الواقـــع الفلسطينـــي المـــــأزوم بقلم: أبو علي حسن
تاريخ النشر : 2020-06-30
الواقـــع الفلسطينـــي المـــــأزوم  بقلم: أبو علي حسن


الواقـــع الفلسطينـــي المـــــأزوم

وحدود مسؤولية اليسار الفلسطيني عن الأزمة الوطنية

     في مقال سابق لنا حول حدود المسؤوليات للقوى الفلسطينية والفصائل الفلسطينية عن مآلات الأزمة الوطنية وعلى رأسها اتفاق أوسلو وتداعياته الكارثية التي لا زالت تضرب في الصميم قلب القضية الفلسطينية والتي وسمت المرحلة التي نعيش "بالانهيار الفلسطيني والعربي على حدٍ سواء" وفي السياق حددنا المعايير الأساسية التي تجري عليها المحاكمة وتحديد المسؤوليات, ارتباطاً بأن الأزمة الراهنة ليست معطى راهن بدون مقدمات وإرهاصات سياسية وفكرية, أو بدون مرجعيات نظرية, وممارسات عملية, وعلاقات واتصالات دبلوماسية سرية وعلنية...

    وحددنا أن حركة فتح بما تمثل من مظهر رئيسي وقيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية, ومن حضور ونفوذ فلسطيني وعربي ودولي, بأنها تتحمل المسؤولية الأساسية والأولى والمباشرة عن اتفاق أوسلو وما نتج عنه من تداعيات ومخاطر جمّة لا زلنا نعيش وقعها على كل المستويات, وهي تتحمل المسؤولية الأساسية بدءاً من اعتماد نهج التسوية إلى برامجها السياسية مبكراً, مروراً بالتنازل المتدرّج عن نظامها الأساسي وميثاق (م.ت.ف) الوطني, وانتهاءً باتفاق أوسلو والاعتراف بدولة الكيان الصهيوني على 78% من أرض فلسطين التاريخية, في خطوة انقلابية على كل المعايير الوطنية التي تمسّك بها شعبنا على مدار عمر النكبة, مقابل صيغ لغوية وسياسية, وتطمينات, ووعود بالحصول على دولة فلسطينية على أرض الضفة والقطاع...

مسؤولية العجز...ومسؤولية الفعل والتوقيع

     حين تبّخرت كل الوعود, وانكشف المستور, بدأ البعض الفتحاوي يشعر بكارثية الاتفاق الأوسلوي ومثالبه ومخاطره, أخذ بالحديث بأنّ اليسار الفلسطيني أيضاً يتحمّل المسؤولية فيما آلت إليه الأمور...!!

    وبقدر كبير من الموضوعية, ومنطق سيرورة الأحداث, فإن اليسار الفلسطيني يتحمل قسطاً من المسؤولية التاريخية في الوصول إلى هذا المربّع من الأزمة الوطنية, كون اليسار الفلسطيني على مدار نصف قرن كان شريكاً لليمين الفلسطيني في هيئات (م.ت.ف) وشريكاً في قراراتها وتوجهاتها السياسية, وشريكاً في نضالاتها وكفاحها المسلح في الداخل والخارج, فكيف لا يتحمل المسؤولية...

    لكن الموضوعية أيضاً يجب أن تتجلي في القدرة على التحديد الدقيق للمسؤولية بين اليمين واليسار, فلا يمكن أن تستوي مسؤولية اليمين المهيمن على القرار الوطني الفلسطيني والموقّع على اتفاق أوسلو, مع مسؤولية اليسار ثانوي المظهر في (م.ت.ف) والعاجز عن ردع اليمين الفلسطيني في اندفاعاته نحو التسوية منذ البدايات, فمسؤولية الفعل والتوقيع على أوسلو وقيادة العملية التسووية, والاستمرار والتمسّك حتى اللحظة في ذات النهج التدميري شيء, والعجز عن مواجهة أوسلو وتداعياته وإفشاله ووأده قبل استفحال مراميه شيء آخر...

    ومن الطبيعي أن نفرق بين قبول الهزيمة وتشريع نتائجها, وتأصيلها في الثقافة الوطنية, وبين العجز عن وقف الهزيمة وعدم الاعتراف بها حتى ولو كانت واقعاً...وهذا هو الفرق بين دور اليمين وخطه البياني التنازلي ودور اليسار ومراوحته في ذات المكان أمام التنازلات...

