثانية في الرواية (بشار البصير) ومعه زوجته (نسرين وابنته امل) وصديقه (خالد) وعشيقته الفرنسية الرسامة الفاتنة (ايزابيل) واذا كان بشار يعاني من الرعب والخوف من السلطة كذلك هو خالد الذي يهرب من العراق الى فرنسا، فلا يعرف هذا الرعب والخوف طريقه الى قلب زوجته نسرين التي تلح على زوجها للعودة الى العراق بعد سقوط النظام “- إنك تعتبر بغداد غابة – لا ..انا أعتبر أن النظام السياسي السابق لم يسقط فحسب بل سقطت الدولة، والدولة يا سيدتي تعني كل شيء من مركز الشرطة الى المركز البلدي إلى نظام المرور إلى دوائر الخدمات “ص70 ، بشار كان حزبيا (بعثيا) لكنه كان (معارضا من الداخل) لكنه كان من الصعب استهدافه أو التشكيك في مواقفه وأرائه، لكن بمرور الزمن احس بشار بإنه( بانتظار رصاصة طائشة أو حادث دهس أو الوقوع ضحية مؤامرة حسنة التنظيم والإعداد) ، كان صديقه خالد – وهو ايضا حزبيا- حينما رزق بشار بأبنته عام 1990 ، سأله بمكر”هل ستسميها نداء انسجاما مع دخول القوات إلى الكويت؟ – لا ياصديقي، فبرغم كل الظلمة والحمق والحقد سأسميها – أمل- – احسنت ..إننا نحتاج إلى أمل”ص75 ، ومن اجل ابعاد بشار عن العراق جعلوه (يتولى مسؤولية التنظيم الحزبي في فرنسا) ويزداد نفوره من تصرفات السلطة والقيادة من بغداد، وحتى من موظفي السفارة العراقية وكذلك كل من يبعث ايفاد من العراق الى باريس (حتى من يوفد الى الكويت يسلك طريق بغداد – باريس- كويت) .
*معنى الرعب
المكان مثلما هو قيد على التصرفات الناس في العراق في ظل نظام بوليسي قمعي، فالمكان في باريس عليه ان يزيل القيد على الافكار ويتم الكلام والسلوك من خلاله! لكن يذكر لنا السارد بإن تغيير المكان لا يعطي مثل هذا الفضاء ، في الوقت الذي تتصل المخابرات الامريكية ببشار لتحذيره بإنه سوف يتم استهدافه من قبل النظام، ويطلبون منه بعد سقوط النظام بالعودة الى بغداد لأنهم يحتاجونه، يتعرف على الرسامة الفاتنة ايزابيل، وتقترح عليه ان ترسم صورته في شقتها “ارتدت إيزابيل بنطلونا قصيرا يكشف مساحة عريضة من فخذيها فضلا عن قميص يكشف منطقة البطن”ص105 .
*الخاتون والمسؤول
يتنقل السرد من باريس الى بغداد، ولا نعلم كيف سوف تتقاطع الخيوط الدرامية والمحاور بين الخاتون انتصار وعصابتها مع بشار البصير واسرته! لكن السارد يسلط الضوء على تصرفات انتصار وما تتمتع به من كرم وحب مساعدة الناس والفقراء، مقارنة ببخل شخصية رئيس الحزب (ابو صهيب) وكراهية الناس له” بدأ الحراس ينقلون إليها أخبار أبي صهيب رئيس الحزب واسراره، ويتندرون على طريقة تصرفه بالاموال التي يأخذها من الاميركيين، ويأخذها من المواطنين رشاوي لإنجاز طلباته” يمنع ابو صهيب حراسه من زيارة بيت الخاتون ، فتأمر عصابتها بسرقته واهانته. الخاتون لم تفكر في الزواج بسبب ما كان عليها الماضي من قسوة الرجال ولا مبالاة شقيقتها تجاه اعتداء اصدقاؤه عليها مقابل الخمرة والطعام لذلك هي تحدث نفسها ومثل هذه التداعيات كثيرة في الرواية مرة تستخدمها انتصار ومرة يستخدمه بشار البصير “انها تدرك الان قدرتها على اختيار أي شاب للزواج منه..لكنها لا ترغب في ذلك، فقد استطاعت حياتها السابقة إطفاء رغبات الأنثى داخلها.. كانت تبتسم ..وهي تحدث نفسها، وتقول إنها أخذت استحقاقات عشر نساء من الجنس”ص125 .،، يقرر بشار البصير ان يزور العراق مع زوجته وابنته وصديقه خالد ، خاصة بعد ان انتهت علاقته بإيزابيل ، وسرقة اللوحة التي رسمت صورته والتي تعتقد ان من سرقها هم المخابرات الامريكية (جون ورونالد) ، وعند ما قرر العودة للعراق زوده الأميركيان بأرقام هواتف، وطلبا منه الاتصال في بغداد بشخص يدعى “ديك كاستنر” لأنه يملك تعليمات”ص171 ،، الرواية قبل ان يلتقي بشار بالخاتون انتصار في بغداد كانت تجمع بين العمق والقدرة على الاقناع في المحورين .
