قراءة تأملية في قصيدة: أنثى الماء..تحمل قبساً من التحديات بقلم:محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-07-26
قراءة تأملية في قصيدة: أنثى الماء..تحمل قبساً من التحديات بقلم:محمد المحسن


قراءة -تأملية-في قصيدة:أنثى الماء..تحمل قبسا من التحديات..للشاعرة التونسية هادية آمنة

-لا يمكن للأدب أن ينمو ويزدهر..إلا في ظل مجتمع منفتح على الآخر..ويبحث عن الرقي والتقدم في الفكر والسلوك..-

نحن أمام انعطافة فنية جديدة وحادة ليس في تجربة الشاعرة التونسية هادية آمنةالخاصة فحسب،وإنما في تجربتنا الشعرية في تونس بشكل عام،وذلك على مستوى الشكل والمضمون معاً.فنحن قبل كل شيء أمام قصيدة قصيرة كتبت في نفس شعري وزمني واحد توزع على مساحة ستة وعشرين مقطعاً قصيراً لا يزيد كل منها في الغالب على بضع كلمات مما يسمى بالشعر المنثور الذي لا يخضع لقانون الوزن أو الموسيقى الخارجية.وهذه القصيدة القصيرة- التجربة بأقانيمها الستة والعشرين هي للشاعرة أمنة هادية التي أبدعت في إختيار العنوان:أنثى الماء..تحمل قبسا من التحديات ..
وأول ما يلفت نظر القارئ،ولا نقول القارئ المتذوق أو الناقد،لهذه القصيدة هو طبيعة الانفعال الذي يوجه الشاعرة ويقف منطلقاً لهذه التجربة وينبوعاً تصدر عنه في كل منحنياتها وأبعادها وبنائها.وهي طبيعة تتسم بالأنوثة والعفة،في مجتمع ذكوري يتعالى عن الأنثى جاعلا منها في معظم الأحيان وعاءا للذة ليس إلا...وهي طبيعة قد يتمازج فيها الماء بالنار والجموح بالجنوح والممكن بالمستحيل والواقع بالحلم.
هو يُمارسُ على الأنثى الرجولة
ويستأثرُ لنفسه بدوْرِ البُطولة
يستبيحُ البقاع باسم الحبّ
والغريرة الحلوة في شراكه تَطُب
بعدها يبحثُ عن غشاء الطّهارة
سُحقاً لكَ فتلك حقارة
كلّ الخداع واللّؤم فيك
إناث اليوم متى نستفيق؟
هو يُدجّنُها برجع السنين
تَنساقُ إليه وعقلها مستكين
يا حُرْمَة أنتِ عورة
وإن انبثقت من الثورة ألف ثورة
عُقالُكِ على جسدكِ لفِّيه
ووقع خُطاكِ على أديم الأرض إلغيه
ما أنتِ إلا مطيّة قَبل حوراء العيون
ضاعت الأسماء لتبقى فُتُون
نجلاء.. هيفاء ...حواء
كلّ الوسائل مباحة
الحربُ سِجالٌ ما بعدها راحة
إستنزفي قواه البليدة
إنتصري عليه وكوني عتيدة
حواء من جنّة الخلد أخرجيه
وإلى جحيم الجسد أعيده
عبدا يكون وتلك علامة
سحقا لبعض رجال اليوم
وللأنثى السلامة
إلا أن هذا المزيج المتضرع الشاهق بمختلف حالاته المتجادلة يصدر من نبع انفعالي واحد هو :الحب، وإن تعددت اتجاهاته وطرق التنفيس عنه وجداول تدفقه :حب المرأة، حب الإنسان،حب الكلمة،حب الطبيعة،حب النضال،حب الرفاق.تمرد المرأة على الموروثات البالية في النظرة الدونية إلى المرأة.. إنه الحب فحسب،هذا الينبوع الدافق بكل جنون، مفجراً معه الشعر والكلمات..
