يوسف الصديق في دائرة الضوء – الحلقة الثانية
لقد صدعت رؤوسنا المقابلات المتعددة مع يوسف الصديق والتي تصفه بالمفكر التونسي والمتخصص في أنثروبولوجيا القرآن؟؟ وعبارة " أنثروبولوجيا " مشتقة من كلمتين يونانيتين؛ هما: أنثروبوس (Anthvo pos) وتعني الإنسان ، ولوغوس (Logos)، ومعناها الكلمة أو الموضوع أو الدراسة، وبهذا يكون معنى الأنثروبولوجيا هو دراسة الإنسان، أو علم الإنسان ، وهي مبحثٌ من مباحثِ العلمِ المعاصر يبحث في الإنسان أصلُه وتطورُه وماضيه ويجزم هذا العلمُ بأنَّ لا يدَ غيرَ يدِ الطبيعة كان لها دورٌ في كتابةِ صفحاتِه. وفكرة التطور الحيوي عند الإنسان التي نادى بها داروين وغيره، تتعارض مع الفكر الديني، وتفسيراته التي تؤكد أن الإنسان مخلوق من خلق الله، وليس نتاج حلقة تطوُّرية ذات أصل حيواني. وتقاربُ الآنثروبولوجيا “الدينَ الإلهي” مقاربةً لا تُقِرُّ له بأصلِه الإلهي ، طالما كان الدين من وجهةِ نظرِها نتاجاً لعقلِ الإنسان!؟ ومن هنا انبثقت آنثروبولوجيا القرآن دراسةً يظنُّ أصحابُها أنَّ بمقدورِهم أن يُقاربوا النصَّ القرآنيًّ المقدس مقاربةً أنثروبولوجية تُعلِّلُ لكلِّ ما جاء فيه تعليلاً لا يعترفُ بغيرِ “البشري” أصلاً لكلِّ ما وردَ فيه من مفرداتٍ غيبيةً كانت أم واقعية!؟ . قال الصديق : المصحف عمل إنساني يختلف عن القرآن ويجب الإطاحة بالأزهر والزيتونة”..؟؟ وقال : الآن يجب أن نخرج القرآن من سجن المصحف، المصحف الذي جمعه عثمان ابن عفان ، ثأر أموي من نبي بني هاشم، وهم بعد سجن المصحف سجنوا أيضا إدراكنا له، لم يعد إلا للتلاوة والترتيل والإعادة والحفظ، لم يعد للقراءة أبدا، ولست وحدي من أنادي بهذا، نادى بهذا محمد شحرور ، ونصر حامد أبوزيد والكثير من أشباه المثقفين ؟؟ ويستشهد يوسف غير الصديق بقول نسبه للسجستاني فقال : ويذهب كتاب " المصاحف " لصاحبه أبي داوود السجستاني ( 202- 275 ه) إلى القول أن المصاحف التي أمر الخليفة عثمان بإتلافها تختلف عن المصحف الموحد الذي أوجده ؟! لا فقط في تنظيم السور ، وحتى في عنونتها ، وإنما كذلك في تنظيم الآيات؟! وإن القرآن تعرض لـ"العبث" بعد وفاة الرسول، ومن تجليات ذلك "العبث" مسألة "الناسخ والمنسوخ" التي اعتبرها "اغتصابا للنص القرآني (( وللعلم فكتاب المصاحف ليس من مصتفات أبي داود السجستاني صاحب السنن وغيرها ، إنما هو لابنه عبد الله وهو أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني. ولد سنة 230 هـ ، وهو ضعيف بل اتهمه أبوه بالكذب ، قال أبو داود: ابني كذاب .. ونسب الكتاب لأبيه : الإمام العالم أبو داود السجستاني صاحب السنن.وهذا تدليس يقصد به إضفاء الشرعية على ذلك الكتاب...وانظر: ميزان الاعتدال 2/433، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ج 4 / 226)) وقال كلاما كثيرا لا وجه له ولا قفا ؟! وهذه الفرية كذلك غنمها من المستشرق البروتستانتي، الألماني د. ميلكوش موراني، جامعة بون ـ بألمانيا ( انظرالمستشار سالم عبد الهادي: مع المستشرق موراني- )
فما هو المصحف ؟ وكيف تم جمعه ؟؟
جمع القرآن( المصحف )
كثر لغط من يوصفون بالمفكرين بلا تفكير ، والفلاسفة بلا فلسفة ، أمثال الشحرور ، ويوسف الزنديق غير الصديق ..حول جمع القرآن .. فنقول :
الجمع في لغة العرب :- الضم والاحاطة والاستقصاء ، قال الراغب :- الجمع : ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض .. يقال : جمعته فانجمع . ( المفردات : ص 94 )واذا أطلق معنى الجمع على كلام الله فيراد به معنيان :-
الأول :- حفظه واستظهاره في الصدور .. ومنه قول عبد الله بن عمرو ( جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة )( فتح الباري : ج9/ ص 60) أي : حفظت القرآن
الثاني :- تدوينه وكتابته في السطور ..ومنه قول أبي بكر -رضي الله عنه - لزيد بن ثابت - رضي الله عنه - ( تتبع القرآن فاجمعه ) (فتح الباري / ج9/ ص 14 ) أي : اكتبه كله في السطور وقد علل الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز سبب تسمية المصحف بالقرآن والكتاب فقال :- ( روعي في تسميته قرآنا كونه متلواً بالألسن ، كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام ، فكلا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه ، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد ، أعني : يجب حفظه في الصدور والسطور معا)( النبأ العظيم : ص 12-13.)
وقد مر جمع القرآن بمراحل ثلاث هي :-
1- جمعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- .
2- جمعه في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- .
3- جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه -.
وسنتحدث عن كل جمع منها مبينين دواعيه وأسبابه ومميزاته .
1- جمع القرآن في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -
جمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكلتا الوسيلتين .. الحفظ في الصدور ... والكتابة في السطور .
أ - جمع القرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - بمعنى حفظه في الصدور :- كان القرآن ينزل على النبي-صلى الله عليه وسلم- منجما ، فيقرأه على أصحابه ، وكان شديد الحرص على حفظه واستظهاره فور سماع ألفاظه من جبريل - عليه السلام -، يدلنا على ذلك ما كان يعانيه من شدة في تلقي الوحي ، وحرصه على تحريك لسانه بالوحي قبل أن ينتهي منه جبريل خوف تَفَلُّتِه ، واستعجالا لحفظه ....فأنزل الله ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه وقرآنه : إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرؤه ، (فاذا قرأناه) : اذا أنزلناه عليك ( فاتبع قرآنه) فاستمع وأنصت ( ثم ان علينا بيانه ) أن نبينه بلسانك ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك اذا أتاه جبريل أطرق ، وفي لفظ : استمع ..فاذا ذهب قرأه كما وعد الله ) (صحيح البخاري : ج6/ ص 101. ).. وهذا تحقيق لوعد الله سبحاته (سنقرئك فلا تنسى) (سورة الأعلى : 6). ومن وجوه التكفل الإلهي له -صلى الله عليه وسلم- بحفظه ، أن جبريل -عليه السلام- كان يعارضه القرآن في كل عام مرة ، وفي العام الذي توفي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل بالقرآن مرتين .( أي أن أحدهما يقرأ والآخر يستمع ) (البخاري : ج1/ ص 101. ). ثم انه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأه على صحابته في تؤدة وتمهل ،كي يحفظوا لفظه ويفهموا معناه ، وكان الصحابة يتسابقون في حفظه وتدبر معانيه ، وكيف لا يكون هذا وقد علموا أن في القرآن عزهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة ، ومما ساعدهم على سرعة حفظه دون مشقة ، ظروف العرب أنفسهم الطبيعية ، وما فيها من صفاء وسعة ، تدعو الى نشاط الذهن وصفاء القريحة . كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يبعث الى من كان بعيدا من يقرئهم ويعلمهم القرآن ، فقد بعث مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنهما- الى أهل المدينة قبل هجرته -صلى الله عليه وسلم- يعلمانهم الاسلام ويقرئانهم القرآن ،وأرسل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الى مكة بعد هجرته للتحفيظ والاقراء (مناهل العرفان : ج1/ ص 242. ) .
حفاظ القرآن من الصحابة :
كان القرآن الكريم هو شغل الصحابة الشاغل في سفرهم ، وإقامتهم ، فحفظوه وتدبروا معانيه ، وائتمروا بأوامره ، وانتهوا عن نواهيه ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو مرجعهم في حفظهم للقرآن وفهمه ، والوقوف على أسراره ومعانيه ، ومن الطبيعي أن لا يكونوا على درجة واحدة في الحفظ ، فمنهم من يحفظه كاملا ، ومنهم من يحفظ أجزاء يسيرة منه ، كل حسب جهده وطاقته .. ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أول كتابه ( القراءات ) عددا من حفاظ القرآن من الصحابة ، فَعَدَّ من المهاجرين : الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعدا ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالما ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، وابن الزبير ، والعبادلة ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، ومن أمهات المؤمنين : عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ..
وعد من الأنصار : أبي بن كعب ، وأبا الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وعبادة بن الصامت ، ومعاذا الذي يكنى : أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلد ، وغيرهم . وصرح بأن بعضهم أكمل حفظه بعد انتقال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى … (البرهان : ج1/ ص 242. والنشر : ج1/ ص6 ) كما ثبت في الروايات الصحيحة أن سبعين من القراء الحفظة استشهدوا في – بئر معونة - ، وفي يوم - اليمامة – ما يقرب من الخمسمائة ) (فضائل القرآن : لابن كثير ، ص 9 ).ومع ذلك فقد ورد ما أوهم البعض بأنه إشكال ، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال : - ( مات النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجمع القرآن غير أربعة ، أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ( قيس بن السَّكَن ) (البخاري : ج6/ ص 230 ). والواقع أنه لا إشكال أبدا بين ما اشتهر وعلم من تواتر حفظ القرآن في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وبين هذه الرواية ، وذلك لأن الحصر الذي جاء في هذا الحديث هو الحصر الإضافي (لم يقصد في الحديث الحصر بالنسبة لجميع الصحابة ، بل قصد الحاضرين معه من الصحابة ) لا الحقيقي ، ذلك أن الحصر الحقيقي لا يتم في صورته إلا إذا كان أنس – رضي الله عنه – لقي كل الصحابة وسألهم واحدا واحدا حتى يتم له الإستقراء ، وهذا أمر من الصعوبة بمكان ، ولا دليل عليه .. وبعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – حفظه الألوف من الصحابة ، وعن الصحابة حفظه الألوف من التابعين ، وهكذا في كل عصر وجيل ، حتى وصل إلينا القرآن العظيم بعيدا من كل شبهة من زيادة ، أو تحريف ، أو نقصان ، تحقيقا لوعد الله : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر: 9).