في الظروف الطبيعية قد لا تحتاج شخصية مثل بشار البصير الى خدمات شخصية مثل انتصار خاتون، حتى لو جعل – السارد- البيت الذي يملكه (بشار) قريبا من قصر (انتصار خاتون) ، بشار يعيش في فرنسا وهو في زيارة الى بغداد وجاء ليرى بيته المتروك والذي يسكنه الحارس (ابو ستار) وعائلته للمحافظة على ما تبقى منه، لا يلفت نظره اسم انتصار خاتون الا من خلال فخامة وهيبة بيت الذي تسكنه (كان بشار ينظر إلى دارة كبيرة تحظى بالعناية والاهتمام، يتجلى ذلك من زهور الحديقة ونباتاتها، ونظافة المدخل والجدران..قال محمد- شقيق بشار- – إنها دارة الخاتون انتصار.. – من تكون؟- واحدة من حديثات النعمة في هذا الزمن.. – وكيف جنت أموالها؟ – لا أعرف.. يقال بأنها تساعد الآخرين وتحل مشاكلهم ولها تأثير كبير في الدهاليز السرية” وصف دار بشار الذي اصلا تمت مصادرته من النظام السابق لموقفه المعارض للنظام فهو (منظره مؤلما.. أبواب وشبابيك مسروقة.. بلاطات مقلوعة.. حديقة تعاني من الجفاف والأدغال)ص202 . واذا كان موقف بشار من كل شيء شاهده في بغداد منذ وصوله اليها من باريس لا يشجعه على العودة والاستقرار فيها (أدرك بشار إن الآخرين فقدوا الكثير من صبرهم وقدرتهم على تحمل الرأي الآخر حتى وإن كان في الاتجاه نفسه) وفي حديثه مع (ابي نصير) المسؤول السابق في قيادة الحزب واحيل الى التقاعد بناء على طلبه ، يقول له ابو نصير (ها هي الأيام تثبت صحة الاعتراضاته) سأله بشار عن تقويمه للأحداث (بأنه عمل ناقص يكتنفه الغموض) سأله بشار:- هل تميل إلى نظرية الأخطاء – لم أسمع بها- كيف .. الكل يتحدثون عن الأخطاء الأميريكية بعد إسقاط النظام..عدم امتلاك تصور شامل عن الوضع حل الجيش العراقي إلغاء وزارة الأعلام الوضع الأمني …هل أستمر في التعداد؟- – الا تلاحظ يا ابا نصير أن الأميركيين لم يتحدثوا عن أخطائهم؟ – نعم .. الآخرون يفعلون ذلك.. ماذا يعني – إنه يعني أنهم لا يشعرون بالأخطاء لأنها جزء من مخطط- كيف- إنهم لم يسقطوا النظام بل أسقطوا الدولة “
*شهوة انتصار خاتون
في هذا الوقت ،، كان نجم الخاتون انتصار يحلق عاليا، وتستمر في الانتقام من الماضي ، وكانت تنتقم بطريقتها الخاصة (تذلهم بالمساعدة.. تذلهم بقضاء حوائجهم.. تذلهم بالانتقام لهم.. تذلهم بالانتقام منهم عن طريق عصابتها) وتأتي الى حيث بيتها فرصة لتذل الامريكان، حينما تحدث اضطرابات في شارع الرشيد بين المقاومة والامريكان، وتخرج العصابة من وكرها للذهاب الى بيت آخر في ساحة السباع ويصاف هروب مجندة امريكية من الدخان “كان جبار الأسود الرجل الأخير الذي اجتاز الشارع، وعند لحظة دخلوه الفتحة، اصطدم بجسم.. كانت مجندة أميركية خنقها الدخان والظلام، فهامت على وجهها لتصطدم بجبار الأسود الذي لم يستطع إطلاقا الاجابة عن سبب اقتيادها”ص184 وتقررالعصابة اخذها فيما بعد الى قصر الخاتون (- انت زعيمة حقيقية.. فقد كنا نخشى إزعاجك بهذه المجندة.. – أبدا.. أشعر بالراحة وأنا أخيلهم ذليلين لا يعرفون طريقا إليها، سأل أسمر ياقو – هل أصبحت تتعاطفين مع المقاومة يا خاتون؟ - لا ..ألا يثيرك أن ترى امرأة أجنبية تحمل السلاح وتذل رجال بلدك ؟” تعرض الخاتون على جبار الاسود عن رغبته لمضاجعتها ، فيقول انه يفضلها على المجندة الاميركية “غادرا السرداب، واتجها مباشرة إلى غرفة النوم.. أغلقت الباب، وبدأت بنزع ملابسها، وهي تقول:- حدثني أيها الأسود ..لماذا تفضلني مائة مرة على الأميركية؟ – أنني أشعر بأنك لست امرأة تثيرين شهوتي…انت جميلة وذكية.. والنوم معك له معنى كبير.. أنا لا أجيد الحديث.. جسدي يتحدث أفضل من لساني… إنها الان تحتفل بأنوثتها..انها تريد أن تستمتع وترتوي.. اما جبار فإنه يعتبرها جائزة صعبة المنال حصل عليها في لحظة لن تتكرر، وعليه ان يقوم بالفعل وكأنه المرة الأخيرة..جسدان لم يهداءا، واردتان اجتمعتا على المتعة.”ص196
*أختطفت أمل!
