التصدي لخطر كورونا، مسؤولية المواطن والمسؤول بقلم د. سائد الكوني
تاريخ النشر : 2020-07-14
التصدي لخطر كورونا، مسؤولية المواطن والمسؤول بقلم د. سائد الكوني


التصدي لخطر كورونا: مسؤولية المواطن والمسؤول
بقلم: د. ســائـد الكـونـي

حديث الساعة هذه الأيام في الشارع الفلسطيني يدور حول مدى نجاعة الإجراءات الحكومية في التعامل مع جائحة كورونا وآثارها الصحية والاقتصادية.

ترى فريقاً يُغلّب الاهتمام بالجانب الصحي على الاقتصادي، وحال لسانه يقول: "يا روح ما بعدك روح" أو "شو نفع مالي بعد حالي"، وهؤلاء يؤيدون ويدفعون بالحكومة تجاه المزيد من إجراءات الإغلاق والتشديدات الرامية إلى الحد من الانتشار المتسارع للفيروس، فيما يطلق عليه الموجة الثانية للوباء. وهنالك أصحاب المصالح والمال، ويتوافق معهم بالمطلب وليس بالضرروة بالغايات، الساعون على أرزاق عوائلهم من العامة، والمعوزون، وهم كُثر، والذين يرون من الأهمية بمكان أن لا تتسبب الاجراءات الحكومية في مكافحة الجائحة الصحية بجائحة اقتصادية، لا تقل ضرراً على المواطن الفلسطيني وحياته وسلامته عن تلك الصحية، وهؤلاء مع الدفع تجاه عودة عجلة الحياة الاقتصادية في الوطن الى حركة دورانها الطبيعة. وما بين ذاك الفريق ونقيضه، يتنامى فريقٌ آخر، يشكك بالأمر برمته، حتى بات يصدق في حالنا اليوم ما ورد في الأية الكريمة: "يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى".

ومُنطلقاً من أن التنوع سنة الحياة، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فنحن في نهاية المطاف، جميعنا على متن سفينة واحدة، بوصلتها النجاة من هذه المحنة بأقل الأضرار البشرية والاقتصادية، فلا يضيرنا أن يكون نهجنا في سعينا هذا، قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "اضرب الرأي بالرأي يبين لك بريق الصواب"، فمن ثنايا الاختلاف تنجلي الحقيقة وتُصوب المسيرة، مع ضرورة الأخذ ببعض معطيات الحال، التي من شأنها أن تجسر الهوة بين الفرقاء، وتوصلنا إلى بر الأمان المنشود، دون خلاف أو اصطفافات وتشجنات، تعكسها نعوت وألفاظ بعض المنتمين لهذا الفريق أو ذاك، في انتقادهم لمن يعارضهم الفكر أو الرأي، وبما لا ينسجم مع وحدة الهدف والمصير، وحجم تضحيات أبناء شعبنا لأجلها.

من الواضح أن سياسة الاغلاقات الشاملة لم تعد تجدي نفعاً لأسباب متنوعة، وعلى رأسها أن العامة ضجرت من الحالة التي تعيشها، ولم يعد الخوف من الاصابة بالوباء الهاجس الأكثر أرقاً لها؛ في ظل تلاطم أمواج هواجس كثيرة أخرى تعصف بحياة المواطن اليومية ومستقبله، في ظل انعدام الأفق بانحسار قريب للوباء وحلول سياسية منصفة وانفراجة اقتصادية يتطلع إليها الناس لتخرجهم من ضيق الحاضر.

سبب هام آخر، يتعلق بعدم سيطرة الحكومة الفلسطينية على المعابر مع الداخل المُحتل، وتحكم الاحتلال بها تحكماً مطلقاً، وتعمده من خلالها ضرب كافة الجهود التي تبذلها الحكومة في تنظيم حركة العمالة الفلسطينية على النحو الذي يحقق النجاح لاجراءاتها الوقائية الرامية لحسر الوباء، ويندرج ذات القول على ضعف السيطرة على حركة فلسطينيي الداخل مع مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية، لرغبة مواطنينا الكبيرة بقدومهم، وللتسهيلات المقدمة لهم من قبل الهيئات المحلية للمناطق التي يتوافدون عليها، وذلك لدورهم الحيوي في انعاش السيولة المادية والحركة التجارية في الاقتصاد الفلسطيني.

ما يزيد الطين بلة، الصعوبات الجمة التي تواجهها الأجهزة الأمنية الفلسطينية في إلزام المواطنين في المناطق المسماة "ج" باجراءات الحجر الحكومية، بسبب الاستفزازات والمضايقات المستمرة التي تتعرض لها من قبل قوات الاحتلال، والتي تصاعدت وتيرتها بعد قرار القيادة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني. وأضف إلى ذلك، تراجع الدور المساند للاجراءات الحكومية الذي تقدمه اللجان الشعبية والمحلية في تلك المناطق.

