قصة (جائع) لمالكة عسال بقلم:د. عواد أبوزينة
تاريخ النشر : 2020-07-20
قصة (جائع) لمالكة عسال
د. عواد أبوزينة. الأردن

بين العنوان والهامش

حين يجمع المبدع بين أكثر من جنس أدبي واحد، فلذلك أكثر من معنى، أول ما يُفهم من ذلك أن ذلك المبدع يملك  ويتمتّع بطاقة إبداعية عالية ومتنوعة الأبعاد، فربما رأى أن لونا واحدا وجنسا أدبيا واحدا يضيق بتلك الطاقة المتدفقة فيتجاوز اللون الفني الواحد، وهناك مبدعون جمعوا بين الكتابة بألوانها المتعددة وبين الرسم والموسيقى مثلا، ومنهم جبرا إبراهيم جبرا وغيره. 

ومن دلالات ذلك أن المبدع يرى أن قاعدة القراء أوسع من أن تهتم بنوع أو لون أو جنس أدبي واحد، فالشعر له قراؤه، وللقصة قراؤها، وللرسم مستمتعون به، وللموسيقى متذوّقوها، وقد لا يجمع قارئ واحد بين ميوله لفنون متعددة، ولأن رسالة المبدع والكاتب واحدة، هي أن تكون حياتنا أجمل وأوفى وأصدق وأفضل فإنه، أي المبدع، يحرص على أن تصل رسالته إلى أكبر عدد من القراء والمتابعين.

ودلالة ثالثة لعناية المبدع بأكثر من جنس أدبي ومن لون واحد هو إحقاق جدلية وتبادلية وتداخل وتمازج بين ألوان الفنون، ومزج بين عناصر الإبداع وتمظهرات الفن، واندياحها بين فن وآخر، فنجد قصة في الشعر ونجد شعرية في السرد ونجد موسيقى وتصويرا ومسرحا وسينما ورسما في القص والسرد.

هكذا هو حال الشاعرة والقاصة والروائية المغربية المتميزة مالكة عسال، فهي شاعرة وقاصة وروائية معروفة في المغرب وفي المنطقة العربية، ولها قراؤها في المشرق العربي.

ليس جديدا على مالكة عسال أن  تلمس الجروح العربية والأحزان والآمال والتطلعات العربية في قصائدها المتألمة المؤلمة، لمسات وأصابع تكتوي بنيران المآسي العربية في فلسطين والعراق وغيرهما نتيجة الغطرسة التي يمارسها الاستكبار مسلحا بالقوة والجبروت، فتسحق الإنسان العربي وتهدم آماله، وتقضي على أحلامه في الخلاص من التبعية والفقر والجهل، والتمتع بخيرات بلاده في أمن وأمان واستقرار، لكن مجتمعاتنا العربية قد ضُربت بقوة في نخاع نسيجها الاجتماعي، وفي منظومة قيمها مما أصاب هذه المجتمعات بتصدعات وضبابية بل إلى عمىً في البصيرة والبصر أحيانا، فلا رؤية ولا خطة للخلاص، ووصل الأمر بالغالبية العظمى من الناس إلى خيبة أمل ويأس من أي تغيير نحو الأحسن، وشاع اعتقاد، نتيجة الخيبات والانهيارات المتلاحقة إلى الركون إلى أن الحاضر خير وأفضل من الآتي، أو اندفع البعض إلى الهروب البدني أو الاجتماعي بطرق مختلفة.  

وفي مقدمة من يلمسون هذه الجراح بشفافية وتأثر الشاعرة والكاتبة مالكة التي لها صولات وجولات في فن الشعر والسرد قصة ورواية. ويكفي أن نطل على قصيدة " أبجدي في حقائب الهلع" لنلمس لمس اليد، ولنرى بالعين ونسمع بالأذن كل أنواع الألم والخيبات التي يكابدها إنساننا العربي المظلوم والمسحوق والمنهوب، وقد أوردتُ القصيدة كاملة حتى لا تتمزق الصورة المتكاملة وأُضعفَ المعنى المراد:
"أبجدي في حقائب الهلع