ب- جمع القرآن بمعنى كتابته في السطور في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –...
نزل القرآن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئا فشيئا ، الآية ، والآيتين والسورة ، وكان كلما نزل شيء بادر النبي – صلى الله عليه وسلم – بتبليغه لأصحابه ، وكان يملي على كتبة الوحي ما ينزل عليه من القرآن ، فكتب كله في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - ، لكنه لم يكن مرتب السور ، ولا مجموعا بين دفتين ، بل كان مفرقا في العسب ، والرقاع ، واللخاف ، والأقتاب ونحوها ، مع كونه محفوظا في الصدور . .. روى الحاكم عن زيد بن ثابت قال : ( كنت أكتب الوحي عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يملي علي ، فإذا فرغت قال : إقراه ، فإذا كان فيه سقط أقامه ..) (المستدرك : ج2/ ص 229 . والفتح الرباني : ج18/ ص 30 ).
ومن الأحاديث الدالة على أن القرآن كان يكتب في حضرته – عليه الصلاة والسلام – ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ( إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : لا تكتبوا عني ، ومن كتب غير القرآن فليمحه ..) (صحيح مسلم بشرح النووي : ج28/ ص 129 ). وروى الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الثلاثة ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن عثمان – رضي الله عنه - قال : - ( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما يأتي عليه من الزمان ، ينزل عليه من السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا … ) (فتح الباري : ج9/ ص 18) . فهذه الأحاديث تدل على أن القرآن قد كتب بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وما نزل شيء من القرآن – آية أو سورة - إلا وضع موضعه بتوقيفه ، وإعلام الصحابة بذلك . الباعث على كتابة القرآن في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - :
القرآن الكريم معجز بلفظه ونظمه ، ولا يمكن أن تقوم عبارة أخرى مقام عبارته ، أو يحل نظام آخر محل هذا النظام المعجز ، لذلك كان جديرا بأبلغ ما يمكن من الإحتياط في ضبط ألفاظه ، وصيانته من التغيير أو التحريف . وهذه الدقة الملازمة للقرآن ، وهذا الإحتياط الفائق لا يتحققان إلا بالحفظ والكتابة معا ، فإن الكتابة تعاضد الحفظ وتظاهره ، فيكون اجتماعهما معا أعظم لحفظه وصيانته ، ومن هنا كانت عناية الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم – التي تقف عند حد الحفظ ، بل وجد بجانبه التسجيل في تلك الوثائق الرسمية التي كان منها النسخة البكرية ثم العثمانية . إذن .. فالباعث على كتابة القرآن في هذا العهد يتلخص فيما يلي :- زيادة التوثيق للقرآن بالمحافظة عليه من طريقين : طريق حفظه في الصدور ، وطريق كتابته في السطور . تبليغ الوحي على الوجه الأكمل ، لأن الاعتماد على حفظ الصحابة غير كاف ، لأنه عرضة للنسيان وللموت ، فلو اعتمد على حفظهم وحده ، لخشي ضياع شيء منه بالنسيان أو الموت ، أما الكتابة فباقية ، لا يتطرق اليها ذلك . ثم إنه بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ظهرت له فائدة جليلة ، هي أنه لما جمع القرآن في عهد خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، كان لدى الصحابة مصدران أعتمدا عليهما في الجمع ، هما الحفظ ، والكتابة ، وفيهما من التثبت وزيادة التحري ، ما لم يكن يوجد لو كان الاعتماد على مصدر واحد . مميزات كتابة القرآن في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - :
امتازت كتابة القرآن في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالأمور التالية : أولا : - أنه لم يكن مجموعا في مصحف واحد . ثانيا : - أنه لم يكن مرتب الآيات والسور . ثالثا : - إن بعض الصحابة كتب بعض المنسوخ تلاوة في مصاحفهم الخاصة ، وبعضهم كتب بجانب الآيات بعض ما أثر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من تفسير لها ، وبعضهم كتب ما هو ثابت بخبر الواحد ، ولم يقتصر على ما ثبت بالتواتر . وقد أشار إلى ذلك الشيخ محمد العاقب الشنقيطي – رحمه الله –بقوله : -
لم يجمع القرآن في مجلد ... على الصحيح في حياة أحمد .
للأمن فيه من خلاف ينشأ... وخيفة النسخ بوحي يطرا .
وكان يكتبه على الأكتاف ... وقطع الأديم واللخاف .
وبعد إغماض النبي فالأحق ... أن أبا بكر بجمعه سبق .
جمعه غير مرتب السور ... بعد إشارة إليه من عمر .
ثم تولى الجمع ذو النورين ... فضمه مابين دفتين .
مرتب السور والآيات ... مخرجا بأفصح اللغات . ( تاريخ القرآن وغرائب رسمه : ص 40 )
لماذا لم يجمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – القرآن في مكان واحد ..؟
لم يلحق الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرفيق الأعلى إلا وقد دون القرآن كله ، ولكنه لم يجمعه بين دفتين للأسباب التالية :-
1- إن القرآن الكريم كان ينزل حسب الدواعي ، وكان بعضه ينسخ في أوقات مختلفة ، فلو كتب ما ينزل أولا بأول في صحيفة واحدة على التدريج ، ثم احتيج إلى تغيير المنسوخ لزم الحرج ، لعدم توافر أدوات الكتابة ، فالذي ينسخ لا بد أن يُمحى ويحل محله ما نسخه ، لأنه لو لم يرفع من الصحيفة ، لأدى إلى الالتباس والاختلاط ، وعدم معرفة الناسخ والمنسوخ ، وتغيير الكتابة من آن لآخر ، فيه عناء ومشقة . قال الزركشي : - ( وإنما لم يكتب في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – مصحف ، لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت ، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته – صلى الله عليه وسلم - ، فكتب أبو بكر والصحابة من بعده ، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار ) وكان قد قال قبل ذلك : - ( وإنما ترك جمعه في مصحف واحد ، لأن النسخ كان يرد على بعض الآيات ، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعضها لأدى ذلك إلى الاختلاف ، واختلاط الدين ، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ ، ثم وفق الله لجمعه الخلفاء الراشدين .. ) ( البرهان : ج1/ ص262. )
2- الأمنُ من وقوع الخلاف بين الصحابة – رضي الله عنهم - ، لوجوده – صلى الله عليه وسلم – بين أظهرهم .
3- نزل القرآن مفرقا على أكثر من عشرين سنة ، ولا يتأتى جمعه في صحيفة واحدة وهو لا يزال ينزل ، إذ لو نزلت آية والحالة كذلك ، لا نجد لها موضعا ، فكان لا بد من ترك الباب مفتوحا لما يَجِدُّ من الآيات .
4- وأيضا فإن الحاجة إلى الجمع في مكان واحد لم تكن إلا في عهد الصديق – رضي الله عنه - ، حين خِيف ذهاب القرآن بموت حفظته ، وأما في حياته – عليه الصلاة والسلام – فلا خوف ، إذ الوحي لا يزال يتنزل ، والرسول –صلى الله عليه وسلم –يعلمهم القرآن ويذكرهم به ،والصحابة يحفظونه ويتدارسونه ، فالفتنة مأمونة كما أسلفنا . فلما انتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى ، ألهم الله الخلفاء الراشدين جمعه وفاء لوعده بضمان حفظه .
على أي شيء كان يدون القرآن …؟
شاع في أوساط بعض الكاتبين في علوم القرآن من مسلمين ومستشرقين ، أن الأدوات التي سجل عليها الوحي إبان عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت من المواد الخشنة ، كالحجار ، والعظام ، وجريد النخل ، وغيرها ، وقد جاء ذكر هذه الأدوات في روايات مختلفة ، عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – عند جمعه القرآن في عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قال : ( فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع ، والعسب ، واللخاف ، وصدور الرجال … وفي رواية : فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ، ومن الرقاع ، والأضلاع … ) (كتاب المصاحف : ص : 8، 9، 20 . ) وهناك روايات أخرى . وهذه الروايات - في ظني –تشير إلى أن هذه الأدوات كانت مما يكتب عليه الكاتبون من الصحابة لأنفسهم ، أما ما كتب عليه الوحي في بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فتشير إليه رواية أخرى لزيد يقول فيها : - ( كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نؤلف القرآن من الرقاع ) وهي جمع رقعة ، قد تكون من : جلد ، أو ورق ، أو كاغد . وقد وجد المستشرقون في الروايات السابقة مرتعا خصبا أثار نهمهم في إثارة الشبهات حول القرآن ، فقد رأوا في تلك الأدوات استحالة مادية في استيعاب النص القرآني كله ..)( القرآن : بلاشير ، ص 29. ) وكأن هذه الأدوات هي الحقيقة المقررة والوحيدة في قصة تدوين القرآن ، على أن الواقع خلاف ذلك . فقد وردت كلمة – القراءة – وما اشتق منها في القرآن حوالي ( تسعين مرة ) ووردت كلمة ( الكتابة ) وما اشتق منها نحوا من ( ثلثمائة مرة ) ، وكثيرا ما حكى القرآن عن المشركين أنهم يطلبون من النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا يقرؤونه ، أو ( صحفا مُنَشَّرة ) ، كما حكى عنهم وصفهم للوحي المنزل بأنه ( أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا )( الفرقان :5)
وذكر القرآن أيضا كلمات : القرطاس ، والمداد ، والقلم ،والصحف ، والسِّجِل ، والِّرق ، وكل ذلك موجه إلى أولئك العرب الذين لصقت بهم صفة الأمية خلال التاريخ..) (تاريخ القرآن ، ص 134-135. ومصادر الشعر الجاهلي : ص 24-41. ) . إن أقرب الأشياء إلى الواقع : أن العرب كانوا يعرفون من وسائل الكتابة أدواتها اللينة ، كالجلد ، والورق ، وبخاصة إذا تصورنا أن مكة كانت تمثل بيئة تجارية في أرض الجزيرة ، تقوم التجارة فيها على توثيق العقود ، وتدوين الحسابات . وكلنا يعلم نبأ الصحيفة التي كتبتها قريش لمقاطعة بني هاشم ، وعندما قام نفر منهم لشق تلك الصحيفة الظالمة ، وجدوا أن الأرضة قد أكلتها إلا ( باسمك اللهم ) ، وفي ذلك دليل على أنها كانت من الأدوات اللينة ، وهناك كثير من الصحف غيرها كتبت على الأدوات اللينة ، كصحيفة صلح الحديبية، ورسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الزعماء ، والحكام ، لدعوتهم إلى الإسلام ، ورقاع الوحي التي كتب فيها زيد القرآن بحضرة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وبعض مخطوطات الصحابة التي كتبوا فيها القرآن عن النبي – صلى الله عليه وسلم -والتي أمر عثمان – رضي الله عنه – بإحراقها بعد نسخ مصاحفه .. وكيف لا يعرف المسلمون هذه الأدوات اللينة وقد جاوروا جاليات كبيرة من أهل الكتاب ، وفي أيديهم كتبهم يتدارسونها ، وقد تكررت إشارات القرآن إلى هذه الكتب ، ولا ننفي أن يكون بعض القرآن قد كتب على بعض هذه الماد الخشنة – كما تقول الروايات - ، لكن ننفي أن تكون هي الوسيلة الوحيدة ، أو الأكثر استعمالا في كتابة القرآن .. وربما كان استعمالها لضرورة ، كندرة الأدوات اللينة في ظرف ما ، أو أنها استخدمت بصورة مؤقتة لعدم تيسر غيرها فور نزول الوحي ريثما ينقل إلى مكانه من سجلات القرآن ، وهي الرقاع المشار إليها في حديث زيد السابق (عن القرآن : لمحمد صبيح ، ص 86.) . وأيا كان الأمر فقد ورد في الروايات أن الصحابة استخدموا في كتابة القرآن الأدوات التالية :-
1- العسب :- جمع عسيب ، وهي جريدة من النخل مستقيمة ، كانوا يكشطون الخوص ، ويكتبون في طرفها العريض .
