دولة 'أم ولد' بقلم:شوقي غنام
تاريخ النشر : 2020-07-10
دولة ' أم الولد'
========
الجزء الأول:

تعجب أحدهم قبل سنوات مما اعتبره محاولة للتقليل من عظمة و مكانة الدولة العباسية، التي كانت تمتد، وفق معلوماته، من الصين الى فرنسا.. و التي كان حكامها أعظم ملوك الأرض.. و التي عاشت خمسة قرون و ثمانية أعوام، إلى أن سقطت على يد المغول في 1258. و بعد أن اتضحت له الحقائق بات على علم بما يلي:
بدأت الدولة العباسية في عام 750م، بعد القضاء على الأمويين، استناداً إلى ادعاء بأن العباسيين ذوو صلة قرابة بالنبي، و هو ما لم يكن للأمويين من قبلهم، و هو الأمر الذي لا يراه كثيرون ذا صلة عندما يتعلق الأمر بالمفاضلة بين دولتين يفترض بهما تمثيل تواصل التاريخ الاسلامي في أوج قوته، فهنا (خلفاء) ' عظام' و هناك مثلهم. التاريخ هنا هو ما اضطلع به ' خلفاء' الدولتين. و التاريخ هنا هو العناوين و السير المتعلقة بهذا (الخليفة) و ذاك (الخليفة). لكن بعيداً عن التجيير الديني لمحصلة عامة تخفي كل التناقضات الممكنة، فإننا نجد أن التاريخ المتعلق بالدولة الأموية كان متسقاً مع مقتضيات ذلك الزمان الدنيوية بعيداً عن الصلات و المقتضيات الدينية، رغم أن الدولتين اشتركتا في عدم الاعتداد بمقاييس الحكم الرشيد، فما بالك بمعايير العدل و الحرية حديثة العهد. مع ذلك يمكن التعويل من زواية أخرى على أن الخلاف بشأن مسميي 'الخليفة' و 'الخلافة'، اللذين نضفيهما تاريخاً على ما يتعلق بالحكم في الدولتين، كانا قد وجدا حلاً في وقت مبكر، بل و قريب للغاية من فترة النبوة. و يتضح ذلك في اتخاذ لقب ' أمير المؤمنين' في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، و من قبل أمير المؤمنين نفسه، بعد اقتراحه من المغيرة بن شعبة: "أنت أميرنا ونحن المؤمنون فأنت أمير المؤمنين". و هذا يجعل من ذلك الحل البديهي مرجعاً لتبيان خطل الاستسهال الذي أصبح تراثاً بعد قرون، من خلال إلصاق اللقب بمن لم يناده الناس به في زمانهم. فمن المنطقي أن أحداً لم يخاطب يزيد بن معاوية أو سليمان بن عبد الملك بلقب ' الخليفة'، فذلك لعمري جهل و سذاجة و تبجيل للامنطق. و أرى هنا أن اللقب كان ضرورة وقتية، و أنه مثل وزناً متذبذب الثقل في صراعات قوى ظهرت بعد أزيد من خمسة قرون من الابتعاد عن فترة النبوة، و أن عصور الضعف اللاحقة اقتضت محافظة مراكز القوة و دوائر الحكم على مبررات و مسوغات دينية كان هؤلاء في أمس الحاجة لها لردع التحديات و القلاقل المحتملة، على الصعيدين الداخلي و الخارجي، و خاصة لفض الخلاف الذاتي داخل مراكز القوة و الحكم، كما سيتضح جلياً في الفترة العباسية، خاصة الفترة الثانية و الثالثة.
و من المنصف، و قد بدأ الخوض في ماهية ما يعرف بالدولة العباسية القول بأنها استحقت الاعتبارات المتعلقة بها تاريخاً خلال فترة السبعة و التسعين عاماً التي امتدت من 750 م إلى 847 م، و هي سنوات لا تزيد كثيراً عن فترة حكم الأمويين، التي بلغت ثمانية و ثمانين عاماً، و كانت بين الأعوام 662 م و 750 م. و تغطي الفترة الأولى حكم الأمراء التسعة الأوائل المنتمين نسباً إلى العباسيين و هم: أبو العباس السفاح، و أخوه أبو جعفر المنصور، و المهدي بن أبي جعفر، و ابنا المهدي؛ الهادي و هارون الرشيد، و بنو هارون الرشيد الثلاثة: الأمين و المأمون و المعتصم، و أخيراً الواثق بن المعتصم.