أوغلُ في أدغال الأبجدية/أشيد من توتها صرحا لا يفنى/بدررها أوشح طنافس الأيام/لتتدلى من أفقي/ نواقيس تجلجل نشيدا/تمطرني بجنات عدن/فأتخير الأشهى/من أتعابي أدفن الأشقى/التهمت الليالي .ألعق سطول الحروف/أرمم الصدوع ببلازما/أعصرها من دمي/حملت سراويل الأيام/أبحث في/جيوبها المثقوبة عن كمادات/يتسربل كل شيء/الحقول الشهية ينخرها الخلل/خلاياي تخربها المساءات/الصباحات/تهوي نحو السفوح الرابضة/في تشنج/يهبط القمر بإحساس معطوب/فتنتفخ تحت جلدي الكآبات/تمدني بقوارير فارغة/بعجاجها ترمي مقلتي/نار العطش تقتل نزعاتي/فيندك الأيك المثمر/أليس لك يا عالم مداخلة؟/بين يدي عمر وقفت أنا والزمن/أبث الشكوى ينصفني/أو يحرق على هامتي غصة الحروف/العيون مغمضة/الآذان صماء/القدر كغرفة المشرحة/بين الحلم والحلم/يخط بالمماليق وعكات/بصرختي يا عمر/أزف إليك مكتوياتي/رصفتها في جوارب عمري نياشين/آل لي أن أبذرها اليوم/في الأحواض فراشات/فصدني! الزمن بحاجز النار/بنعله التعس صفعني.../سؤال انتفض كالضابط:/ما المأمول؟/منبع أغرس فيه طينتي/كي لا تجف مدني/واليابس من الأحلام/في الحقول البئيسة يخضر.../كلمات شاحبة/في كل ثقب دقت المسمار/نحن قلنا الكفاف والعفاف/وقمصان الحروف المطوية في حقائب الهلع؟/ضعها تحت الوسائد تميمة/أبيع نفسي في سوق النخاسة كما تباع الذمم/أم أنتظر مصاص الدماء/يدسني في بطنه حشرة ضارة؟.../بين الضحى والأصيل/يتصاعد الأمل فقاعات/تتمزق ورقة القبول/والكراسي تتخشب جسامتها/أنصفيني أيتها الأيام أو أضمريني/أهي الحياة من مشاجبها/يتساقط الإنسان في ترع منبوذة؟/لم الإنسان أمسى اليوم خرقة بالية/في حبره يستكين فيروس الفراغ؟/أهكذا/حين ينشف الينبوع الوارد/ينشر بني آدم خرافة ؟/أليس لك يا عالم مداخلة؟/قال عمر:/عجينك المدلوك في عهارة الوقت سيختمر/فحين تولي العقبات للأحدب ظهرها/تشرق أيامك من تحت الظلال فتية.../.......انتابني الثغاء/على نواتئ الصخور أجرجر دمي/لأخرج من التين حمض الغد..!/مزقت من جلدي لا فتات الرفض/بين المغص والمغص علقتها على الجرح/من عطانة المرائر/دونت في صيحتي وجع أفق محتكر/لأستنهض من لفافة معدني/جذورا تنز نبضا/أخترق صلابة الوقت/فأعيد ترتيب أيام طلاؤها نحيل/في محلول حار منصهرة/لكن المخافر تترصدني/تداهمني في حنث تتقمص شخصية المربي العظيم/جلادها بلدغة الكورباج/ينتحر في جسدي/فيستعذب اللحظات والحياة/تبقى بسلوكها المخترم/تملي علي ملابساتها/في عمايتها سادرة/تغرقني في لجة عاتية/أليس لك يا عالم مداخلة؟"

والآن سأذهب معك عزيزي القارئ إلى موضوع هذا المقال، إذ أتناول بالقراءة قصة ما زالت ساخنة من طزاجتها.

قصة (جائع)- العنوان وهامش الختام

قرأتُ قصة نشرتها مالكة عسال في الفيسبوك  "بتاريخ ١٩/٠٧/٢٠٢٠... على الساعة الخامسة صباحا بعد أرق مضْن" وكانت القصة تحمل عنوان (جائع).

