التكثيف الدلالي في قصيدة صهيل الرياح..يعانق وجهَ القمر بقلم:محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-07-02
التكثيف الدلالي في قصيدة صهيل الرياح..يعانق وجهَ القمر بقلم:محمد المحسن


التكثيف الدلالي في قصيدة صهيل الرياح..يعانق وجهَ القمر.. للشاعر التونسي القدير طاهر مشي
يزاوج الأديب والشاعر التونسي -د-طاهر مشي بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية،وهو في كلا الصنفين الأدبيين يجيد تكثيف العبارة وشحنها بالرموز الدلالية؛حتى تغدو اللقطة
ذاتها تفصيلا معتما للقضايا الجوهرية التي تعتمر الذات برمتها،وتصبح الكتابة ملكوتا من الكلام لا يقبل النهاية.
وللكثافة غاياتها وأسرارها العميقة التي لن تتكشف إلا بتطويع مرموز اللغة العطشى وتفكيك شفراتها عبر ولوج منطق الكتابة والغوص في سرائرها وغياباتها.
وفي نظري،تتأتى للشاعر القدير طاهر مشي ميزة اختصار عوالمه،والقدرة على القبض على الكون،انطلاقا من حركية الخيال الجامح التي يتوفر عليها ودقة الملاحظة لديه، ..وانخراطه العميق في التواصل مع عناصر المحيط الذي يحفه،بتأمل فلسفي وحدس شعري لنص من حيث الإيقاع _وتلك طبيعة قصيدة النثر-يؤطره إيقاع خاص عبر أدوات صامتة لا تتوخى الصخب الصوتي المنبثق من النهايات والحروف،بقدر ما يتخذ المزاوجة والمناوبة بين الومضات المتعددة والمتناوبة في رقعة النص ،وحركة ذهن القارئ في إثناء المرور بهذه الومضات المتعددة ،وتتجسد هذه الومضات في الصورة وديناميكية امتدادها المنتظمة واتساعها من جهة ،وتفتيرها وخفت وهجها ،ثم انبثاقها من جديد،من جهة ثانية .
ويعدُّ هذا إطار ضمن إطارات أخرى،كالتناهي المعبِّر عن الدلالات المتناهية، التي تبثق إطراباً معنوياً على نفس المتلقي ،فتصحب الذهن والوجدان معاً في نوتات متشكلة عبر جمل تتلاحم وتتماسك وتتناهى وتتقابل وتتقاطب..
-أدعو القارئ الكريم-للرقص معي على ايقاع القصيدة التالية للشاعر العظيم طاهر مشي
صهيل الرياح..يعانق وجه القمر

ما أطيب العطر الذي في خدرها
مسك يداوي الروح مثل البلسم
فيشدني لهفي على أجدالها
أغزو مكامنها كطير الهيثم
تطفو على سطح الهواء مراكبي
في بحرها الأشواق أغدو ملجم
يا ليلتي كوني على وعد الهوى
إن الحبيب لفي المدى يتبسم
طاهر مشي
كما لاحظنا فالقصيدة جاءت مكثفة نظرا لتراكم الرموز في النص،وكما هو مألوف في لغة الشعر فإن الظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن يتولد منها عدد غير محدد من الرموز الفنية بحسب عدد الآثار و التحريضات الجمالية،كما أنه يمكن أن يتناقض رمزان على الصعيد الجمالي والإيحائي،فكل سياق يفرض مضمونا خاصا به ولا يجوز التعامل مع الرمز الفني بمعزل عن سياقه ،وهذا سيجعل القصيدة مفتوحة على عدة تأويلات..
إن عملية التوصيل الشعري أشبه بعملية البث اللاسلكي،حيث يقف الشاعر في مقابل أجهزة البث،ويتحول الصوت والصورة من كيان مسموع ومرئي إلى طاقة كهرومغناطيسية،وتتحول الفكرة إلى كلمة،ويتحول الإحساس إلى نغم ايقاعي(وزن)،وكذا يمكن اختزان الصوت في أجهزة التسجيل،والاحتفاظ بالصورة في أجهزة،كذلك يمكن الاحتفاظ بالفكرة-الكلمة والإحساس-الوزن عبر الدواوين.
الشاعر الفذ طاهر مشي قادر على ربط المتشابهات بين الطرفين أو أكثر من الظواهر الإنسانية والطبيعية.ويملك خيالا مجنحا،يبعدنا عن الواقعية التي يتطلبها الموقف الملتزم. فالخيال يهب الأفكار عمقا،وجمالا ويوسع مساحات المعاني وأحجامها،وتعدد أوجهها.
وبذلك يخدم اللفظة،والتركيب والصورة بدينامكية وحيوية متناميتين.فلتوقد الذكاء ولدقة الملاحظة أهميتهما في الإلتفات إلى ما هو غير مألوف،ومن هنا يتأتى الإبداع الذي يبعث في نفوس المتلقي الإعجاب والنشوة الشعرية.
ختاما،نضيف قولنا إلى قول رولان بارث الذي أشار إلى أن الكتابة تحيل إلى الوظيفة الإجتماعية،فهي اللغة الأدبية التي تم تحويلها من قبل مصيرها الإجتماعي،أما الكلام فيمثل سلوك الفرد،بتوهجه الجسدي والنفسي والصوتي،وكأن الشاعر طاهر مشي يضع قصيدته في تماس عميق بين الكلام والكتابة،وهو تماس يجسد،بمعنى من المعاني،تماسا بين الفردي والإجتماعي،وبين الشفاهي والمكتوب.

محمد المحسن (شاعر،وناقد تونسي)