2- الكرانيف : - جمع _ كرناف – ( بالكسر أو بالضم ) ، وهي الأصول التي تبقى في جذوع النخلة ، أو الجريدة بعد قطع السعف ، ومفردها كرنافة .
3- اللخاف : - جمع لخفة ، وهي صفائح الحجارة الرقاق .
4- الأكتاف : - جمع كتف ، وهي عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان . وقال السيوطي : هو العظم الذي للبعير أو الشاة .
5- الصحف : وهي قطعة من جلد أو قرطاس يكتب فيه .
6- الظرر : بضم الظاء وفتح الراء ، وهي الحجارة العريضة .
7- الرقاع : - جمع رقعة – بالضم - ، وهي القطعة من النسيج أو الجلد .
8- الأضلاع : وهي عظام الصدر المعروفة للحيوان ، فإذا جفت ويبست كتبوا عليها .
9- الأديم : - قطع الجلد كانوا يدونون عليها القرآن .
10- الأقتاب : - جمع قتب ( بفتحتين ) وهو رحل البعير ، وقيل : هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير .
11- الألواح : - جمع لوح ، واللوح : كل صحيفة عريضة من خشب أو غيره ، ويلحق بها ما يقوم مقامها ، إذا كتب عليها سميت لوحا . ولم ينقض العهد النبوي المبارك إلا والقرآن مجموع ومكتوب في صحف متفرقة (الاتقان : ج2/ ص 168. والنهاية في غريب الحديث : ج4/ ص 10.) عند هذا الصحابي أو ذاك ، لكن ترتيبه كان محفوظا عند الجميع بتعريف النبي – صلى الله عليه وسلم – وقراءته وهم يسمعون ، على الترتيب الذي ارتضاه الله عز وجل لكتابه ، وأوحى به اليه ، ولم ينتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى إلا وقد كان القرآن كله محفوظا في الصدور ، ومكتوبا في السطور .
كتاب الوحي : حظي القرآن الكريم بأوفى نصيب من عناية النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وعناية أصحابه ، فلم تصرفهم عنايتهم بحفظه واستظهاره عن عنايتهم بنقشه وكتابته ، فاتخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا للوحي ، فكان كلما نزل شيء من القرآن أمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابته ، مبينا لهم موضعه ، زيادة في التوثيق ، والضبط ، والاحتياط ، حتى تظاهر الكتابة الحفظ . وهؤلاء الكتبة من خيرة أصحاب رسول الله
– صلى الله عليه وسلم - ، وقد بلغ عددهم ثلاثة وأربعين كاتبا ، كان من اكثرهم ملازمة للنبي– صلى الله عليه وسلم – وكتابة له : زيد بن ثابت ، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهم أجمعين –( كتاب الوحي : د. وليد الأعظمي ) .
ومن كتاب الوحي :( الخلفاء الأربعة ، والزبير بن العوام ، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية ، وحنظلة بن الربيع الأسدي ، ومعيقيب بن أبي فاطمة ، وعبد الله بن الأرقم الزهري ، وشرحبيل بن حسنة ، وعبد الله بن رواحة .. وآخرين ) (فتح الباري : ج19/ ص 26 ) . وعن البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن الزبير : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد استكتب عبد الله بن الأرقم ، فكان يكتب له إلى الملوك ، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه ..) ثم استكتب زيد بن ثابت ، فكان يكتب الوحي ، ويكتب إلى الملوك ، وكان إذا غاب كتب جعفر بن أبي طالب ، وكتب له أحيانا جماعة من الصحابة )( فتح الباري : ج27/ ص213. ) . وأول من كتب له بمكة من قريش : عبد الله بن أبي السرح (هو أخ لعثمان من الرضاعة ، وكان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح ) . وأول من كتب له بالمدينة : أبي بن كعب ، وكتب له قبل زيد بن ثابت . ومن كتاب الوحي أيضا : ثابت بن قيس ، وأبو سفيان وابناه : معاوية ، ويزيد ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص ، وعامر بن فهيرة ، والعلاء بن الحضرمي ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وحذيفة بن اليمان ، وحويطب بن عبد العزى )( الإصابة : ج2/ ص316. ). وكثير غيرهم .
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - :
انتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، والقرآن كله كان محفوظا في الصدور ، ومكتوبا في السطور ، إلا أنه كان متفرقا ، غير مجموع بين دفتين ، وأول من جمعه بين دفتين في مصحف واحد بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو : أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – بإشارة من عمر – رضي الله عنه - ، لما استحر ( أي : اشتد ) القتل بالقراء يوم اليمامة ، في زمن خلافته ، في أواخر العام الحادي عشر للهجرة ، فخشي عمر – رضي الله عنه – أن يتكرر مثل هذا في المستقبل ، وقد يكون عند من يستشهد منهم شيء من القرآن لا يحفظه غيره ، وليس ببعيد أن يفقد مع استشهادهم قطع كتب عليها شيء من القرآن بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وقد يكون ما كتب في هذه القطع لا يحفظه إلا القراء الذين استشهدوا ، وبذلك يضيع شيء من القرآن . فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف متماثلة المقدار ، ثم يجعلها بين دفتين حتى يمكن صيانتها من الضياع . فندبا زيد بن ثابت – رضي الله عنه – إلى ذلك ، فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد ، يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله السباق ، أن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – قال : ( أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - عنده ، قال أبو بكر : - رضي الله عنه - : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن .
فقلت لعمر : كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ..؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر .
قال أبو بكر : إنك شاب عاقل ، ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفني نقل حبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ، فقلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ..؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر . ....فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع ، والأكتاف ، والعسب ، وصدور الرجال ، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري .. لم أجدها مع غيره : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. الآيتين ) فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر – رضي الله عنها - )( فتح الباري : ج6/ ص 225-226 ) . وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان ، فقد قال أبو بكر لعمر ولزيد : اقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ) (الإتقان : ج1/ ص 165 ).
فهذه الرواية تدل دلالة واضحة على أنهم ما كانوا يكتبون بمجرد وجدان شيء من كتاب الله مكتوبا ، حتى يشهد به من تلقاه سماعا ، زيادة في الاحتياط .
قال ابن ححر : وكان المراد بالشاهدين : شاهد الحفظ ، وشاهد الكتابة .
وقال السخاوي : المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، والمراد : أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن(الإتقان : ج1/ ص 167. ) .
فإن قيل : كان زيد حافظا للقرآن ، وجامعا له ، فما وجه تتبعه المذكورات ..؟
والجواب :- إنه كان يستكمل وجوه قراءاته ، التي ليست عنده ، وكذا نظره في المكتوبات التي قد عرف كتابتها ، وتيقن أمرها ، فلا بد من النظر فيها ، وإن كان حافظا ، ليستظهر بذلك وليعلم هل منها قراءة غير قراءته أم لا ، وإذا استند الحافظ عند الكتابة إلى أصل معتمد عليه كان آكد وأثبت في ضبط المحفوظ. جاء في إرشاد القراء والكاتبين : ( إن زيدا كتب القرآن كله بجميع أجزائه وأوجهه المعبر عنها بالأحرف السبعة الواردة في حديث : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ) . (تاريخ القرآن ، للكردي : ص 44. ) .
وقد يتساءل سائل : لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر – رضي الله عنهما – الناس أن ينسخوا مصاحف مما كتبه زيد بن ثابت ..؟ ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على أن يكون لدى كل واحد منهم ، أو لدى بعضهم على الأقل نسخة من هذه الصحف التي تتضمن كتاب الله ..؟
فيجاب : إن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يجمع القرآن لحدوث خلل في قراءته ، وإنما جمعه خوفا من ذهاب حملته باستشهادهم في الغزوات ، وكان جمعه له بالأحرف السبعة ، والناس يقرءون بها إلى زمن عثمان – رضي الله عنه - ، فلا يختلف مصحف أبي بكر عما يقرؤه الناس ويحفظونه ، فلا داعي إذن لحمل الناس على مصحفه ..
أما عثمان : فإنه لم يجمع القرآن إلا بعد أن رأى اختلاف الناس في قراءته ، حتى أن بعضهم كان يقول للبعض الآخر : إن قراءتي خير من قراءتك ، وكان جمعه له بحرف واحد وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداءً ، وترك الأحرف الستة الباقية ، فكان من الواجب حمل الناس على اتباع مصحفه ، وعلى قراءته بحرف واحد فقط ، قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ، وقد كان لزيد بن ثابت – رضي الله عنه – مؤهلات خاصة رشحته للقيام بهذا العمل ، منها : -
1- أن زيد بن ثابت كان من كتاب الوحي بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم
2- كان من حفظة القرآن ، وشهد العرضة الأخيرة .