أولا سأقف عند هذين المعلمين، العنوان والهامش، كمدخلين للقصة، ثم سأعتني بالقصة تاليا، إذ أنني أعتقد أن العتبة، أية عتبة، هي مدخل ضروري، لفهم النص، وفهم العتبة يفضي إلى فهم وظيفتها ومعنى حضورها ودلالته/دلالاته في ذلك التص.

 العنوان (جائع) جاء في كلمة واحدة، وكأن في ذلك دعوة للإسراع في الولوج إلى متن القصة، تلك دعوة أولية، ولشد انتباه القارئ ليلج إلى جوهر القصة، وكأن الكاتبة تقول لا ترف لدي لتضييع الوقت، وأحاول أن أصل بك إلى لب المسالة، ولب المسألة هو الجوع، ذلك الإحساس الفطري الغريزي، ولكن ليس على سبيل التجريد باستعمال المصدر أي (الجوع) وإنما في تجسيد الجوع في إنسان أصبحت صفة الجوع صفة ملازمة له، وانمحى اسمه ولم يبق منه إلا أنه إنسان جائع متهالك، ولا صفة أو سمة أو خصيصة أخرى له. 

ومن جهة أخرى يُطرح علينا سؤال هو: لمَ هو جائع؟ وأول ما يتبادر إلى الذهن أنه محروم، أو محتاج للطعام، أو ممنوع منه، وبالتالي فالجوع هنا مفروض عليه لسبب ما خارج إرادته، فالطبيعي، أي في حالة الحرية، وتملك القرار والإرادة لسنا بحاجة للتعبير عن تلك الحاجة، فنحن حين نجوع نتناول الطام إلا إذا كنا لا نملك سبيلا للوصول إليه. ومن جهة أخرى فإن صيغة جائع هي اسم فاعل يدل على الاستمرارية، مما يوحي أن حالة الجوع لدى تلك الشخصية سمة وصفة ملازمة ومرافقة له دوما. 

والعنوان (جائع) جاء نكرة، فلا ال التعريف، ولا اسم له، وهو خبرٍ لمبتدأ مجهول، فالمبتدأ الذي تمثل كلمة "جائع" خبرا له، غير موجود أصلا، وهذا تنكير آخر يضاف إلى عدم منحه اسمًا. وهو (جائع) ليس مضافا لأي شيء يُعرّفه، فهو نكرة، لا يتعرف عليه أحد وينكره ويتنكٌر له مجتمعه وأقرب الناس إليه، وهو والده، وحتى أخوه يتجاهل غيابه، ويضع لنفسه أولويات فوق أخيه، وهذا ما نجده في القصة، إذ لا اسم له، فحتى أمه لا تذكر اسمه وهي تحث أخوته على البحث عنه، ولا تذكر اسمه حين عاد بل تذكٌرهم بأنه أخ لهم، وقد ضاع أو رجع. هذا ما نعرف عنه في الأسرة، فلا نعرف له اسما، كما لا نعرف  وصفاه يميزه عن إخوته الآخرين فقط سوى أنه أصغر إخوته . ومن القصة، كما سيأتي نعرف أن الجائع صفة ملازمة لأفراد الأسرة كلهم.

من هذا نستنتج ان المؤلفة توحي لنا بأن الفقراء والجوعى نَكِرات، فلا يتعرف عليهم أحد، وينبذهم المجتمع (الأقلية المترفة)، وقد يكون المراد من هذا التنكير هو الشيوع والتعميم، فالجائعون لا يُعدّدون ولا يُحصَون، فالغالبية هم الجوعى، وبالتالي تصبح القضية قضية عامة وهمّا شاملا، ويكون الجوع هو صفة الغالبية. الغالبية هي التي يحمل الكاتب همّها ومعاناتها، وأن الأقلية المترفة لا تعني للكاتبة إلا بقدر ما ييعينها على فضح تلك الطبقة المترفة ويكشف عن عيوبها وعوراتها وقبائحها كما سيأتي