و ماذا بشأن القرون الأربعة و السنوات الإحدى عشرة المتبقية، مما يشار له عادة بالفترة العباسية، التي تنتهي بالحاكم المسمى المستعصم بالله، الذي انتهى تحت حوافر خيل هولاكو المغولي، الذي أسقط بغداد في 1258؟ الواقع أن تلك الفترة تستحق اسماً جديداً لا أن تحصل على صفة أنها كانت قرون ضعف و انحطاط. و أقترح أن تسمى بدولة 'أم الولد'. و 'أم الولد' هو اللقب الذي كان يعطى منذ عهد هارون الرشيد لجارية، تركية في الغالب، تنتمي إلى أصحاب نفوذ، من قادة الجيش التركي (العباسي)، الذين كانوا يتصارعون على مراكز القوة، و يتخذون الأمير العباسي مطية لهم، لا يمنعهم عن التخلص منه، في معظم الأوقات، إلا كونه الحل الوسطي في تقاسم النفوذ بينهم. فقد ارتضوا رادعاً شكلياً متمثلاً بنسب الأمير النبوي الهاشمي يمكنهم من تقاسم السلطة دون أن ينزع منها الهالة الدينية التي تمكن لهم بين الناس. و على ذلك بقي الأمير العباسي، بلا سلطة تذكر، تحت رحمة التقديرات السياسية، التي اتخذت من المؤامرات و الدسائس قانوناً يفصل المواصفات التي كان يتوجب على الأمير أن يتحلى بها و أن ينصاع لها. بل لقد كان الأمير نفسه، من الأصل، (صناعة)، كان يتم إجبار أبيه (الحاكم في وقته) على تقبلها دون مناقشة. فكانت العادة أن يتم اختيار جارية ذات منزلة، وفق ما ذكر آنفاً، لتصبح محظية الأمير، حتى إذا ( حملت) منه، كانت تحصل على عناية خاصة تستمر لاحقاً مع وليدها، الذي سيربى ليكون الأمير المستقبلي، و لو على حساب (تجاوز) أشقائه الأمراء من زوجة أبيه العربية الحرة. و لذلك اصطلح تاريخاً على أن يطلق على أم الأمير الذي سيحل محل أبيه بعد موته 'أم ولد'. و بهذه الطريقة تلاشى النسب الهاشمي لل(حكام) العباسيين. فلم نسمع عن أمير عباسي بعد الأمين كان من أم عربية هاشمية، هي من يفترض أن تكون زوجة الأمير الأب.
و حيث أن منصب الأمير كان شكلياً، و حيث أن القوة و النفوذ كانا في يد الأخوال الأتراك، الذين بدأ تكاثرهم في بغداد منذ أيام الرشيد، الذي استقدم الكثيرين منهم، عبر تجار الرقيق، من أسواق النخاسة في تركمنستان، ليكونوا ركناً أساسياً في الجيش العباسي، و الذين أصبحوا يشكلون معظم الجيش في عهد ابنه المعتصم، الذي مكنهم من عصب الدولة، فمن السهل الشك، و الحال كذلك، في أن الأمير (العباسي) كان يحكم مساحة لا تزيد عن خمسة أمتار مربعة، هي سريره. بل هو لم يحز على تلك المساحة غالباً. و لاستدراك تساؤل قد يذهب الى طلب تفسير يتعلق بحكم البلاد الواسعة التي كانت تتشكل منها الدولة العباسية يمكن القول بأن دولة ' أم الولد' لم تكن كبيرة على الإطلاق، و بالتأكيد لا علاقة لها باتساع الدولة الأموية. و يكفي أن نلقي نظرة على الخريطة المرفقة لكي نعرف أن الدولة العباسية لم تزد عن كرم قليل من الدول المنشقة في الدعاء للأمير العباسي في صلاة الجمعة، و هو ما عبر عن سياسات كانت تتخذ من الصبغة الدينية للأمير العباسي عنصر توازن و قوة. بل إن تلك الدول قد تباينت في النأي بنفسها عن التدخل المباشر في شأن بغداد بمقدار ما كان يحققه ذلك من مصالحها المنعزلة.
لهذا فقد ترك الأمر في الدولة العباسية القزمة، لإرادة قادة الجيش الأتراك و منتجات المصانع التالي ذكرها: الخيزران، و شكلة، و ماردة، و قراطيس، و شجاع، و حبشية، و مخارق، و قبيحة، و وردة، و فتيان، و ضرار، و جيجك، و شغب، و فتنة، و ظلوم، و خلوب، و أملح الناس، و شغلة، و هزار، و تمني، و (قطر الندى)، و أرجوان، و حبشية، و طاووس، و غضة، و زمرد خاتون، و هاجر.
من أولئك؟ إنهن بالترتيب الدقيق أمهات ولد، أو أمهات أولاد. هن تركيات، و بينهن حبشيات و فارسيات، ممن كن الجسور التي بنت ضعف الدولة العباسية، بدلاً من بناء الأسوار لحمايتها. هن صورة الضعف الذي لازمنا منذ ألف و مائتي عام. هن من خلفن العربيات: ريطة و أروى و زبيدة..
يتبع...

شوقي غنام