3- شبابه وقوته ، حتى لا تفتر عزيمته ، أو يضعف أمام هذا العمل الذي يحتاج إلى جهد وصبر
4- رجاحة عقله وفطانته ، حتى يكون عمله متكاملا بعيدا عن أي خلل أو نقص .
5- أمانته وتقواه ، حتى يكون بعيدا عن الريبة والشك .. وقد تكون هذه الصفات موجودة في كثير من حفظة القرآن ، ولكنها قد لا تكون مجتمعة في واحد منهم كما اجتمعت في شخصية زيد بن ثابت – رضي الله عنه - ، فأهلته للقيام بهذا العمل ، فقام بهذه المهمة في صحف أبي بكر ، ومصحف عثمان – رضي الله عنهم جميعا - ، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
مزايا جمع أبي بكر :
لجمع القرآن في عهد أبي كر مزايا عديدة منها : -
1- البحث عن القطع التي كتب بها القرآن من قبل وجمعها قبل ضياع شيء منها أو تآكلها ، وتجديد كتابتها في صحف مجتمعة متساوية المقدار ، وفي هذا ضمان وصيانة للقرآن ، بحفظه في السطور بجانب حفظه في الصدور .
2- اتصال السند الكتابي ، وتجلى ذلك بالأخذ عن الصحف التي كتبت بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وذلك كاتصال السند المتواتر في الرواية ، فتكون كتابة أبي بكر بمثابة الطبقة الثانية من الشيوخ ، وكتابة عثمان بمثابة الطبقة الثالثة ، وفي هذا زيادة في التوثيق والاحتياط بشأن القرآن وضبطه .
3- اقتصر في هذا الجمع على ما لم تنسخ تلاوته – عند القائلين بنسخ التلاوة - ، وجرد من كل ما ليس بقرآن .
4- لم يكتب فيها إلا ما اجمع الصحابة على أنه قرآن ، وتواترت روايته ، فقد جاءهم عمر - رضي الله عنه – بآية الرجم فلم يكتبوها مع شهادة عمر بها ، ورؤيتهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يرجم ، ومع معرفتهم بأنها من فرائض الله ، إلا أنهم لم يكتبوها لأن عمر – رضي الله عنه – جاء بها وحده . (الإتقان : ج1/ ص 58. )
5- رتبت الآيات دون السور ، ثم جمعت هذه الصحف بين دفتين (المدخل لدراسة القرآن الكريم : ص 273.). هذه بعض المزايا التي تمتعت بها صحف أبي بكر ، والتي جعلت الصحابة – رضوان الله عليهم – يلهجون بالثناء على أبي بكر – رضي الله عنه – بجمعه القرآن ، وحفظه من الضياع
قال علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - : - ( أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر ، هو أول من جمع كتاب الله .. ) (مناهل العرفان : ج1/ ص253. والمدخل لدراسة القرآن الكريم : ص 273. )
جمع القرآن في عهد عثمان – رضي الله عنه وأرضاه –
إذا كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – أول مجدد لأمر الإسلام بأعماله الحاسمة ، ومواقفه الخالدة في أحداث الردة ، فإن عثمان – رضي الله عنه – أول مصلح في الإسلام قام بأعظم عمل قلد به الأمة الإسلامية أجلَّ المنن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بجمعه القرآن الكريم على حرف واحد ، وتوحيد المصاحف ، وجمع كلمة الأمة على نص موحد لدستورها ، المهيمن على أنحاء حياتها ، ما تعاور عليها الليل والنهار ، وكرت بها السنون والأحقاب . روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - : _ ( أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : ياأمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها اليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم .وفي رواية أخرى للبخاري : - إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن ، فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ..) (صحيح البخاري : ج6/ ص 99. ) لقد قيض الله تعالى الخليفة الثالث عثمان -رضي الله عنه – بإجماع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – للقضاء على هذه الفتنة ، وجمع الناس على مصحف واحد ، وكان ذلك في سنة ( 25 هـ) في السنة الثانية أو الثالثة من خلافته .
الفرق بين جمع عثمان وبين جمع أبي بكر – رضي الله عنهما -
هناك بعض الفروق بين جمع عثمان وجمع أبي بكر منها : -
1- تقدم أن أبابكر جمع القرآن بإشارة من عمر – رضي الله عنه - ، وسببه الخوف من ضياع القرآن باستشهاد القراء في الغزوات والمواطن … أما في خلافة عثمان – رضي الله عنه – فقد كثر اختلاف الناس في قراءة القرآن ، فخشي عثمان عاقبة هذا الأمر الخطير ، وقام بجمع القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة ، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداء ، وترك الأحرف الستة الباقية حرصا منه على جمع المسلمين على مصحف واحد في حرف واحد ، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف لمصحفه الذي جمعه أن يحرقه ، فأطاعوه واستصوبوا رأيه . فالمصحف العثماني لم يجمع إلا بحرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن وهو : حرف قريش وأما القراءات المعروفة الآن جميعها ، فهي في حدود ذلك الحرف الواحد فقط ، وأما الأحرف الستة الباقية فقد اندرست معرفتها بتاتا من الأمة .
2- إن الصديق أبابكر أمر بكتابة نسخة واحدة لتبقى في دار الخلافة مرجعا للمسلمين ، أما عثمان فأمر بكتابة بضعة نسخ ، ووزعها على الأمصار الإسلامية ، وأرسل مع كل نسخة قارئا حافظا.
3- حمع أبي بكر للقرآن كان نقلا لما كان مفرقا في الرقاع وغيرها ، وجمعها بين دفتين ، أما جمع عثمان فكان نسخا للمصحف الذي جمعه أبو بكر ، مع الاقتصار على حرف واحد ، وهو حرف قريش ، بعد زوال الضرورة التي استدعت قراءته بالأحرف السبعة(مناهل العرفان : ج1/ ص 262.) .
4- كان جمع عثمان فيه ترتيب للسور كما هو مكتوب الآن في المصاحف التي بين أيدينا ..
فإن قيل : - لم لم يحرق عثمان – رضي الله عنه – الصحف البكرية التي عند حفصة ، كما أحرق غيرها من مصاحف الأفراد ..؟
ويجاب : - لأن تلك الصحف كانت لها صفة رسمية ، وانعقد عليها الإجماع ، وهي أصل المصحف العثماني الذي انتقلت اليه الصفة الرسمية ، فكان من الخير أن يبقيها حتى يتم ذيوع هذا المصحف بين عامة المسلمين وخاصتهم ، ويأخذ مكانه في مدارساتهم ، وتعلمهم ، وتعليمهم ، ولتقوم الحجة بتلك الصحف على من تحدثه نفسه بشق عصا الطاعة ، ورجع الأمة إلى الخلاف
جاء في كلام – بدر الدين العيني - :فإن قيل : فما قصد عثمان بإحضار الصحف من بيت حفصة ، وقد كان زيد بن ثابت ومن أضيف إليه – ليعاونه – من حفاظها …؟
قيل : - الغرض من ذلك سد باب القالة ، ولئلا يزعم زاعم أن في الصحف قرآنا لم يكتب ، ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئا مما لم يقرأ به فينكره ، فالصحف شاهدة لجميع ما كتبوه ، ولذلك عندما انتهى هذا الدور ، بمرور عهد الخلافة العثمانية ، وعهد خلافة علي – كرم الله وجهه – وقام بالأمر معاوية – رضي الله عنه - ، طلب – مروان بن الحكم - ، وكان واليا على المدينة من قبل معاوية – هذه الصحف فغسلها .
عدد المصاحف العثمانية : المصاحف : جمع مصحف ، زنة اسم المفعول ، من أصحفه أي : جمع فيه الصحف ، والصحيفة : قطعة من الجلد أو غيره يكتب فيها ، وقد يقال مصحف – بكسر الميم - .( منهج الفرقان : ص 113 ) وفي الاصطلاح : صار لفظ المصحف علما على ما يجمع فيه القرآن كله ، وقد عرف اسم المصحف منذ عهد الصديق – رضي الله عنه - ، إلا أن ما كتب في عهده اشتهر لدى العلماء الباحثين باسم الصحف ، أما ما كتب في عهد الخليفة عثمان – رضي الله عنه – فقد اشتهر باسم المصحف . وقد اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي فرقها عثمان في الآفاق ، فقيل : إنها أربعة ، وهو الذي اتفق عليه أكثر العلماء ، وقيل : إنها خمسة ، وقيل : إنها ستة ، وقيل : سبعة ، وقيل : ثمانية . (تاريخ القرآن : ص 76.)
قال الحافظ في الفتح : - ( اختلفوا في عدد المصاحف التي أرسل بها غثمان إلى الآفاق ، فالمشهور أنها خمسة . وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف ، من طريق حمزة الزيات ، قال : أرسل عثمان أربعة مصاحف ، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف ، فوقع عند رجل من مراد ، فبقي حتى كتبت عليه مصحفي . قال ابن أبي داود : سمعت أبا حاتم السجستاني يقول : كتبت سبعة مصاحف إلى مكة ، والشام ، واليمن ، وإلى البحرين ، وإلى الكوفة ، وحبس بالمدينة واحدا ..) (فتح الباري : ج9/ ص 16.)
ونرجح بأن عثمان – رضي الله عنه – قد أرسل بنسخة من المصحف إلى كل قطر فتحه المسلمون آنذاك ، ويدل على ذلك العقل والنقل ..
أما العقل : فإن الغرض من إرسال المصاحف إلى الأمصار هو القضاء على الفتنة التي كانت قائمة حينئذ بسبب اختلاف المسلمين في القراءة ، والمنع من حدوث مثلها مرة أخرى في أقطار المسلمين ، وهذا لا يتحقق إلا بإرسال المصاحف إلى جميع الأمصار .
أما النقل : - فهو حديث أنس الذي منه : ( وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا .)( فتح الباري : ج9/ ص 21.) . وكلمة أفق تدل بعمومها على أنه أرسل المصاحف إلى جميع الأمصار لا إلى بعضها دون البعض الآخر ، وكتبت بالخط الكوفي ، وبغير نقط ولا شكل ، ولم يكن فيها علامات للأجزاء والأحزاب ونحوها . وبعث – رضي الله عنه – مع كل مصحف من يرشد الناس إلى قراءته ، بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر .. فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكي ، والمغيرة ابن شهاب مع المصحف الشامي ، وأبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الكوفي ، وعامر بن قيس مع المصحف البصري ، وأمر زيدبن ثابت أن يقرئ الناس بالمصحف المدني
الشبه الواردة على جمع القرآن …. وتفنيدها
تمسك بعض الطاعنين على جمع القرآن بشبه صورتها لهم أوهامهم ، وسنورد بعضها ، ونتبعها بالنقد والرد ..