وأعود إلى اسم ال(جائع) وأذكّر بيعقوب عندما حث أولاده للبحث عن يوسف وأخيه، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان يعقوب: "يا بَنيّ اذهبوا فتحسٌسوا عن يوسف وأخيه"، والتحسس لا يكون إلا في الخير، والتجسٌس لا يكون إلا في الشر.  والمقصود في الآية  للبحث عنهما هما يوسف وأخوه بنيامين، ولكن يعقوب ذكر اسم يوسف ولم يذكر اسم بنيامين لمعرفة إخوته به، وكذلك شأن ال(جائع)، وكأن الصفة انتقلت من الوصف إلى العَلَميٌة. فهل قصدت الكاتبة تلك القصة، إذ تخلّى إخوة بنيامين عنه وتركوه في الحجز مقابل صواع الملك؟ هل ال(جائع) وبنيامين يتبادلان المواقع، وخصوصا أن الأم،  التي نجهل اسمها، وأسماء أبنائها، كانت تحث أبنائها على الخروج للبحث عن أخيهم دون أن نعرف له اسما.

ما علاقة ذلك بهامش القصة الذي أشرت إليه؟

القصة نشرت اليوم، وأفهم من الهامش أيضا أنها كتبت اليوم عند الفجر " بعد أرق مضْن" فالهمّ جديد، والجرح حي، والنزف مستمر، عبر اسم الفاعل في (جائع)، والأرق الممض كان بالتأكيد في ولادة القصة وما حولها والمثيرات والمؤثرات التي جعلت هذا الإبداع ينفلق في تلك اللحظة. هي لحظة انفلاق الإبداع من نواة أو محارة ظلت تتراكم عناصرها، أي القصة، حتى فلقتها، لضيق الذاكرة بها، ولقلة إمكانيات مزيد من التراكم في داخلها فانفلقت كما ينبجس الفجر من ظلمة الليل البهيم، فكل دقيقة تمضي بعد الغروب تقرّبنا من لحظة انبجاس الفجر وانفلاقه، او كما يتفجر نبع ماء ضاق به جوف الأرض فشقها ليخرج من جوفها إلى سطحها، وكذلك انبثقت القصة من مكمنها في ذاكرة الكاتبة لتصبح متشكلة ومعروضة للقراء.. 

كل تجربة في حياة المبدع جديدة تضاف إلى تجارب أخرى للتراكم وتختمر في فكرة تتدرج في تشكلها، مما يقربنا من لحظة انفلاق الإبداع وانفجاره وانبعاثه.  هذا القلق والأرق المضني هو ألم انفلاق الفكرة الإبداعية في صورة قصيدة أو قصة، أو لحن أو أغنية أو لوحة... الخ.  إنه مخاض الولادة، وأرق المتاعب والهموم، وهل من يعاني هذه القصة ثم يجسدها قصة خالٍ من الهموم، فلا قلق ولا ارق ولا متاعب؟

هذان المدخلان أو العتبتان تسحبان القارئ سحبا، وتجرانه جرّا ليقرأ القصة كاملة، ويتمعن في حروفها حرفا حرفا، وفي مشاهدها مشهدا مشهدا، وتلك جاذبية وتشويق يٕمسِك بتلابيب القارئ منذ مطلع القصة، من العنوان. تلك السمة، الجاذبية والتشويق، يواكبان القارئ منذ بداية القصة حتى نهايتها، وهو ما خدمت فيه العتبتان مبنى القصة وهندستها وفتحتا الباب واسعا للتوقع والاستكشاف.

قصة (جائع) - متن القصة

قصة جائع قصة قصيرة  تحكي بلغة تصويرية ممسرحة حزينة، كما القصيدة السابقة، ومؤلمة، وهي حكاية فتى جائع يبحث عن طعام او صدقة ليسد رمقه،، فلا يجد في أوساط ذلك المجتمع القاسي ما يسد به آلام معدته وصرخاتها، كما لم يجد فعلا من يستجيب لتوسلاته. هذا حال الحلم العربي يذهب إلى سراب.

