أورويل.. كيف سافر هذا الرجل عبر الزمن؟!بقلم:محيي الدين جاويش
تاريخ النشر : 2020-07-14
من البداية إلى النهاية .. لا يتوقف الإدهاش في رائعة جورج أورويل 1984 التي استشرف بها واقع المجتمعات الحديثة واستقرأ فيها بخيالٍ مبهر ما سيكون عليه العالم في ضفة زمنية يفصله عنها نصف قرن تقريباً ، وعلى الرغم من أن القارئ المعاصر للرواية التي كتبت في العام 1949 لن يتلقاها بنفس ما يتلقاها قارئ ما بعد نهاية القرن العشرين ، فالقارئ القديم غالباً ما تخيل مع الكاتب مآلات العالم ومستحدثات نظامه السياسي والاجتماعي في المستقبل البعيد، أما القارئ الحالي فيتعجب وهو يسأل كيف لأورويل ان يتصور سيناريو ويضع تفاصيله الدقيقة بكل هذا التطابق مع الواقع الذي نحياه الآن .. ؟ وكيف تنبأ المؤلف أن مصير العالم سيتغير بهذا الشكل ..؟ وكيف تطابقت الوقائع مع الصور الرمزية التي حوتها الرواية ..؟ ناهيك عن الاختيار العبقري للفترة التي دارت فيها الرواية فهي في قلب حقبة الانفتاح والسطوة المادية على كافة مناحي الحياة وقريبة من عصر التكنولوجيا السريعة التي أصبحت بأهمية الطعام والهواء وتغلغلت في كل شئ حرفياً .

العالم الذي تغير بشكل حاد وسريع منذ سبعينيات القرن الماضي رتب أورويل بشكل مذهل خطوات تحوله بكامل تفاصيلها مضفياً صورة ضبابية على الماضي ليجعله مبهماً وغير مفهوم ومشكوك في أحداثه وتفاصيله وقابل للتعديل والتحوير وهي لفتة بالغة الذكاء وطّن فيها أورويل ذهن القارئ في الحقبة التي تعايشها شخوص الرواية بكامل تفاصيلها وإن كان التركيز الاهم في الرواية على النظام السياسي الذي يمثل سقفه " الأخ الكبير " وهي الرمزية التي وضعها الكاتب للحزب الحاكم المهيمن على الدولة من حدودها العريضة وحتى اضيق زواياها والتي تصور النظام العالمي الآن وأقطابه الكبرى التي تتواتر علاقاتها بين سلم وحرب ، وإن لم يأت التطابق بين الرواية والواقع كاملاً ظاهراً لكن في جوهر مقصد نص أورويل ورؤاه فإن متغيرات العالم التي رسمها أورويل في روايته والمتغيرات التي يعيشها العالم حالياٍ تشابهت بشكل يدعو للإعجاب والعجب وكأن الكاتب سافر عبر الزمن ثم عاد ليصور ما رآه فعلى سبيل المثال العالم الآني الذي تختفي فيه الحواجز ويسهل إخضاع الأفراد فيه بشكل ما إلى الرقابة الالكترونية بوسائل متعددة الصور من أقمار صناعية مروراً بالسجلات الالكترونية وانتهاءً ببرامج تحملها الهواتف الذكية صورها أورويل بشاشات عرض تراقب الحياة العامة والخاصة للسكان.
أورويل كان بالغ الذكاء حين صور التحولات كافة ليعطي القارئ القديم والجديد معايشة للواقع الذي تصوره الرواية ، فالتحول الاجتماعي صوره أورويل انبثاقاً من التحولات السياسية وليس بالانفصال عنها حتى لا يبتعد عن النسق العام الذي رسمه وإن لم يكن التركيز على التحولات الاجتماعية قوياً لكنه لم يكن ضعيفا أو مهملاً والانبثاق ههنا كان من خلال علاقات ونستون بطل الرواية مع جيرانه وزملاء العمل وقاطنو الأزقة الفقيرة ورواد الحانة والباعة وأبناء الشوارع والطبقات المنسية والفئات المسحوقة.

