الفقير لا يرى الحق والحقيقة إلا على شكل رغيف بقلم: معمر خلة
تاريخ النشر : 2020-07-04
الفقير لا يرى الحق والحقيقة إلا على شكل رغيف بقلم: معمر خلة


بقلم.. معمر خلة..
الفقير لا يرى الحق والحقيقة إلا على شكل رغيف....

كانت لي دعوة قضائية في محكمة غزة استمرت أكثر من خمس سنوات وكنت فضولي أن أحضر جلسات المحكمة الخاصة بقضيتي بصحبة المحامي المتوكل بالقضية... وكنت أضطر أحيانا أن استمع إلى بعض القضايا التي تحتوي على خلافات بعض الخصوم من المواطنين وكنت أشاهد وأسمع العجب العجاب وأطيل التفكير فيما أسمع وأشاهد باستغراب كبير . على سبيل المثال كنت استمع إلى مرافعات المحامين وأقوال الخصوم وشهود الاثبات أو النفي لهم فأقتنع بقضية أحد الخصوم وبمرافعة محاميه وبأقوال صاحب القضية وشهوده وأتعاطف معه من كل قلبي وأكاد أقفز معانقا له متضامنا مع مظلمته .وما هي الا لحظات حتى يأتي دور محامي الخصم الآخر للمرافعة وأستمع إلى أقوال صاحب القضية الأخرى وشهودها حتى أرى نفسي أقتنع وأتعاطف مع قضية الخصم الثاني أيضا وبنفس الدرجة التي أقتنعت وتعاطفت مع الخصم الأول وكنت أقع في حيرة من أمري . واتساءل من منهما يملك الحق يا ترى ؟ كلاهما يدعي أنه يقول الحقيقة وأنه صاحب الحق.حينها كنت استصعب مهنة ومهمة القضاة . واصرخ في نفسي يا لها من معضلة كيف سيتبين للقاضي من هو صاحب الحق ؟ وأي قدرات يجب أن يمتلكها هذا القاضي لكي يقضي بحكم صائب؟ وهذا كان يتكرر معي في كل جلسة أحضرها ..والصحيح هو أن كلا المتخاصمين يملكان جانب من الحق وجانب من الباطل وكل منهما يرى أنه على حق وهو مقتنع بذلك ولا يتصنع ولا يدعي ولكن كلاهما يريان الحق من المنظار الخاص بكل منهما . وكنت ألاحظ أحيانا وأنا استمع لشهادة بعض الشهود الذين قد شاهدوا نفس الحادثة والتي هي نفس المشهد وبعينه.. كانوا يروون شهاداتهم ويوصفون نفس الحدث باختلاف كبير واحيانا فيه من التضارب .من يستمع الى هذا التضارب والاختلاف في رواية الشهود لنفس الحدث الذي شاهدوه قد يبدو له وللقاضي وللحاضرين أن شهادة أحدهم كاذبة وملفقة ..ولكني أقول عكس ذلك بأن روايتهما للحدث وإن اختلفت فكلاهما صادق فيما روى لأن كل منهما رأى جانب من الحقيقة تتوافق مع إطاره الفكري. ولم ير الجانب الآخر وقد يكون رآه ولكنه أهمله ولم يركز عليه لانه لا يتوافق مع طبيعته النفسية وتركيبتها الفكرية والثقافية التي ورثها واكتسبها .
لكن المصيبة تقع عندما لا يعيرون القضاة هذه الناحية من الأهمية التي تستحقها في فحص الشهود الذين يتقدمون اليهم بشهادتهم. فنحن نريد ممن شهدوا حادثة معينة أن تكون شهادتهم متشابهة وكثيرا ما نتهم شاهدا بسبب اختلاف بسيط في شهادته أنه كاذب غير دارين بأن تشابه الشهادات وتطابقها مع بعضها البعض أمر غير طبيعي ولعل التشابه في رواية الشهود للحدث دليل على الكذب. لأن كل شاهد يرى من الحادثة جانبا لا يراه الآخر .
وكثيرا ما يصادفنا في حياتنا اليومية أن يحدث نزاعا بين شخصين فينسب أحد الشهود الاعتداء إلى أحدهما وهو صادق فيما يقول . بينما يأتي شاهد آخر فينسب الاعتداء إلى الثاني وهو صادق أيضا . إن كلا منهما ينظر بعين عواطفه وميوله ومقاييسه النفسية الخاصة فهو قد يغض النظر عن كلمة جارحة يتفوه بها أحد الخصمين بينما يؤكد على كلمة أخف من تلك الكلمة التي تفوه بها الخصم الآخر إنه يتحيز في شهادته وهو غير قاصد أو شاعر بهذا التحيز.
وقل مثل هذا على الكثير من الحوادث في حياتنا. فتجد على سبيل المثال إحدى الشخصيات التاريخية قد أصبحت في نظر بعضهم أنه البطل القومي العربي أو الإسلامي الخ من ميزاته وفي نظر شخصا آخر أنه فاسقا كافرا لا يستحق المدح وهذا يحدث معنا جميعا . إن كل شخص منهما يدرس تاريخ تلك الشخصية التاريخية ويركز بؤرة نظره على جزء منها ويهمل الأجزاء الأخرى. وهو حين يمر على الأخبار التي تخالف وجهة نظرته يعتبرها مكذوبة ويتركها. فإذا سألته عن السبب في تركه لبعض الأخبار دون البعض الآخر قال لك إنها غير معقولة... وهو يعني بذلك أنها خارجة عن إطاره الفكري. فالمقياس الذي يفرق به بين المعقول وغير المعقول هو مقياس ذاتي ونسبي غير موضوعي .
فالانسان يحب الزوجة الجميلة أو يحب الوظيفة المرموقة أو المركز الاجتماعي ولكنه لا يحب الحقيقة ولا يحب الحق إلا إذا ساعده هذا الحق وهذه الحقيقة في تحقيق شئ من مصالحه أو من تلك الأهداف المرغوبة.
الخلاصة تتمحور في هذا المثل الذي يعرفه الكثير منا... وهو غير معيشة الإنسان يتغير بذلك تفكيره.... وهذا صحيح إلى حد بعيد. فالفقير الجائع يكاد لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف. أما الشبعان المدلل المتخوم فتراه منغمسا بالحرية والديمقراطية والأخلاق والحق والخير والكثير من المثل العليا التي لا فائدة منها بالنسبة للفقير لأنه لا يفهم غير حقيقة أنه جائع ولا يفهم الحقيقة الا على شكل رغيف .