الكاتب وكورونا بقلم : د . سناء ابو شرار
تاريخ النشر : 2020-07-10
الكاتبة : د . سناء ابو شرار
الكاتب وكورونا
مثلما بعثرت كورونا الاقتصاد والمجتمعات والسياسة بعثرت أيضاً أفكار الكاتب ومشاعره؛ أدخلته في سرداب طويل مغلق يتلمس من خلاله ضوءٍ ما يأتي من القريب أو البعيد. هناك كاتب يغرق في ظلام هذا السرداب بل ويحب عتمته وسكونه فلا يبحث عن الضوء لأنه بحالة استمتاع بالظلام بعد رحلة طويلة سابقة بين أضواء الحياة المتنوعة. وهناك كاتب يشعر باللامبالاة وأنه لن يكتب خلال هذا الوباء لأنه لن يجد ما يتحدث عنه سوى الكآبة ورفض الواقع الذي فرضه هذا الفيروس. وهناك كاتب يجد أنها فرصة كبيرة لكي يستعرض مشاعره وانطباعاته بزمن الوباء فيسعى إلى أن تفوز روايته عن الكورونا بجائزة ما وعسى أن يكون شعره هو أول من تحدث عن المعاناة بزمن الكورونا.
ولكن الكورونا ورغم كونها بعثرت أوراق الجميع وشتت الأحلام وجعلتها جزء من الأوهام، فرضت واقع آخر على الكاتب، أو بالأحرى فرضت نظرة الانتقاء على الكاتب والروائي والشاعر، هذا الفيروس الذي لا يريده أي منا يريد منا أشياء كثيرة فهو لم يأتي عبثاً ولن يغادر عبثاً وسوف يترك آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية عميقة على الدول والأفراد.
فقط الكاتب الحقيقي هو من يستطيع أن ينظر إلى هذا الفيروس بموضوعية المفكر وبتأمل الفيلسوف، فقط الكاتب من يستطيع أن يرى الوجوه الأخرى لهذا الفيروس الذي فرض العزلة والخوف والقلق ثم نشر الفقر والتشرد.
فلماذا الكاتب؟ لأن مهمة الكاتب الحقيقي وليس المزيف الذي أخبروه بأنه كاتب لمجاملته أو لمنفعة ما أو لأن التصفيق يدفئ من يصفق ويُسعد من يستمع له؛ مهمة الكاتب الحقيقي هو رصد المجتمع ومراقبة الحياة سواء في أوقات الأوقات السعيدة أو الحزينة، فقط الكاتب من يستطيع أن يرى شيء من الحزن في أقصى لحظات السعادة وبعضاً من السعادة في أشد لحظات الحزن، لأنه لا ينظر إلى الحياة من خلال النوافذ الضيقة أو الواسعة إنه يتمتع بخاصية النظر الأفقي والعامودي للأشياء، يرى الأشياء من بعيد ومن قريب يرى سطحيتها ويرى أعماقها، تتجول روحه بين الأحداث وعبر الكلمات، تصله ذبذبات خفية من أي مكان في الأرض، ويشعر بأنفاس الآخرين حتى ولو لم يكونوا معه، لذلك له علاقة مختلفة مع الأشياء ومن ضمنها مع فيروس كورونا.
ذلك لأن هذا الفيروس بالنسبة لغالبية البشر هو وباء يخافون منه، يقلقون من نتائجه وكذلك الكاتب ولكن هذا الفيروس يجعل الكاتب أشد انغلاقا على نفسه ليس بمعنى الانطواء ولكن بمعني البحث اللامتناهي عن أسئلة في الوجود، يعيده هذا الفيروس إلى أسئلة وجودية لم يعد أحد يفكر بها وكأنها تلاشت من الوجود وفجأة تعود إلى السطح بكل جديتها ومأساويتها، بكل صدقها ومرارتها.
ومن هذه الأسئلة: ما هو وجودنا؟ وكم هو هش هذا الوجود حتى أن فيروس غير مرئي يهدد حياتنا جميعاً؟ وإلى متي سيستمر؟ ومتى سيختفي؟ وكيف لنا أن نتعايش مع وجود يملأه الخوف والقلق والعجز أيضاً؟ وهل سيكون مصير البشرية الوقوع ببراثن الأوبئة والأمراض؟
فيعيدنا هذا الفيروس إلى ضعفنا الذي خلقنا به ونعيش معه ولكننا مع طول أمد الأمان نسينا كم بنا من ضعف، نسينا أن وجودنا هش كجناح فراشة تحلق حول النيران. فيضطر الكاتب إلى أن ينسحب إلى أعماق ذاته باحثاً عن الأجوبة ومستقبلاً للمزيد من الأسئلة.
وإذا نظر الكاتب إلى هذا الفيروس بعيداً عن كونه خطر على الحياة، سوف يرى مساحات شاسعة من الفلسفة والفكر والخيال والإبداع و سوف يكون هذا الاتساع الفكري بحجم نضجه العاطفي وبأن تكون موهبته حقيقية وليست مزيفة تم الاعتراف بها عبر المجاملات والتصفيق الأجوف.
فقط الكاتب الحقيقي هو من يرى العوالم اللامتناهية لهذا الفيروس، سوف يرى حقيقة ضعف الانسان، سوف يتذكر بأن كل نفس يتنفسه كل انسان على وجه الأرض هو بإرادة الخالق ومشيئته، سوف يرى التغير الذي يطرأ على البشر بعصر الأزمات وكيف تنكفيء الحياة على ذاتها لتداوي جروحها، وسوف تتشكل لديه عشرات الأفكار والصور والمشاعر لتكون كجمرة تشتعل لتنير عالمه الباطني، فقط في زمن الكورونا يختبر كل منا وخصوصاً الكاتب مدى قوة علاقته مع ذاته ومع عالمه الداخلي، لأن هذا الفيروس أتى وأجبر كل منا على أن يعود لعالمه المغلق سواء في المكان أو في الذات الدفينة والفاقد لعلاقته مع ذاته هو الأشد تعاسةً في التأقلم مع هذا الفيروس الصامت والخفي.