أراد أورويل أن يصور العاطفة والمشاعر الإنسانية لمواطني عام 1984 والتي ستتغير بطبيعة الحال مع التغير الحاد لكل ماديات الحياة المعاصرة فإضافة إلى الحوار الذاتي الذي يحكي فيه ونستون عن علاقاته مع زوجته ومن قبلها علاقته بأمه وأخته يدس أورويل قصة عشق ونستون وجوليا زميلته في العمل وكيف تحولت العاطفة تجاهها من خوف وكراهية ونفور إلى حب جامح وتعلق عنيف وتوحد حميم في الأفكار المعادية لـ " الأخ الكبير" ثم النهاية الفاترة لعلاقتهما التي مرت بمنعطف اختباري وقف فيه ونستون أمام جوليا موقف النذل الخاسر.

إطالة أورويل وإسهاباته في رواية 1984 لم تخلّ بالنص ولم تصبه بداء الرتابة بل كانت مناسبة وملائمة ومطيّة مطيعة لمعايشة الحالة العامة للرواية واستيعاب المقاصد التي يرمي إليها المؤلف كما هي ، والتغلغل في التفاصيل والحبكة القصّية لحكايات المجتمع الذي يعيش فيه ونستون سميث والمراقب على مدار الساعة والخاضع لسلطة الأخ الأكبر الذي يفرض على السكان نمط حياة مبرمج يحدد لهم فيه حتى مواعيد النوم وأنواع الطعام والسكن بل واستخدام لغة جديدة والابتعاد كلياً عن اللغة القديمة ، كل هذا قدمه أورويل بأسلوب سردي بليغ ولغة سلسة لينة خالية من التعقيد والحشو بل إن مجرد تصور الاختصار في مواطن الاسهاب تلك ستعطيناً تخيلاً لنصٍ مبتورٍ خالٍ من أهم عناصره وبعيداً جداً عن غايته المهمة.

التطور المفاجئ في نهاية الرواية كان مثل السقوط الفجائي من ارتفاع شاهق اثناء سير هادئ في حديقة مطمئنة فالثوابت التي شرع ونستون في بنائها تنهار والداعم الأقوى والمؤيد الأهم للأفكار المناهضة التي عششت في عقل ونستون كشف عن قناع رهيب لم يمسس قلبه شك في أنه موجود والفكرة المثالية التي اعتنقها ونستون وعانى نفسياً وجسدياً من أجل تحقيقها هُزمت شر هزيمة كما انتهت علاقته بمحبوبته جوليا نهاية باهتة ليغلق أوويل باب روايته بهدوء كما فتحه في بدايتها بهدوء ليبقي القارئ متاثراً برحلته الطويلة الخلابة ومعه نفس السؤال الذي يحمله الذين سبقوه في قراءة 1984 ... كيف سافر اللعين جورج أورويل عبر الزمن...؟!

جورج أورويل قدم رواية متكاملة محشوة بأفكار متداخلة بأسلوب سردي مشوق وإن كانت متشائمة صورت العالم خالٍ من كل الحريات إلا أنها نسجت في النهاية رائعة أدبية وعلامة من علامات الخيال السياسي استحقت بعدها أن تدخل ضمن قائمة أفضل مائة رواية في العالم وأن تترجم إلى أكثر من ستين لغة دون أن يخفت الإقبال عليها من قراء يعتبرون أنها باتت وثيقة الصلة بواقعهم ونبوءة من نبوءات العصر الحديث بل وتساهم في تفسير بعض القضايا على الرغم من استمرار صدماتهم بالعالم السئ وتفاصيله السوداء التي صورها أورويل في روايته الرائعة 1984.
محيي الدين جاويش
كاتب وإعلامي مصري