هادية آمنة شاعرة متمكنة من لغتها،متمردة حتى على ذاتها.وبعكس الكثيرين ممن يكتبون قصيدة النثر،نجدها تكتب بلغة متماسكة واستعارات جميلة ،وتستخرج الموروثات الثقافية وأحيانا الدينية وكذا المغاربية وتوظفها بشكل موفق يخدم النص،ويسهل وصوله إلى المتلقي بطريقة فنية وهذا يؤدي الغرض الأول من الكتابة الأدبية .
وأود أن أشير إلى أن الكثير ممن يكتبون قصيدة النثر،لا يعرفون للأسف الشديد ألف باء القصيدة .فتأتي نصوصهم ركيكة ومفككة،وتدعو القارئ المتمكن من لغة الخطاب الشعري إلى التساؤل والحيرة:لماذا يكتبون؟ولمن يكتبون؟وهذه مسألة تستدعي مقاربة خاصة..!
وهناك من شعراء قصيدة النثر مَنْ حافظوا على شعرية النص وإيقاعاته الداخلية والخارجية .واستخدموا أدوات الشعر بشكل موفق .كما ساعد تحررهم من أوزان الخليل بن أحمد على التوسع في رسم الصورة الشعرية .وشاعرتنا هادية آمنة تعتبر من هذا الصنف،حيث لاحظت الكثير من الأبيات في قصائدها موزونة تماما..
إن الانوثة عند الشاعرة التونسية هادية آمنة تتحقق استتباعاً على أرض الرمز اكثر مما تفعله على ارض الواقع.وهي تبعاً لذلك تستكنه اسرارها عبر تحولها الى ميثولوجيا وطقوس وتجليات.وبالتالي تمردا-كما أسلفت-على طقوس بائسة تنتصر-لفحولة الرجل-على حساب رقة الأنثى..
إنّ تركيز الكلام الشعري في الجسد و تجلّياته الظاهرة و المخفية يؤسّس لبناء نص الحرية التي تعلقت بها الشاعرة و داومت التعبير عنها في صياغات تتعدّد لكنها تتآلف و تتنادى في تجاوب مستديم.
و الشاعرة-هادية-حين تنتصر -لأنوثتها وتغتسل بها ،إنّما ترسم صورا موحية لمشروعها الشّعري الذي تُشيّده على مهل،وهي تسند هذا المعمار بركيزة فكرية حداثية تعدّ نقيضا لرؤية تمتهن الجسد والأنوثة وتعمل على حجبهما توقّيا من الفتنة والإغواء والوقوع في الدّنس..فحين تخاطب هادية آمنة ابنة آدم الكامنة فيها وفي كل أنثى من البشر بهذه النّبرة المعاتبة:كلّ الخداع واللّؤم فيك/إناث اليوم متى نستفيق؟/هو يُدجّنُها برجع السنين /تَنساقُ /إليه وعقلها مستكين/يا حُرْمَة أنتِ عورة /وإن انبثقت من الثورة ألف ثورة..
و تستعيدُ أمشاجا من القصّة الدّينية على سبيل التّضمين أو التناص تحوّل مجرى الكلام وتشحنّه برؤاها رافضة أن تكون ابنة آدم " أنثى يخبّئ فيها (آدم الذكر )الماء"،وأن يكون مصيرُ الإناث..التدجين والإنسحاق في بوتقة-الذكورية-
وأما طين الجسد الذي لا يسمو سموّ الرّوح لأنه عرض زائل بمنطق بعض فلاسفتنا القدامى وفي تقدير من يعتبره عورة و مصدر إغواء يتعيّن حجبه،فقد غدا في نصوص الشّاعرة-هادية آمنة-مكوّنا لإنشاء الذات في القصيدة ومولّدا لمجازات الكلام الشعري.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع وأنهي به مقاربتي المتعجلة:
أليس من حقّ الأنوثة على الأنثى أن تتنبّه إلى هذا الحقّ الطبيعي في تملّي ذاتها وفي استبطان أناها، وفي كشف منطقة الجسد التي ظلت مغمورة قبل أن تطل عليها بعض الفلسفات الحديثة؟!
ويظل السؤال حافيا..عاريا..ينخر شفيف الروح.
محمد المحسن (شاعر وناقد تونسي)