أولا : - قالوا : كيف يكون جمع القرآن على ملأ من الصحابة واتفاقهم ، مع كراهية عبد الله بن مسعود لتولي زيد بن ثابت نسخ المصاحف ، وقوله : ( يا معشر المسلمين : أعزل عن نسخ المصاحف ، ويتولاه رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر – يريد زيد بن ثابت - ، فهذا يدل على أنه لم يكن موافقا على هذا الجمع …!؟
ويجاب : - بأن قول ابن مسعود هذا لا يفيد إلا أنه كان يرى أنه أحق بالتقدم في هذا الشأن عن زيد بن ثابت ، رجاء زيادة المثوبة في جمع القرآن ، ولم يبدُ منه ما يدل على عدم الموافقة على جمع القرآن ، ولا شك أنه بعد زوال الغضب عنه ، عرف حسن اختيار عثمان – رضي الله عنه – ومن معه من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ووافق على اختيارهم ، وترك الخلاف . ولم يكن اختيار زيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان ، إلا لأنه كان أحفظ للقرآن ، ولما اجتمع به من الصفات التي تؤهله لهذا العمل الجليل ، أنظر إلى قول أبي بكر : - ( إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) فقد وصفه في هذه الجمل بأربعة أوصاف ، وهي التي يجب توافرها فيمن يعهد إليه القيام بهذا العمل الجليل الجسيم ، والأمر الخطير ، وهي : الشباب المقتضي للقوة والصبر والجَلَد ، والعقل : الذي هو جماع الفضائل والأمانة ، وعدم التهمة ، وهي مجمع مكارم الدين والدنيا ، وكتابة الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وبها يتم التوثيق والاطمئنان . ومع ذلك فقد ضم إليه عثمان – رضي الله عنه – ثلاثة من أوثق القراء وأعلمهم ، وهذه المزايا مجتمعة لا تقتضي أفضلية زيد على عبد الله بن مسعود ، ولا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وإنما تقتضي أهليته التامة لما عُهد إليه … )( منهج الفرقان : ص 117-118.) .
ثانيا : - قيل : إن القرآن قد زِيد فيه ما ليس منه ، يدل على ذلك ما ورد أن عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ...... وفي رواية : كان يحك المعوذتين من مصاحفه (مسند الإمام أحمد : ج5/ ص 129-130. ) وعلى ذلك فيكون القرآن قد زيد فيه ما ليس منه ، وهو : المعوذتان اللتان لم يكتبهما ابن مسعود في مصحفه ، بل ورد أنه أنكر كونهما من كتاب الله تعالى .
ويجاب عن ذلك بوجوه .. : -
1- لا نسلم بصحة تلك الروايات عن عبد الله بن مسعود ، فلا يعول عليها ، بل ذهب الإمام النووي وابن حزم ،والفخر الرازي ، إلى أن النقل عن ابن مسعود من إنكار المعوذتين كذب باطل . إلا أن الحافظ ابن حجر عقب على ذلك بقوله : - ( والطعن في الروايات الصحيحة بغير سند لا يقبل بل الرواية صحيحة ، والتأويل محتمل ..) (فتح الباري : ج8/ ص 615 )
وثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : - ( ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ، قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ..) (شرح النووي على صحيح مسلم : ج6/ ص 96. ) .
2- يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة ، كان قبل علمه بذلك ، فلما تبين له قرآنيتها بعد ذلك آمن بأنها من القرآن ، لأن قراءات القراء ( عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ) عن ابن مسعود ، ثبت فيها المعوذتان والفاتحة ، وقصارى ما نقل عنه أنه لم يكتبها في مصحفه ، وهذا لا يدل على إنكارها (مناهل العرفان : ج1/ ص 276. ) .
قال ابن قتيبة : - ( وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن – معاذ الله – ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان ، والزيادة والنقصان ، ورأى أن ذلك في سورة الحمد لقصرها ، ووجوب تعلمها على كل أحد ..) (تأويل مشكل القرآن : ص 33. ) . إذن لم يكتب ابن مسعود الفاتحة في مصحفه لوضوح أنها من القرآن ، ووجوب تعلمها على كل مسلم ، ومؤدٍ للصلاة لذا لم يخف عليها من الشك والنسيان ، والزيادة والنقصان .
ونقل الإمام النووي عن المازري قوله : ( ويحتمل ما روي من إسقاط المعوذتين من مصحف ابن مسعود ، أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن ، وكتب ما سواهما وتركها لشهرتها عنده وعند الناس ..) (شرح النووي على صحيح مسلم : ج6/ ص 109 ) .
3-على فرض صحة إنكار ابن مسعود قرآنيتها ، فهي رواية آحاد عن ابن مسعود ، وتعارض القطعي الثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ونقله الصحابة ، وهو كونها من القرآن
4- وعلى فرض صحة ما روي عن ابن مسعود كذلك ، فمخالفته غير قادحة في العلم والقطع بكونها من القرآن ، لأنه ليس المعتبر في العلم بصحة النقل ، والقطع على ثبوته أن لا يخالف فيه مخالف ، وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم يثبت بهم التواتر ، وتقوم بهم الحجة . ثالثا : - هناك شبهة ارتفعت قديما إلى أدمغة المنحرفين ، فأطالوا رِشاءَها ، وتَزَيَّد فيها آخرهم عن أولهم ، وهي في الواقع لا تقوم على أساس من العلم ، ولا تعتمد على نظر من العقل .. ذلك أن المنحرفين نقلوا عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه أنكر أشد الإنكار على عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ، وأن يحرق ما سواه ، وهذا النكير الذي زعموه كان من ابن مسعود ، لم يظهر له أثر في الوجود إلا بعد أن لعبت وساوس – الفتنة السبئية – بالأفكار في أواخر عهد عثمان – رضي الله عنه - ، وعبثت الأهواء بالقلوب ، فتبلبلت العقول ، وغلب الغوغاء على أهل الرأي ، فقادوا اليهم الفتنة السبئية الشوهاء ، بخطام الهوى والإفساد ، وإلا فليقل لنا أولئك المفتونون أين كان – ابن مسعود – يوم الجمع الأول في خلافة الصديق – رضي الله عنه - ؟ وأين كان في خلافة عمر – رضي الله عنه -.؟ والصحف التي جمعها زيد بن ثابت وعزل هو عنها ، انتقلت إلى عمر بعد أبي بكر ، هل سمع الناس هذه الضجة التي نسبوها إلى هذا الصحابي الجليل طوال عهدي الخليفتين : الصديق ، والفاروق ..؟ وأحب أن أنبه القارىء الفطن على أن زيد بن ثابت تولى جمع القرآن في خلافة أبي بكر بأمره ، واقتراح عمر ، وإلحاحهما ، والصحابة كثرة متوافرة العدد ، وفيهم المئون من الحفاظ للقرآن ، والخليفة الأول ووزيره القوي الأمين عمر بن الخطاب ، وجميع من شهد الجمع من المهاجرين والأنصار كانوا يرون – عبد الله بن مسعود – يروح ويغدو بين المسلمين ، واستقر أمرهم على إسناد هذا العبء الخطير إلى زيد بن ثابت ، فلم يرتفع صوت الإنكار على هذا الإختيار الموفق الرشيد . ورشح الخليفة زيدا لهذا المنصب الجليل بشهادته العظمى ، وذكر له من الصفات ما يميزه عن غيره في مهمته ، وقام – زيد – بمهمته خير قيام ، بعد أن حاول أشد المحاولة التخلص منها ، فلم يزد ذلك الخليفة ووزيره إلا إصرارا وإلحاحا وتصميما على اختياره ، دون العدول عنه إلى غيره ، وكانا يرعيانه رعاية إرشاد ، والأمة من ورائهم . .. فهل عرف التاريخ أن أحدا من الناس سواء أكان – عبد الله بن مسعود - أم غيره ، ارتفع له صوت بالإنكار على اختيار أبي بكر وعمر لزيد بن ثابت جامعا للقرآن في الصحف الأولى …؟ وفي الأمة من أفذاذ التاريخ علما وعملا ، وفضلا ، وجهرا بالحق .. العدد المتواتر .. ؟ ولو كان الأمر مما يتوجه إليه بالإنكار لكان وقت الجمع الأول في خلافة الصديق ، ووزارة عمر ، أصح الأوقات للإنكار ، ولكان عبد الله بن مسعود وأقرانه من حفظة القرآن ، أجدر الناس برفع الصوت بهذا الإنكار في ذلك الوقت الصالح للنظر والقبول ، ولكننا لم نعثر في طوايا ما راجعناه للبحث من أصول ، ولا فيما قرأنا مما كتبه الباحثون من القدماء والمحدثين ، على ما يفيد وقوع شيئ من الإنكار إطلاقا ، فالباحث مطمئن أشد الاطمئنان إلى أن هذه الضجة لم تظهر إلا بعد أن تولى عثمان الخلافة ، وبعد أن عزل – ابن مسعود – عن الكوفة ، وتولاها – الوليد بن عقبة - ، بل إنها لم تظهر إلا بعد استفحال الشر السبئي ، وظهور قرن الشيطان في آخر عهد عثمان – رضي الله عنه - .
والباحث يشك أشد الشك في صدور مثل هذا الإنكار من – ابن مسعود - ، لأنه في عقله ، وعلمه ، وفضله ، ومكانه في الإسلام ، أكبر من أن يصدر منه هذا الذي زعموه فيه ، وليست المسألة مسألة عزل ابن مسعود عن نسخ المصاحف وتوليتها زيدا ، ولكن المسألة مسألة عاصفة من عواصف الفتنة العمياء التي أثارها السبئيون في المجتمع المضطرب على إمامه العادل ، وخليفته الراشد . وعثمان – رضي الله عنه – في ثقته بزيد ، مستن سنة الشيخين من قبل : أبو بكر ، وعمر ، والشيخان قد اختارا زيدا على مسمع الأمة وبصرها ، فلم يسمعا فيه همسا … والأمة التي أنكرت على الصديق أول الأمر استمرار إمارة – أسامة بن زيد – [على جيش أعده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعقد لأسامة لواء قيادته ] – لحداثة سنه ، فردها حزم الصديق ، لا يمكن أن تسكن عن الإنكار على اختيار رجل وُسِّد إليه جمع دستورها الذي عليه قوام حياتها ، لو رأت فيه أدنى شبهة ، أو رأت غيره أقوم بهذا الأمر منه .