من بداية القصة ترسم لنا الكاتبة غاية ذلك الفتى "كان يعد خطى المارة جيئة وإيابا ... طمعا في بعض الأيادي الندية، ترصّع كفه الفتية بقطعة معدنية، يسد بها رمق الجوع". لم تمهلنا الكاتبة كثيرا لتربط بين العنوان وبين محتوى القصة، فقد ولجت بالقارئ بدون مقدمات إلى الموضوع المتعلق بالفتى وبقصته وبحاجته الفطرية الغريزية الملحّة، وإن كان يمكن أن نفهم الجوع بالجوع المعنوي. يحلم الفتى أن ينال شيئا من بعض المحسنين وقد ينقبض الحظ في وجهه "فيصيبه بلكمة انكسار لا تطاق".  هذه صورة من الواضح أنها تكمل دورة حياته بين الإحسان والحرمان الذي لا يطاق، وما يشعر به من ألم حين يُصدّ، فالجوع كافر، والقسوة مؤلمة للنفس قبل البدن، فينكسر الفتى معنويا ونفسيا.

ثم ترسم لنا الكاتبة بدقة وبمفردات منتقاة معبرة صورة لذلك الفتى، صورة تجمع بين الهيئة واللون والأحاسيس والشم، صورة توحي للقارئ بحالة البؤس التي تحل به "كان واهن البنية، شاحب اللون، ذابل العينين، أشعث الشعر، مغبرُّه، أسارير الغضب تطوق محياه، ونحافة شديدة تعلو تضاريس جسده، مكللة بنظرات عابسة تلوح في كل مكان". هذا الوصف الدقيق والتفاصيل تكشف عن حالة الفتى وكأننا نراه أمام أبصارنا، وتلك من براعة الوصف، ومن امتلاك ناصية العربية وقدرة على توظيفها لما تروم،  وببصيرة لما توحي به مفرداتها وتشبيهاتها من إيحاءات "أسارير الغضب تطوق محياه" و"تضاريس جسده" ومسحة الحزن المنعكسة في مرآة نفسه من بؤس الواقع (المكان).

هناك شرخ عميق جدا يكاد لا تجد له قرارا في المجتمع، شرخ عميق وواسع بين الفقراء حدّ الجوع، وبين الأثرياء المترفين المتخمين والمستمتعين بأطعمتهم (صورتان متقابلتان متناقضتان للفقر والثراء)، أثرياء قساة جاحدون، ينهرون السائل بكل استعلاء وعجرفة وجحود، ودفع للفقراء واحتقار لهم، وطرد السائلين بكل قوة، واعتداء على إنسانيتهم.

تسجل الكاتبة مالكة عسال هذا الشرخ ولا تطيل الحديث عنه إلا بقدر ما يخدم هدفها الذي ذكر في الجمل السابقة، وهو فضح جلافة المقتدرين ولا إنسانيهم واستعلائهم، فقد وقف الفتى الجائع بقرب مقهى يتناول فيه الأغنياء من الصحون ما لذ وطاب وتنوٌَع، وزكمت روائح الأطعمة الباذخة أنف الفتى، وحرضت جوعه وآلام معدته، فدفعه الجوع ولسعاته المتعاقبة  إلى الدخول إلى المقهى، فيتقدم من أحدهم بتذلل:

"- أناجائع لم آكل منذ أمس..

- اذهب من أمامي (واش أنا ولدتك ونسيتك/السلاكط)

- عافاك غيرْ طْرَيَّف..

-قلت لك اذهب وإلا صفعتك.."

الفتى يتوسل ذلك الرجل الذي يتناول طعامه في المقهى كٓسرة خبز فيلقي ذلك الصد والتهديد. هذه الصورة الموحية عن توحش فئة الأثرياء والأغنياء، وفقدانهم أدنى درجات الإنسانية، بحيث ينهر هذا الجائع الذي لم يطلب سوى كسرة خبز. كسرة خبز لا أكثر ليسد بها عواء معدته، فيترك مكسور الخاطر.

