عندما تكون قوة اللغة في مواكبة النهضة المعرفية!! بقلم.د.يسري عبد الغني
تاريخ النشر : 2020-07-13
عندما تكون قوة اللغة في مواكبة النهضة المعرفية!! بقلم.د.يسري عبد الغني


عندما تكون قوة اللغة في مواكبة النهضة المعرفية !!! بقلم.د.يسري عبد الغني
لقد احتشد اللغويون والمفسرون والرواة والشعراء منذ عصور الأدب الأولى في طلب مادة اللغة العربية ونصوص الأدب العربي : شعرًا ونثرًا ، وحفظها وجمعها ، ثم عكفوا على درسها من وجوه مختلفة : أدبية ونحوية وتاريخية ودينية واجتماعية .. حسبما يشع كل نص من مسائل وقضايا تتعلق بالشكل أو المضمون أو حتى ببيئة النص وراويه ، وقد هيأ ذلك للغة العربية نفسها الحفاظ على مقاصدها وقواعدها خاصة ، وقد امتلكت من عوامل القوة ومظاهر العبقرية ما لا تحظى به غيرها من اللغات ، إذ لا شك أن كثيرًا من لغات الأمم تحظى بمزايا وعبقريات ، في جانب الفصاحة أو الإعراب أو الاشتقاق أو غيرها ، بيد أن الاعتبار هنا لاجتماع ذلك كله للغة واحدة (اللغة العربية) واطراده فيها .
ومن أهم مظاهر هذه القوة والعبقرية مواكبة اللغة العربية للنهضة المعرفية على مدى تاريخها الطويل واتساعها لمصطلحات العلوم والفنون بالقياس أو الاشتقاق أو التعريب ، وما يتيح ذلك من مرونة في الاستخدام اللغوي ، وقدرة على التواصل والتداول في مجموعات اجتماعية أو ثقافية متباينة ، فهيأ ذلك كله للغة العربية أن تجري على الألسنة عذبة رقراقة حتى بين الأجناس الأخرى التي تعربت فكرًا ووجدانًا وبغض النظر عن عقيدتها الدينية ، نظرًا لسماحة الإسلام وفلسفته في احترام عقائد الآخرين .
ومثلما أضافت هذه المحفزات تاريخًا ومساحة ورواجًا ، فقد أضافت إلى سعة مدخرها من المخزون اللغوي الثقافي والفكري والعلمي ، وعليه نقول هنا : إن الكتابة العربية ليست هي اللغة العربية ، وإنما هي مرحلة تالية لمرحلة اكتساب اللغة ، فهي مجرد أداة ووسيلة لحفظها ، واكتساب اللغة العربية لا يكون إلا بتوظيفها واستخدامها واستعمالها في مجالات الحياة المختلفة .... فيتجدد البناء الجسمي للغة ، وتنمو وتتطور ، وتواكب كل جديد علمي وتكنولوجي ، فاللغة مثلها مثل جسم الإنسان وعقله لا ينمو ولا يتطور إلا إذا أمددناه بالماء والغذاء ، فهو كائن حي لا بنفسه وإنما بغيره ، أي بما نمده به من ماء وغذاء ...
فاللغة العربية كانت دومًا من أكثر عوامل التوحد والوحدة بين الشعوب الناطقة بها ، إذ شرفت بكونها لغة القرآن الحكيم أفاض عليها ببشره وقداسته فحفظها من الاندثار أو الضمور ومنحها العمار والخلود واكتسبت بذلك سيرورتها وحيويتها لدى أكثر من مليار مسلم في أنحاء المعمورة الأرضية (حوالي خمس سكان العالم ) ، يضاف إلى ذلك استيعابها الواسع لمعطيات العصور ونتاجها الحضاري والتكنولوجي الهائل ، وبخاصة في القرنين الأخيرين ( أي التاسع عشر والعشرين الميلاديين) ، وما صاحبهما من تقدم مذهل ، ولغة بهذا الرقي والحيوية والثراء جديرة أن تكون لشعوبها وعاء تراثها وأداة حضارتها التي حافظت على رموزه ، ونقلتها بأعلى قدر من البلاغة والبيان .
ويمثل الموروث المعرفي ـ منذ نشأة الدولة الإسلامية إلى الآن عاملاً مهمًا ومظهرًا جديرًا بالتأمل والاهتمام في توحد أصحاب التراث العربي جميعًا ، إذ جمعهم تحت لوائه فكرًا ومنهجًا وغاية حياة ، نجد ذلك في : التفسير والفقه والحديث والشعر والخطابة وعلم الكلام ... وغير ذلك من العلوم التي اتصلت لدى الأجداد العرب بوشائج وثيقة من التتابع أو التفاعل ، فالتراث الإسلامي المتداول على نطاق جمعي سواء بين صانعي هذا التراث أو قارئيه ، يكشف عن توحده في ذاته ، بترابط موضوعاته ، وتداخل علومه ومعارفه بعضها ببعض ، كما يكشف عن نزوع إلى إيثار معايير التشابه والتوحد ، وأن هذا التراث يمارس دوره في توحيد أجيال الأمة ، بما كون من ذاكرة : عقدية ولغوية ومعرفية واحدة .
لقد أدت هذه العوامل (الدين / اللغة / الموروث المعرفي العام) إلى توحد ما بين بيئات هذا التراث المختلفة وتحوله إلى رابطة أقوى من الدم والعرق ، وهي رابطة العروبة والإسلام ، فجعلت لهذه الأمة تراثًا ذا وحدة عضوية متماسكة خاصة ، وذلك لما يتمتع به من قابلية على الاسترفاد والتنافذ ، ويعنينا هنا التراث الأدبي بكل أنواعه وأشكاله ، والذي تعطر بأريج هذه الوحدة ، وأفاء بظلالها التي جعلت من دلالة مصطلح الأدب العربي كيانًا واحدًا يشمل أنواعه وعصوره وبيئاته المختلفة ، ولا يؤدي هذا إلى تفتيت أجزائه أو انعزال بين إبداعاته ، ولكنه تقسيم منهجي مؤقت تقتضيه ضرورة التجزئة ليسهل علينا عملية الدراسة ، والوقوف على السمات والتطورات العامة .
وبمعنى آخر ، التعدد من أجل الوحدة والبدء بالجزئيات وصولاً إلى الكليات ، ولعل هذا يذكرنا بمنهج الإقليمية في الأدب العربي والذي يهدف إلى الوصول لعملية تكامل للأدب العربي حتى يتسنى لنا نقده ودرسه وتحليله ، وبالطبع فإن من أوائل الذين دعوا إلى منهج الإقليمية أستاذنا الشيخ / أمين الخولي ـ أمين الأمناء (رحمه الله) ، وذلك من خلال كتابه المهم ( فن القول ) .