رابعا : - ومن الشبه قولهم : إن القرآن نقص منه ما كان بعض الصحابة يكتبه في مصحفه ، وذلك مثل ما نقل عن – أبي بن كعب – أنه كتب في مصحفه سورتين تسميان سورتي ( الخلع ، والحفد ) كان يقنت بهما ، وهما : - ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ، ونتوب اليك ، ونثني عليك الخير كله ، نشكرك ولا نكفرك ، ونخلع كل من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، إن عذابك الجد بالكفار ملحق …) فهذه الرواية بحسب ظاهرها تدل على أن القرآن لم يجمع كله ، وأنه قد حذف منه بعض سور وآيات
ويجاب عن ذلك بوجهين .. : -
1- لا نسلم أنهما من القرآن ، لأن إثبات أبي بن كعب لهما في المصحف لا يستلزم كونهما من القرآن ، كما أن القنوت بهما منه في الصلاة لا يفيد ذلك ، لأننا قد علمنا مما تقدم أن المصاحف الأول لم تكن قاصرة على القرآن ، بل كان بعضها مشتملا على بعض تفسيرات وتأويلات ، (( مثل : قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. فكتب بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة : أيمانهما .. لبيان ان القطع يكون في اليد اليمنى حسب تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم - فاعتبرت هذه الزيادة – أيمانهما - قراءة شاذة يُؤخذ بها في تفسير الآية ، ولا يقرأ بها .. أي أن القارىء إذا قرأ بها في الصلاة ..تبطل الصلاة )) وعلى منسوخ التلاوة ، وأدعية ، فكان الجمع في عهدي أبي بكر وعثمان خاصا بالقرآن ، مع تجريد المصاحف والصحف مما ليس بقرآن .
2- وعلى فرض أن أُبَيا أثبتهما في المصحف على أنهما من القرآن فهو خبر آحاد ، لا تقوم به الحجة في إثبات القرآن ، لأن العمدة فيه النقل المتواتر المفيد للقطع ، على أن ذلك لم يصح عنه ، وإنما الذي روي عنه أنه أثبته في مصحفه ، وقد أثبت في مصحفه ما ليس قرآنا من دعاء وتأويل . ومما يحسن ملاحظته : أن كل رواية آحادية تفيد إنكار شيء من القرآن الذي ثبت بالتواتر لاتقبل ، لأن الآحادي لا يعارض القطعي ، كما أن كل رواية آحادية لا تقبل في إثبات شيء من القرآن ، لأن العمدة في ثبوت التواتر فلا يقبل فيه رواية الآحاد ، ولو نظرنا إلى شبه الطاعنين في مجملها نجدها من هذا القبيل (منهج الفرقان : ص 121 .)
خامسا : - ومن الشبه دعواهم أن الحجاج لما قام بنُصرة بني أمية حذف من القرآن ما قد نزل فيهم ، وزاد فيه أشياء ليست منه ، وكتب ستة مصاحف جديدة زعم أنه وجه بها إلى : مصر ، والشام ، والمدينة ، والبصرة ، تزلفا إلى بني أمية …
ويجاب عن هذه الدعوى : - بأنه لا وجود لهذه الدعوى إلا في خيال قائلها ، إذ لم ينقل في تاريخ من التواريخ ما يشير إلى ذلك ، وكيف يكون ذلك والتاريخ قد أحصى على الحجاج كل أفعاله وأقواله ، فكيف يغفل أمرا عظيما له خطره ، ويعظم أثره ، ولا يدونه بين صفحاته ..؟ ولكن الهدامين الأولين لما لم يجدوا سبيلا إلى الإسلام نفسه جاءوه من طريق رجاله ، فشطرهم شطرين ، جعلوا نصيب أحدهما الطعن والقدح ، وجعلوا نصيب الآخر التنويه والمدح ، ثم غلوا في كلا الشقين حتى خرجوا عن الذوق السليم ، ثم ربطوا عملهم بالمعيشة والمصلحة والنفوذ ، وتتابعت القرون ، وألفوا ذلك ، ومَرَدُوا عليه ، ومهروا فيه ، وكان من مهارتهم أن استطاعوا ترويج نحلتهم بين أنسال حملة الرسالة ، وهم العرب ، فكان الحجاج بذلك واحدا من رجالات الإسلام الذين وقعوا بين فكي السلب والإيجاب ، ومما سهل ذلك على الشعوبيين : أن الحجاج حكم العراق مدة عشرين عاما ، قضى في أثنائها على كل فتنة ، ووطد الأمن ، ووسع رقعة الدولة الإسلامية بالفتوحات ، فوضع نفسه في موقف يكثر فيه الحاسدون ، وكل حاسد عدو ، وليس كل عدو بحاسد كما يقول الجاحظ .. فمن كان في موضع الحجاج ( لا ينفك من متأول ناقم ، ومن محكوم عليه ساخط ، ومن معزول عن الحكم زار ، ومن معجب برأيه ، ذي خَطَل في بيانه ، مولع بتهجين الصواب ، وبالاعتراض على التدبير ، حتى كأنه رائد لجميع الأمة ، ووكيل لسكان جميع المملكة ، يضع نفسه في مواضع الرقباء ، وفي مواضع التصفح على الخلفاء والوزراء ….إلى أن يقول : ومن لئيم أفسده الإحسان ، ومن صاحب فتنة ، خامل في الجماعة ، رئيس في الفرقة ، نعاق في الهرج ، قد أقصاه عز السلطان ، وأذله الحكم بالحق ، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع ، ولا يتشفى بغير الإرجاف ، ولا يستريح إلا إلى الأماني ، ولا يأنس إلا بكل مرجف كذاب ، ومفتون مرتاب ..) (رسائل الجاحظ : رسالة مناقب الترك : ج3/ ص164. )إن أصحاب السلب والإيجاب من الشعوبيين عمدوا إلى وضع روايات سلبية لطمس معالم الصورة الحقيقية للحجاج ، ولكنهم أحسوا في أثناء ذلك أن رواياتهم قد يكتشف زيفها لغلوهم فيها ، فوضعوا على ألسنة بعض رواة السلب روايات إيجابية تكشف عن وجه آخر للحجاج ، ليوقعوا الباحث في حيرة أي هذه الروايات يأخذ وأيها يدع ، ولكن الباحث يستطيع الخروج من حيرته بالوقوف من هذه الروايات موقف الناقد البصير بأبعاد الفرق الإسلامية ، ومبادئها ، وأهدافها ، متكئا على منهج علماء الحديث .. إذ اتضح باتباع هذا المنهج ، أن جل رواة هذه الروايات السلبية ينتمون إلى فرق تُكَفِّر خلفاء الدولة الأموية ، وولاتها لا سيما الحجاج … ؟؟!!
إن الدولة الأموية التي نالها نصيب كبير من الطعن قديما على أيدي ربائب السبئية ، وحديثا على أيدي بعض المستشرقين وذيولهم ، لأنها الدولة التي استطاعت أن تعيد الوحدة الإسلامية ، وتستأنف الفتوحات ، فتغزو أوروبا ، وتنتزع إسبانيا والبرتغال ، وتزحف إلى أعماق أوروبا ، بينما عجزت كل القوى العربية الأخرى عن تجميع كلمة العرب حولها ، أو إقامة دولة حقيقية ، أو أن تشكل مزاحمة جدية على القيادة لبني أمية ما يقرب من قرن كامل ، ورغم أنه ما من دولة في تاريخ العالم كله شهدت من الثورات والخروج مثل ما شهدته دولة الأمويين ، ولكنها أثبتت كفاءة غير مسبوقة ولا ملحوقة في القدرة على الحكم ، وفشل بنو هاشم في جمع كلمة العرب تحت رايتهم ، حتى أسلموا زمامهم لفارسي وأَمَّروه ، أو هو ادعى أنهم أمَّروه أن لا يبقي على الأرض عربيا جاوز الشبر ..؟ ولما سقطت دولة بني أمية في النهاية تحت ضربات الفرس الذين تستروا بالعباسيين ، هرب أموي واحد في مغامرة أسطورية حتى نزل بشاطئ إسبانيا ،وحيدا ، شريدا ، طريدا ، فأقام مجد العرب والمسلمين بالأندلس .. لحقبة تعد من أزهى حقب المسلمين ..