يأتي كل ما سبق في ضوء عدم مقدرة الحكومة الفلسطينية على دعم مواطنها بما يكفي سد رمقه، كما تفعل حكومات دول أخرى كثيرة، مع إقرارنا بعدم عدالة المقارنة بين حكوماتٍ لدول تنعم بالسيادة الكاملة على مقدراتها الاقتصادية، وضاربةً جذور سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية في عمق التاريخ، وحكومة لدولةٍ ترزح تحت نير احتلال عنصري شرس، يتحكم في كافة مفاصلها الحياتية، وتعاني من عجز مالي كبير ودائم في موازناتها، التي تعتمد فيها بشكل رئيسي على المنح والمساعدات الخارجية، والتي تراجعت بنسب تقارب الــ 85% أو تزيد عبر السنوات القليلة الماضية، بغرض تصفية قضيتنا النضالية العادلة، عبر فرض حلول تسوية استسلامية ممسوخة لها. ومن بين ثنايا هذه الحالة، يمكن أن تُفسر عدم رغبة السلطة الوطنية الفلسطينية باللجوء إلى القوة لفرض اجراءاتها على أبناء شعبها، وهذا ما نلحظه من تعامل مرتب الأمن الوطني الخجل، والمتعاطف أحياناً أخرى، مع تجاوزات اجراءات الحجر والاغلاق المفروضة على المناطق من قبل مواطنين يسعون على رزق عوائلهم.

وللقارئ إذا أن يتساءل: وما السبيل للخروج مما نحن فيه؟ والاجابة برأيي في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع ومسئول عن رعيته"؛ فلا مفر في نهاية المطاف من عودة الحياة إلى طبيعتها في كافة مناحيها، مع ضرورة التعايش الحذر والمدروس مع استمرار حالة الوباء، إلى أن يشاء الله لها أن تنتهي، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق المواطن والمسؤول.

فالمواطن، من ناحية، مطالب بأن يتخذ من طرفه احتياطات سلامته الشخصية، وسلامة من حوله، وأن يلتزم بما يُعلن عنه من قبل جهات الاختصاص من بروتوكولات للسلامة العامة والوقاية الصحية في كافة أماكن تواجده، وكذلك مطلوب من المؤسسات والمحلات التجارية وأصحاب المهن وخلافه. بالإضافة إلى تسخير جميع الوسائل والامكانيات الاعلامية والدينية والعشائرية وغيرها لنشر هذه الثقافة المجتمعية، بغرض تنمية وتعميق الشعور الذاتي، بضرورة الالتزام الطوعي من قبل المواطن باجراءات وتعليمات الوقاية الصحية والسلامة الشخصية والعامة. على أن ذلك وحده لا يكفي، حيث أنه لا غنى عن الدور الرسمي في هذا المضمار، للقول المأثور "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ويُتوقع من الحكومة أن توجه جل جهد أجهزتها الأمنية والرقابية الأخرى لنشر وتعزيز هذه الثقافة، ومتابعة تنفيذها، بما تراه وتقدره مناسباً من وسائل واجراءات، تتفاوت ما بين اللين والشدة، وتتبدل بين الحين والآخر، حسب الحاجة ومستجدات وتطورات الحال.

والرأي بأن تدرس الحكومة، من ناحية ثانية، امكانية التخفيف من وطأة الجائحة الاقتصادية على مواطنيها، إن لم يكن بالدعم المالي المباشر لهم ولمؤسساتهم، فمن خلال اعفاءات مؤقتة من بعض الضرائب والرسوم، أو تأجيلها وجدولتها حينما تتحسن ظروف المواطن المادية، بما يمكن الاقتصاد الوطني من التعافي خلال المرحلة الحالية بموارده الذاتية. ويتزامن مع هذا الاجراء الحاجة إلى بذل جهد دبلوماسي حثيث للعمل على سد العجز الحاصل في الموارد المالية للخزانة العامة، من خلال التوجه إلى المجتمع الدولي والبلدان الشقيقية والصديقة بطلب المنح والمساعدات، والضغط على حكومة الاحتلال لدفعها إلى صرف كافة مستحقاتنا المالية لديهم دون قيد أو شرط، من واقع أن الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في بلادنا، متطلبٌ هامٌ وحيويٌ لتعزيز أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم.

وعلى صعيد ترتيب العلاقات المالية بين المواطنين، فالحكومة مدعوة إلى تطوير آليات، شبيهة بتلك التي طُورت أبان فترة الانتفاضة الشعبية الأولى، تُمكن المواطنين المتعثرين مالياً من جدولة التزاماتهم بما يضمن وفاءهم بحقوق الغير لديهم والمحافظة على السلم الأهلي في المجتمع. وتوجه لهذا الغرض، الدعوة لأهل الحل والعقد والاختصاص للمشاركة في جلسات استماع وتشاور، يُدلي فيها كلٌ بدلوه، للوصول إلى اجراءات يُتفق عليها، وتلقى قبولاً والتزاماً مجتمعياً.