حينما تتقاطع الاحداث تلتقي الشخصيات المتناقضة والمتباعدة، تتعرض (امل) الى الاختطاف وهي تزور مع امها نسرين الى بيت بشار في المنصور للتخطيط على اعادة اعماره، وتفقد العائلة وبالذات بشار توازنها، ولم تبق جهة مؤثرة لم يذهبوا اليها لمساعدتهم في اعادة ابنته سالمة الى عائلتها، ولكن من دون جدوى، فيأخذ محمد شقيقه بشار الى قصر انتصار خاتون ” اسمها أمل وهي ابنة جيراني، واختطفت قرب بيتي.. هذا لا يصح، ولن يكون..ما هي مكافآتي بعد عودتها.. – أي شيء، وكل شيء.. إنني اتنازل عن بيتي لك”219 ، وتعطي انتصار وعدا بارجاع امل خلال يومين وتطلب من بشار ان يزورها غدا الساعة الحادية عشر ليلا لوحده بعد ان عرفت بإنه يجيد اللغتين الانكليزية والفرنسية، وفعلا بشار يساعد الخاتون بما تريد بترجمة الحوار بينها وبين المجندة، وفي اليوم الثاني وهو ينتظر ابنته في بيت الخاتون وبينما ابنته قد تم تحريرها من قبل عصابة الخاتون لكن الامريكان تحاصر بيت الخاتون وتعتقلها وتعتقل ايضا بشار البصير ويضربه احد الجنود الامريكان بأخمص بندقيته ليكسر ضلوعه! وتبدأ الرواية تفضح اساليب المحتل الامريكي وطريقة تعامله مع المعتقلين، اما امل فعند وجود الامريكان بالقرب من بيت الخاتون ترمي نفسها من السيارة لعصابة الخاتون وتكسر يدها بينما رصاص الامريكان يكسر قدمها امام بيت بشار! تخطف العصابة من الكرادة جندي ومترجم وتقوم باستبدالهما مقابل اطلاق سراح انتصار خاتون، وتتوطد علاقة الخاتون بقوات الاحتلال، كثيرا وتساعدهم في معرفة مواقع المقاومة وتقدم لها المساعدة المادية وما تريد من قبل ضباط الاحتلال”قادت انتصار عصابتها لتقديم معلومات وكشف حوداث وتحديد بؤر المقاومة وطريقة عملها، وقدمت النتائج والخلاصات إلى أصدقائها الجدد الذين يستقبلون منجزها بأعين لامعة وضحكات تشجيع ووعود لا نهاية له..اصبح سلاح أفراد العصابة شرعيا، ويحملون هويات أصدرها القائد العسكري الأميركي”ص283 ، تتوسط انتصار بإقناع ضابط امريكي كبير ببراءة بشار وتطلب منه اطلاق سراحه، وفعلا تنجح في ذلك ، وتلتقي بإسرة بشار وتشتري بيته ، ليسافر بشار وعائلته الى باريس، ويعود الى ايزابيل في مشهد رومانسي يقفل فيها السارد روايته (أطبقت عينيها..أطبق عينيه. وكأن الحلم ينتظر)
الخاتمة
عبر الروائي (امجد توفيق) في هذه الرواية عن هموم الشعب العراقي وهم الوطن في مرحلة الاحتلال الاميركي للعراق ، ذلك الاحتلال الذي تبقى أثاره السلبية الى ما بعد رحيله! حبكة روائية مدهشة اثارت الكثير من القضايا ، جعل التقاء عالمين مختلفين (عالم بشار مع عالم انتصار) رغم تنوع سبلهما وتشعب ظلالهما ، لأنها (الظلال الطويلة) ..
—————
• من كتابي- قيد الانجاز- ملامح الشخصيات في الروايات العراقية
ملامح الشخصيات في الروايات العراقية بقلم: حمدي العطار
تاريخ النشر : 2020-07-26