أما الحجاج : فقد غفل الشعوبيون عن صورة الحجاج الإيجابية ، فقد ذكر ابن كثير أن الحجاج سمع الحديث النبوي من ابن عباس ، وروى عن الصحابي الجليل أنس بن مالك ، وسمرة بن جندب ، وعبد الملك بن مروان ، وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، وروى عن ثابت البناني ، وحميد الطويل ، ومالك بن دينار ، وجواد بن مجالد ، وقتيبة بن مسلم ، وسعيد بن أبي عروبة . أما ما صنعه الحجاج في القرآن الكريم : من نَقطه ، وضبطه ، فأمر شائع معروف ، إذ عمل على حفظه من اللحن والتصحيف . وللحجاج قراءة متميزة للقرآن لم تصل الينا كاملة ، لأن الرواة لم يريدوا إظهار صورة الحجاج الحقيقية . قال الزركشي : - ( وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ( ربع ) القرآن ، فالأول إلى آخر الأنعام ، والثاني إلى ( وليتلطف ) في سورة الكهف ، والثالث إلى آخر سورة المؤمن ، والرابع إلى آخر القرآن ) والحجاج هو الذي وضع الأعشار ، وهو الذي قسم القرآن إلى أنصاف وأسباع .. إن صورة الحجاج رسمت بأيدي أعدائه من الشعوبيين ، وأصحاب المذاهب المفارقة لمذهب الجماعة ، فجاءت مشوهة ، ثم تناولها الباحثون المحدثون فعملوا على طمس معالمها باختيارهم الروايات السلبية ، وتسليط الأضواء عليها دون أدنى محاولة منهم لمعرفة أهواء الرواة الذين نقلوا أخبار الحجاج ، وللتعصب المذهبي والعرقي دور بارز في تشويه صورته ) (الحجاج :زجل الدولة المفترى عليه ، د. محمود الجومرد . وكتاب : الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه ، د. محمود زيادة )
ومن الافتراءات التي ألصقت بالحجاج ما رواه السجستاني الكذوب بسنده أنه غير في مصحف عثمان أحد عشر حرفا .( المصاحف : ج1/ ص49، 50 ، 115. ) وبالرجوع إلى الرواة نجد : أن عبد الله بن أبي داود السجستاني صاحب كتاب المصاحف ( مجروح ، كذبه أبوه ). (ميزان الاعتدال : ج1/ ص43. ) كما أن عباد بن صهيب وهو أحد الرواة ( متروك الحديث ) (المرجع السابق : ج2/ ص 10 . ) . من كل ما سلف نستنتج أن الإسناد غير صحيح ، وبالتالي فحديث السجستاني غير صحيح ، هذا من الناحية العلمية البحتة . أما من حيث الوقائع ، فنستطيع أن نقطع بأن الحجاج لم يفعل شيئا مما أسنده إليه السجستاني فلو أنه تناول المصحف بالتغيير لشاع ذلك في حياته ، ولاستهدف الحجاج لحملات لا مثيل لها من الصحابة والتابعين ، ولكان تحت أيديهم وثيقة دامغة بكفر الحجاج ، ولا يمكن لنا أن نتصور أنهم خافوا بطش الحجاج فسكتوا ، فهذه مسألة من أهم أصول الدين ، ولا يسكت عنها مسلم ، ولو كان السيف مصلتا على عنقه . وإذا فرضنا أن الصحابة والتابعين من سكان العراق خافوا بطش الحجاج ، فكيف يسكت غيرهم من سكان الشام والحجاز …؟ وإذا كان هؤلاء جميعا قد جبنوا من أن يجابهوا الحجاج في هذا الأمر الجلل ، فهل يعقل أن يكونوا قد سكتوا على هذا التحريف بعد وفاته …؟ وإذا كان الصحابة وكبار التابعين قد سكتوا عن ذلك لأي سبب من الأسباب ، فما الذي اسكت الخليفة عن فعلة واليه …؟ وهذه القصة المفتراة على الحجاج ، تلقفها المستشرق ( نولدكة ) ، أما المستشرق ( بيرييه ) فيقرر أن ( يعقوب الكندي المسيحي ) قد شهد أن الأمويين وجدوا في القرآن إشارات جارحة لأسرتهم ، وخاصة بأبي سفيان جدهم ..؟ولهذا أصدر الحجاج أمرا باسم الخليفة عبد الملك بإتلاف النسخ القديمة ، وكتابتها من جديد بعد حذف الفقرات التي تتعرض للأسرة الأموية الحاكمة ، واستبعد ( بيرييه ) أن تكون التهمة التي رمي بها الحجاج على غير أساس …؟ وفي تقديرنا أن هذا المستشرق كان يجدر به أن يعتمد في هذه الرواية على مصدر إسلامي ، بدل أن ينقل لنا عبارة ( يعقوب الكندي المسيحي ) … ولعله أدرك ضعف مركزه في هذا النقل ، فاستبعد أن تكون التهمة على غير أساس ، لأنه لم يستطع إثباتها . والواقع أنها فرية بلا مرية ، فلو أنه جاء بهذا المصحف إشارات جارحة للأسرة الأموية لبقيت هذه الإشارات إلى يوم الناس هذا .. وبما أن المصحف لا يحتوي على شيئ من ذلك ، نستنتج : أن تهمة الكندي المسيحي ومن شايعه ( أمثال يوسف غير الصديق بل الزنديق ) لا أساس لها (الحجاج بن يوسف : د. محمود زيادة ، ص 98-103. وانظر : تاريخ القرآن : ص 103.) .
سادسا : - نقل الألوسي عن بعض غلاة الشيعة أن أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، أسقطوا كثيرا من آيات القرآن وسوره حين جمعوا القرآن ، وقالوا : إن سورة ( لم يكن ) كانت مشتملة على اسم سبعين رجلا من قريش بأنسابهم وآبائهم ، وأن سورة الأحزاب كانت مثل سورة الأنعام ، أسقطوا منها فضائل أهل البيت ، إلى غير ذلك من أوهام وأكاذيب .
ونقول : لقد رد بعض علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية على هذه الإفتراءات ، فقال الطبرسي الشيعي في ( مجمع البيان ) :- ( أما الزيادة في آي القرآن فمجمع على بطلانها ، وأما النقص فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة ، والصحيح خلافه ) ومع كون هذه الشبهة تتعثر في أذيالها نقول : أيها الغلاة : لقد صار الأمر إلى علي – كرم الله وجهه – وقد دانت له الأمصار – غير مصر والشام – والمصاحف التي جمعها عثمان كانت تتلى آناء الليل وأطراف النهار ، أكان يعلم أن القرآن حذف منه شيئا قليلا أو كثيرا ويسكت عليه ..؟ وهو الإمام المعصوم في زعمكم ، ثم صار الأمر إلى ابنه الحسن ، وظلت مصاحف عثمان كما هي ، فكيف يسكتون على حذف ما يخصهم من القرآن ..؟ ولم يرتفع لهم صوت ، ولم نسمع لهم فيه مقال ، مما يدل على أن هذه الشبهة – كسابقتها – لا أساس لها … ) ( منهج الفرقان : ص 125-126.)
وهناك شبهات أخرى لا تستحق المناقشة والاهتمام ، لكونها دعاوى باطلة تفتقد أدنى دليل على صحتها …
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ....... بيناتٍ ، أصحابها أدعياء .
... وما زال القرآن الكريم يطل من عليائه ، ويتحدى كل كذاب أَشِر أن يأتي بمثل أقصر سورة منه .
أسماء القرآن
لقد اختار الله لوحيه أسماء جديدة ،مخالفة لما سمى العرب به كلامهم جملة وتفصيلا ، وليس لفظ - القرآن - هو الاسم الوحيد لهذا الكتاب السماوي ، بل إن لهذا الكتاب فوق هذا الاسم الذي هو أشهر أسمائه ، أربعة أسماء أخرى ، فتتم له بجملتها مع القرآن خمسة أسماء، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى : -
أولها :- لفظ- الفرقان- كما في قوله تعالى :- ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (الفرقان : 1) وهو مصدر - فرق يفرق فرقا وفرقانا- ،ومعناه هنا :الفارق بين الحق والباطل ، أو المفروق به بين الحق والباطل ، والمفرق فيه كذلك بين السور والآيات .
ثانيهما: الكتاب : كما في قوله تعالى :-(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )(الكهف : 1) ، والكتاب في الأصل :مصدر كتب ، تقول :كتب كتابة وكتبا وكتابا ، والمراد به هنا : المكتوب ، أي في اللوح المحفوظ ، أو المكتوب على العباد فرضية قبوله ، والعمل به ، على كل أحد من الثقلين لعجزهم عن الإتيان بمثله ، أو بسورة من مثله
ثالثها:- الذكر، كما في قوله تعالى :-(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر : 9) ، وهو في الأصل مصدر - ذكر - ، والمقصود به هنا : المذكور بالألسنة والقلوب ، المذكور فضله ، وكافة ما له من خصائص جليلة . أو :الذاكر لحقيته مما اختص به من الإعجاز، وبما تضمنه من علم ، وتشريع، وآداب وأخلاق ، الذاكر لفضل وشرف من آمن به ، وخذلان من كفر به رابعها :- التنزيل - كما في قوله تعالى :- (تنزيل من حكيم حميد )(فصلت / 42) وهو في الأصل مصدر نزل - بتشديد الزاي- والمقصود هنا :-المنزل من قبل الله سبحانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم- وأمته من الشرائع والآداب ، ومكارم الأخلاق .. هذه هي أسماء القرآن ، وما يتزيده المتزيدون على هذه الأسماء حتى يبلغون بها نيفا وتسعين ا سما ، منشؤه عدم التمييز بين ماهو اسم للشيء وما هو صفة له . وقد عد الزكشي منها جملة ، وبين اشتقاقها ، وصنف – الحرالي - لأسماء القرآن جزءا ، وأنهى أساميه الى اثنين وتسعين اسما ، ولكن أكثرها غير مشهور ، والمشهور منها ما ذكرناه. (: البرهان في علوم القرآن ، للزركسي : 1: 273. ومنة المنان : إبراهيم خليفة : 25) .
والأوصاف لا تنزل منزلة الأسماء إلا إذا اشتهر بها الموصوف ، وكانت دالة عليه بالأصالة ، قائمة مقام العلم عند حذفه ، فأكثر ما ذكره الحرالي والزركشي وغيرهما أوصاف للقرآن وليست أسماء ، ولا هي كالأسماء لعدم استقلالها في الدلالة عليه ، وقد غلب عليه من أسمائه - القرآن ، والكتاب -قال الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز : [ روعي في تسميته قرآنا : كونه متلوا بالألسن ، كما روعي في تسميته كتابا : كونه مدونا بالأقلام ، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه ، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أنه من حقه العناية بحفظه في موضعين لا موضع واحد ، أعني : أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى )( البقرة : 282) فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه أول مرة ، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب ، حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر ، وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية ، اقتداء بنبيها ، بقي القرآن محفوظا في حرز حريز ،إنجازا لوعد الله الذي تكفل الله بحفظه حيث يقول :( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر: 9) ] (النبأ العظيم : 8. )
تسمية القرآن المكتوب بالمصحف
معنى المصحف وضبطه :- الصحيفة : هي التي يكتب فيها، و الجمع :صحائف وصحف .. قال الأزهري : الصحف جمع صحيفة من النوادر ، وهو أن تجمع فعيلة على فعل ، ومثله سفينة ، وكان قياسها صحائف و سفائن والمصحف : - بضم الميم وكسرها-الجامع للصحف المكتوبة بين دفتين ، فمن ضم الميم جاء على أصله ، و من كسرها فلاستثقاله الضمة
قال الفراء :- (يقال مصحف من أصحف ، أي جمعت فيه الصحف ).( لسان العرب : مادة ( صحف) ولفظ ( المصحف) لم يطلق على القرآن المكتوب إلا في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- .
قال السيوطي : ( أخرج ابن أشته في المصاحف أنهم لما جمعوا القرآن، قال أبو بكر : "التمسوا له اسماً ".فقال بعضهم :" السفر ". قال :" ذلك اسم تسميه اليهود "، فكرهوا ذلك . فقال بعضهم :"المصحف ، فإن الحبشة يسمون مثله المصحف. فكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف ، فالمصحف اسم للصحف المكتوبة المجموعة . ... وحكى المطرفي في تاريخه : لما جمع أبو بكر - رضي الله عنه - القرآن ، قال : سموه ، فقال بعضهم : سموه إنجيلا ، فكرهوه .... وقال بعضهم : سموه السفر ، فكرهوه من يهود - أي بسبب اليهود - ، فقال ابن مسعود : " رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف ". فسموه به...وعلى هذا فالتسمية بالمصحف من عمل الصحابة واجتهادهم .) (البرهان في علوم القرآن ، للزركشي : 1: 281-282.) وتوحي هذه الرواية أن كلمة (مصحف ) حبشية الأصل وليست عربية ، وبذلك قال المستشرق ( برجشتراسر) ، وهو من المستشرقين الذين استولت عليهم الأهواء ، وتملكهم التعصب ، يجتهدون ما وسعهم التَّمَحُّل ، وسترهم العلم ، أن يبرهنوا على أن القرآن من صنع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه متأثر في تأليفه بالتعاليم التي تلقاها من اليهود والنصارى... إلىآخر ماهنالك من أكاذيب وأوهام ، فهم لذلك يتلمسون لبعض الألفاظ أسبابا واهية ليقولوا إنها غير عربية ، وهي مقتبسة من العبرانية أو السريانية أو غير ذلك .