تغوص الكاتبة كما رأينا من قبل في أغوار النفس حين وصفت إحباطات الجائع ب"لكمات انكسار"، فتعود بعد هذا المشهد اللإنساني المؤلم إلى داخل ال(جائع)، فتقول: "صعقة من القسوة المرعبة كسرت نفسيته، رجع على إثرها خائب المبتغى، وفتحت أزرار عُدٌة من الذكريات المشؤومة". في الجملة الأخيرة محمولات كثيرة. كيف ستكون علاقة هذا الفتى بمجتمعه وبخاصة الأثرياء منهم؟ تركت الكاتبة السؤال والجواب للقارئ. والقسوة تُذكّر بمثيلاتها. الذكريات المشؤومة من مخزون الذاكرة. الحاضر يستدعي مشابهاته من الماضي، وذلك أيضا إدراك صادق للتفاعلات في النفس البشرية ووعي على خطوطها.

الذاكرة المشؤومة تعود بالفتى إلى أيام خلت حين كان النزاع يدب بين والده ووالدته. الوالد الذي يقذف به  وببقية العائلة كلها في أتون الفقد  والجوع وعلى كاهل الأم المسكينة ويحمّلها المسؤولية عن كثرة الأولاد. الأب الذي يُشعِر وجودُه الأطفال عادة الأمن والاستقرار، صار  وحشا آخر من وحوش الحياة والمجتمع بتخليه عنهم. 

هنا تتوقف الكاتبة أمام هذه الصورة الجاهلة البائسة لزوج تخلى عن مسؤوليته، ويتلفظ بكلمات قاسية، ويتبنى مواقف لا رجولة ولا شهامة ولا فهم فيها، وتعبر الكاتبة في هذا المقطع عن تعسف الرجل مع المرأة. وللأسف فإن هذا النمط من الذكور موجود في أوساط طبقة الفقراء وغير المتعلمين المثقفين بخاصة. وهذا ملمح آخر من ملامح المجتمع الذي ترصده الكاتبه، فلنقرأ هذا الحوار من ذاكرة الفتى بين الأم والأب:

-ألالة... ما عنديش... ما عنديييييييش. دبري لمخَّك وأنْتِ عا بارْكَة وتفرخي لي في الاولاد... واش كتصَحْبِني وزير؟؟

-راهم ولادك.. واش أنا جبتهم لك من الزنقة؟؟".

يبدو أن الرجل لم يكن يتوقع مثل هذه القنبلة في الجملة الأخيرة، فهي تحمل أكثر من معنى لمن يعي. قنبلة عنيفة أمام رجل تخلى عن مسؤوليتة في إنجاب أربعة أطفال وألقى باللائمة على أمهم وحدها، ولا يملك سوى السباب والشتائم التي ترسخت في ذهن الفتى. وهنا تؤشر الكاتبة على مسألة نفسية وتربوية معا.

ثم تنقلنا مالكة عسال إلى مسرح آخر، هو مسرح البيت حيث تقيم الأم وبقية الأطفال، وتطلب من ولدها الأكبر: 

"- أوَلدي نوض قلّب  على خوك... اليوم كلّه ما دخلش، ما عرفناه بلعتوا الأرض، ولا سرطته السما..

-أنا راني مشغول وااااي.. خليني نحفظ.."

الأم غارقة في مأساتها بين الفقر والجوع  ورجل تخلى عنها وعن أطفالها وهام على وجهه، وبين طفل غض العود ضاع، كما تعتقد، ولم تعد تواسيها عبارات المواساة والتصبير، في تلك اللحظات والأفكار تدوي انفجارات في رأس الأم، سمعت طرقا على الباب " فتحت الباب، فانزلق الطيف من فتحة الباب، فأخذت تصيح في جنون هستيري:

-أخوكم عاد.. أخوكم عاد.. ثم ارتمت عليه واحتضنته بضمة قوية كادت تكسر عظامه..".

هذا المشهد الأخير يعبر عن فقدان الأم للأمل بأن ابنها سيعود، فهو بين أن ابتلعته الأرض أو "سرطته السما"، لكن الكاتبة تُبقي خيط الأمل والفأل الحسن موجودا، فيعود الفتى النحيل حدٌ ٌالخيال لنحول جسمه "فانزلق الطيف من فتحة الباب" فهو نحيف إلى حد أن يكون خيالا، أو حلما في ذاكرة محب ينتظر طروقه.