تحيلنا مسألة وحدة تراثنا الأدبي العربي عبر الزمان والمكان إلى قضية من أهم قضايا الانشغال بالتراث وتوصيف الارتباط به ، وهي مدى ترسمنا لهذا التراث من ناحية ، وسعة استيعابه لروافد التجديد والتغيير من ناحية أخرى ، وهي ما أطلق عليه قضية : الأصالة والمعاصرة ، أو القديم والحديث ، أو الموروث والوافد ، ولن نتتبع في هذا المقام ـ إذ يقصر عن ذلك ويحيد عن هدفهـ المعارك الفكرية والأدبية العديدة التي استعرت حول هذه القضية ، ولكن الذي يعنينا هنا أمر آخر ، نحسبه لازمًا ومهمًا في تحديد علاقتنا بالتراث ، وهو أن الاحتفاء بالتراث واستلهامه لا يعني أن نقلده تقليدًا ساذجًا ، أو نحاكيه مكررين لنماذجه ونصوصه ، بل ما نريده بحق هو الانتماء الواعي إلى رموزه المميزة ، التي تصقل الفكر وتهذب الوجدان وترهفه ، لينطلق كل مبدع بعدها إلى التحليق في سماء الإبداع والابتكار والتحديث على هدي من عراقة الأصول دون فناء فيها أو تماه .. وفي نفس الآن نرتقي بذوق الناس ، ونأخذ بوجدانهم وأحاسيسهم ومشاعرهم إلى الرقي والسمو بعيدًا عن التفاهة والتسطيح والتبسيط المخل الذي يسيطر على حياتنا بوجه عام في أيامنا الراهنة .
نقول : إنه بالمثل لا ينبغي لكائن من كان ممن يكتنفهم تراث هذه الأمة الانسلاخ عنه بدعوى ثباته وعدم معاصرته لمستجدات الواقع والحياة ، فالعيب فينا نحن وليس في التراث ، ولنعلم جيدًا أن وحدة التراث لا تعني جموده وتحجره ، واستقراء شواهده تدل على أن قيمه الثابتة تحمل في طياتها وخصائصها عوامل الحيوية والتطور والتجدد به من سماحة ورحابة أفق وقدرة على تقبل الآخر والحوار معه .
نؤكد على أن ما سبق أتاح لتراثنا الفكري والأدبي أن يتواصل مع كل ما يكون طريفًا وجديدًا من فكر وإبداع ما دام منسجمًا مع روح قيمنا وثوابتنا ، وطبيعتهما الخاصة ، مشكلاً من كل ذلك في النهاية وجدانًا متوحدًا من المحيط إلى الخليج العربي ليدعم هويتنا القومية ، وكياننا المشترك بتوحده عبر الزمان طوال ستة عشر قرنًا مضت إلى الآن ، وتشعبه في المكان عبر أنحاء العالم الإسلامي الممتدة ، وبيئاته ومراكزه الحضارية المتعددة في بلاد الجزيرة العربية ، وبلاد الشام ، والعراق ، ومصر ، وإيران ، والمغرب العربي ، وموريتانيا ، والأندلس (فردوسنا المفقود) .

وختامًا نحن نريد اليد الرشيدة التي تقودنا إلى بر الأمان ، وتحمي لغتنا الجميلة ، تحمي تراثنا وشرقيتنا وعروبتنا وإسلامنا دين الخير والمحبة من تلك الموجات الغريبة المدمرة ، والتي لا فائدة من طرحها أو تناولها ، أليس من المؤسف حقًا أن نجد لغتنا تذبح صباح مساء في جميع وسائل الإعلام والاتصال ، ناهيك عن الكلمات الغريبة التي نسمعها من المتحدثين زاعمين أنهم يصيغون أحاديثهم بروح العصر الذي نحياه ، فهل آن الأوان لأن نجتمع جميعًا أفرادًا ومؤسسات على قلب رجل واحد لنعيد للجميلة جمالها .. ؟؟