وللرد عليهم نقول : إن هذه اللفظة -مصحف - ، تداولها العرب في جاهليتهم والمسلمون من بعدهم بنفس المعنى الذي قصدته التسمية البكرية .
قال امرؤ القيس
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت كخط زبور في مصاحف رهبان
وقال أبو ذؤيب الهذلي :
فنمنم في صحف كالرياط فيهن إرث كتاب محي
قال لقيط ابن يعمر الإيادي (في قصيدته المشهورة):-
كتاب في الصحيفة من لقيط إلى من في الجزيرة من إياد
كما وردت كلمة الصحف ثماني مرات في القرآن الكريم ( التكوير ، الأعلى ، النجم ، عبس ، طه ، البينة ، المدثر ) ووردت عدة مرات في كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة - رضي الله عنهم أجمعين- مما يجعلنا نؤكد أن الكلمة عربية الأصل في بنيتها وجرسها ، وعرفها العرب واستعملوها في لغتهم قبل أن يسمي سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه- الكتاب الكريم بالمصحف ، ثم ذاع استعمالها وشاع بعد أن أمر سيدنا عثمان - رضي الله عنه وأرضاه - ، بنسخ عدد من المصاحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية.
الفرق بين القرآن والسنة النبوية المطهرة
سبق أن عرفنا أن القرآن الكريم هو :- كلام الله - عز وجل – المعجز ، المنزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – المتعبد بتلاوته ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتحدى بأقصر سورة منه ، المجموع بين دفتي المصحف الشريف ، المفتتح بسورة الفاتحة ، والمختتم بسورة الناس .
أما الحديث فمعناه في اللغة :- ضد القديم ، ويطلق ويراد به كل كلام يتحدث به وينقل ويبلغ الإنسان من جهة السمع ، أو الوحي في يقظته أو منامه ، وبهذا سمي القرآن حديثا ... قال تعالى :- ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني )(الزمر : 23) وقال سبحانه :- (ومن أصدق من الله حديثا )(النساء: 87) ...والحديث كذلك ، هو : الجديد من الأشياء .
والحديث في الاصطلاح:- هو ما أضيف الى النبي - صلى الله عليه وسلم- من قول ، أو فعل أو تقرير ، أو صفة ، فالقول : كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنما الأعمال بالنيات)(صحيح البخاري : حديث : 1: كناب : بدء الوحي . ) والفعل : كقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )( صحيح البخاري : رقم : 631 ) والتقرير : كأن يقر أمرا علمه من أحد الصحابة من قول ، أو فعل ، سواء أكان ذلك في حضرته - صلى الله عليه وسلم- أم في غيبته ثم بلغه ، ومن أمثلته : دعي - عليه السلام- الى أكل ضب فقال : أجد نفسي تعافه ، وسمح لمن أراد أن يأكل بالأكل منه .
والصفة : كما روي من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان دائم البشر ، سهل الخلق ،لين الجانب. (الإحكام في أصول الأحكام : 1: 127)
تعربف السنة :-
السنة في اللغة :-السيرة ، حسنة كانت أو قبيحة ، ففي الحديث :- ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها .ومن سن سنة سيئة … الحديث ) (صحيح مسلم : حديث رقم : 1017 )
أما تعريف السنة في اصطلاح المحد ثين فهي :- كل ما أثر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة خلقية أو خلقية ، أو سيرة …. والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي ..والذي يعنينا في مقامنا هذا هو السنة التي تقابل القرآن الكريم .. والحديث نوعان :-
النوع الأول :- الحديث النبوي ، وهو قسمان :- قسم توقيفي :- وهو الذي تلقى الرسول – صلى الله عليه وسلم – مضمونه من الوحي فبينه للناس بكلامه ......
وقسم توفيقي :- وهو الذي استنبطه الرسول – صلى الله عليه وسلم – من فهمه للقرآن الكريم ، لأنه مبين ، أو استنبطه بالتأمل والاجتهاد ، وهذا القسم الاستنباطي الاجتهادي يقره الوحي إذا كان صوابا ، وإذا وقع فيه خطأ جزئي ، نزل الوحي بما فيه الصواب .
والنوع الثاني : الحديث القدسي: وهو ما يضيفه النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى...أي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه على أنه من كلام الله ، فالرسول راو لكلام الله بلفظ من عنده ، وإذا رواه راو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مسندا إلى الله عز وجل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه ، أو يقول : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، قال الله تعالى ، أو : يقول الله تعالى ... والقدسي نسبة الى القدس ، وهي نسبة تدل على التعظيم ، لأن مادة الكلمة دالة على التنزيه والتطهير في اللغة ، فالتقديس : تنزيه الله تعالى . ...قال تعالى على لسان ملائكته :( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) (البقرة : 30) أي :-نطهر أنفسنا لله ، ومن خلال التعاريف التي ذكرناها للقرآن والحديث القدسي والنبوي ، يمكننا إدراك الفروق بينهما من أوجه متعددة .... وأبرز هذه الفروق :-
1 - القرآن منزل الألفاظ ، أوحي به الى رسول الله بلفظه ، ومن زعم غير ذلك فادعى نزول معانيه لا ألفاظه فقوله باطل ، أما الأحاديث القدسية :فقد اختلفوا في تنزل ألفاظها ، فمن قائل بهذا التنزل ، ومن قائل بعدمه ، وهو ما نختاره . فأما الأحاديث النبوية ، فهي غير منزلة الألفاظ باتفاق .
2 - إن القرآن معجز بلفظه ، وليس شيء من الحديث معجزا بلفظه ، قدسيا كان الحديث أو نبويا ، ومن هنا فانه لا يصح أن يذكر أي جزء من القرآن بمعناه فقط ، بل لا بد من قراءة لفظه ، بخلاف لفظ الحديث فإنه تصح روايته بالمعنى
3 - إن القرآن منقول نقلا متواترا ، وهذا النقل شامل لكل كلمة من كلمات القرآن ، ولبس كذلك الحديث ، قدسيا كان أو نبويا . بل من الحديث ما هو متواتر ومنه ما ليس كذلك ، بل إن نقل معظم الحديث غير متواتر . ومن هنا فإنه يكفر من جحد قرآنية أي كلمة من كلمات القرآن ، بخلاف الحديث فإنه لا يكفر إلا من جحد معلوم التواتر منه ، مما هو معلوم منه بالضرورة ، ككون الظهر أربعا ، وكون الزكاة من المال ربع العشر ونحو ذلك .
4 - إن تواتر القرآن هو تواتر لفظي حتما وواقعا ، بخلاف الحديث ، فقل ما يكون منه متواترا لفظه ، وأغلب ما يكون التواتر فيه ما يرجع الى المعنى فحسب ، بأن تعرف الواقعة لدى العدد الكثير الذي يؤمن تواطؤهم على الكذب ، ولكن يروي كل واحد هذه الواقعة أو تلك بلفظ يختلف عن لفظ الآخر.
5 - إن للقرآن الكريم من الأحكام الخاصة به ما ليس للحديث بقسميه - القدسي والنبوي- : منها ما ذكر في التعريف من : التعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها ، فإن ذلك للقرآن فحسب ، فأما الحديث فلا يجوز أن يقرأ به في الصلاة باتفاق ، ولا أجر على مجرد تلاوته خارج الصلاة ، اللهم إلا بعض الأحاديث التي هي من الأذكار النبوية الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم- كأذكار الصباح والمساء ، وعند دخول البيت والخروج منه ، وما شابه ذلك .... ومن هذه الأحكام ما هو تابع لهذا الحكم ، كحرمة مس المصحف على الحائض والنفساء ، وعلى الجنب عند بعض الأئمة ، بخلاف مس كتاب من كتب الحديث ، فإنه لا يحرم باتفاق ، وكحرمة قراءة القرآن على الحائض والنفساء والجنب كذلك ، بخلاف قراءة الحديث .
6 - القرآن وقع به التحدي والإعجاز ، بخلاف الحديث القدسي فلم يقع به التحدي والإعجاز .( السنة قبل التدوين : محمد عجاج الخطيب : ص22)
وهذه الفروق بين القرآن والحديث القدسي ، إذا كان المراد بالحديث القدسي : مانزل لفظه ومعناه من عند الله - عز وجل- . وأما إذا قلنا إن الحديث القدسي هو :- ما نزل من عند الله بمعناه دون لفظه ، فلا يكون هناك ما يستدعي ذكر هذه الفروق ، وهذا القول هو الأولى بالقبول من سابقه ...قال الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز مرجحا هذا القول :- ( وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا ، لأنه لو كان منزلا بلفظه ، لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني ، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله ، فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه ، وعدم جواز روايته بالمعنى، وحرمة مس المحدث لصحيفته ، ولا قائل بذلك كله . وأيضا فإن القرآن لما كان مقصودا منه مع العمل بمضموته شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه ، والتعبد بتلاوته ، احتيج لإنزال لفظه ، والحديث القدسي لم ينزل للتحدي ، ولا للتعبد، بل لمجرد العمل بما فيه ، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه . فالقول بإنزال لفظه قول لا داعي في النظر إليه ، ولا دليل في الشرع عليه )( مدخل إلى القرآن الكريم : د. محمد عبد الله دراز :118 ) يقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني :( والحكمة في هذا التفريق : أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه ، وكان مظنة التغيير والتبديل ، واختلاف الناس في أصل التشريع ، والتنزيل ..... أما الحديث القدسي والنبوي : فليست ألفاظهما مناط إعجاز ، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم ، تخفيفا على الأمة ، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع ) (مناهل العرفان ، للزرقاني : 1: 51.) ....................... وللحديث بقية
يوسف الصديق في دائرة الضوء – الحلقة الثانية بقلم: د. سامي عطا الجيتاوي
تاريخ النشر : 2020-07-23