هذه مشاعر أم فطرية  طبيعية، وربما كان خير من يعبّر عن مشاعر المرأة هو المرأة، وإن كان الرجل لا ينقصه المقدرة على الإحساس بذلك إدراكه.

أواه يا قلب الأم . فرحت الأم بعودة صغيرها، وكان فرحها  فرحا مغموس بالحزن والهموم والفقد والجوع. ماذا لهذه الأم لتتمسك به غير أطفالها أمام زوج غير مبال بأسرته، وأمام مجتمع ظالم لا يتعاطف مع الضعفاء والفقر، والهمّ الأكبر هو الفقر والجوع والفاقة، لكن حنان الأم يظل حيا ومتوقدا، بل أن الفقر وتخلي الأب يجعل الأم أكثر التصاقا بأبنائها.

الكتابة عن الفقراء وتفاصيل معاناتهم التزام إنساني وأخلاقي، وقضاياهم وهمومهم هي قضايا الكتّاب المبدعين الملتزمين وهمومهم. ذلك هو ما يشغل الكتّاب الإنسانيين العالميين، وهم في ذلك يسلكون مسلكا مسرحيا سينمائيا يُعنى بالتفاصيل والمشاعر، وهذا ما يضفي على السرد لمسات التميز والتفرد والإبداع، لأن لكل مهتمٍّ بقضاياهم وحاجاتهم  زاوية ينظر منها لهذه القضايا و المشاهد المؤلمة التي تجمعهم وتوحدهم، والكاتب المبدع يجمع  بين خبرة/ تجرية أو قصة وأخرى فيتم الامتزاج العجيب والرائع، وقد بدا هذا في هذه القصة، في حالة الفقر والألم والضيق الذي تعاني منه المرأة الآن وما كان يمارسه زوجها من أهمال لها ولأولادها ويحمّلها مسؤولية وجودهم، وإذ أن هذا هو منهج الكاتبة مالكة عسال المهتمة بالفقراء فإن زاوية النظر هذه ينبثق منها موقف كذلك يمنح هذه الطبقة الفقيرة شرف أن تدمج الكاتبة مفرداتهم الحقيقية فيما كتبت، فكانت الحوارات في القصةبلغة شعبية عامية مغربية،  مما يضفي على القصة واقعية اجتماعية تنبئ عن توجه الكاتبة وفكرها وفلسفتها وبؤرة التركيز في قصتها، وهي آلام الإنسان، فليس من المعقول، وليس من المنطقي أن يتحاور أفراد هذه الطبقة بالفصيحة.

الشخصيات في هذه القصة محددة الملامح واضحة القسمات والصفات والمعالم، رسمت بريشة رسام محترف،  فلا مبالغة ولا خيال بل هو تخيُّل، وهو ما ترسّخ في الذاكرة، كما يبدو، من وقائع سابقة فدمجت الكاتبة ما في فكرها وما ترسخ في مخيلتها من تلك الوقائع والخبرات في هذا السرد المتميز، وهذا ما يميز الخيال من التخيل. فالتخيل صور أو صورة مركبة من تجارب الكاتب في الحياة.

أما في السرد فقد مزجت الكاتبة بين الراوي المتحدث بصفته الفرد الغائب الحاضر، أقول هو الغائب لفظيا وهو حاضر بالمعنى من خلال رصده ومشاهداته التي صوّرها في وصفه لما جرى. مزجت الكاتبة بين هذا السرد وبين الحوار بمشاركين في أحداث القصة، وهم الفتى وأمه وأخوه وأبوه ومن يتناول طعامه في المطعم. يضاف إلى ذلك استعمال تذكر الماضي واستدعاء بعض أحداثه من ذاكرة الفتى حين زج بها في معرض الحديث عن قسوة العالم والحياة والمجتمع بما فيهم والده.

القصة إذن تكشف عن عيوب المجتمع ونقائصه وتفضح عيوبه والتشققات في منظومته القيمية والخيبات في تحقق الآمال والأحلام حتي في أبسط المتطلبات الغريزية وهو الطعام الذي يمثل أول أساسيات الحياة في هرم ماسلو.