   وهذا هو ايضاً الفرق بين موقف الزعيم عبد الناصر الذي رفض نتائج الهزيمة وأطلق عليها اصطلاح "النكسة" في إشارة إلى نسبيتها وأنها مؤقتة, ورفع شعار "لا صلح...لا تفاوض...لا اعتراف" وبيّن موقف السادات الذي حقق جيشه انتصاراً حوّله إلى هزيمة سياسية لكل الأمة, واعترف بالكيان الصهيوني, مما أحدث زلزالاً لم تزل ارتداداته تضرب في العمق, كل ثوابت الأمّة وثقافتها, وكانت ثالثة الأثافي, اتفاق أوسلو الذي أحدث زلزالاً آخر لم تزل ارتداداته وتموّجاته تنال من التاريخ والجغرافيا والشعب والثقافة...

    إن هذه التفرقة الموضوعية, لا يمكن أن تعفي اليسار من المسؤولية أو تبرئته من بعض المواقف والتهافت السياسي وراء اليمين الفلسطيني في محطات مختلفة من بعض قوى اليسار, حيث لا يمكن وضع اليسار الفلسطيني في قالب واحد, فإذا كان من المنطقي أن نفرق بين مسؤولية اليمين وأفعاله واليسار وعجزه, فمن المنطقي أن نفرق بين مسؤولية فصيل يساري وآخر, لما بينهم من تباين في الرؤية والممارسة والتنظير, فاليسار لم يكن يومأً ومنذ نشأته موحداً على رؤية سياسية واحدة, أو ممارسة موحدة, فالتباينات بين فصائل اليسار ترجع إلى الوراء, إلى بدايات التشكّل والتأسيس التنظيمي والفكري والثوري...

    فهناك من اليسار من أعطى رأيه مبكراً بتقسيم فلسطين, ونظر لإمكانية التعايش مع الكيان, انطلاقاً من الأمر الواقع...!! وهناك من اليسار من نظّر وأسّس لرؤية التسوية, ولا زال يتغنّى بهذه الرؤية "النقاط العشر" انطلاقاً من إيمانه بالحل المرحلي...!! واعتبار برنامج الحل المرحلي هو المعيار الوطني الذي على أساسه يمكن قياس التمسّك بالأهداف الوطنية السياسية, في حين أن هذا البرنامج المبني على رؤية مبكّرة للتسوية السياسية شكّل اللبنة الأساس والأولى في الانقلاب السياسي والاستراتيجي في الفكر السياسي الفلسطيني, ويمثل خطوة مبكرة ساهمت في كسر الجليد السياسي العربي الرافض للتسوية مع العدو الصهيوني, على حساب رؤية الميثاق الوطني الفلسطيني واستراتيجية التحرير...

     وفي كل الأحوال فإن فشل اليسار الفلسطيني في انتزاع دور سياسي مقرر في (م.ت.ف) لا يعود إلى أسباب ذاتية محضة, إذ لا يمكن محاكمة اليسار في عجزه وضعفه إلا ارتباطاً بأزمته البنيوية الذاتية من جهة, وأزمة اليسار الأممي التي تفاقمت مع انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي عام 1991, فإذا كان اليسار الفلسطيني يعيش واقعة الفلسطيني, فإنه بحدود كبيرة كان يعيش في فضاء اليسار العالمي والمعسكر الاشتراكي, وحين انهارت الأحزاب اليسارية العالمية ومعسكرها الاشتراكي, كان من الطبيعي أن يفقد اليسار الفلسطيني حاضنته الدولية...

·    إن عجز اليسار الفلسطيني, وهو عجز بنيوي يمتد إلى عجزه وفشله في إدارة خلافاته أو علاقاته مع اليمين الفلسطيني, وفي أغلب الأحيان كانت بعض فصائله ذيلية أو ملحقة, تغطي على سياساته ومواقفه لمجرد الحرص على الوجود داخل المنظمة, ويمتد عجزه أيضاً إلى فشله المطبق في إدارة خلافاته السياسية والتنظيمية والفكرية والنشاطية بين فصائله, حيث أخفق في كل محاولاته وتجاربه الائتلافية أو الجبهوية التي أرادت جمع اليسار, أو توحيده تحت قيادة, واحدة أو برنامج سياسي واحد, حيث تعملقت العصبوية التنظيمية وتحولت إلى مرض عضال لا شفاء منه, وتهمّشت أو تلاشت مفاهيم الديمقراطية والوحدة اليسارية, فضاع  دور وحضور اليسار في لجّة خلافاته وعصبوية  فصائله...

سيسيولوجيا الجماعة في العودة...وخيار الوطن على الشتات...

     لا احد يستطيع أن ينكر أن أوسلو قد أحدثت هزّة نفسية عميقة في وجدان الكادر والمقاتل الفلسطيني الذي عاصر أعوام الثورة الفلسطينية, فقد أحدث مشاعر متناقضة ومتباينة في داخل مجتمع الثورة الفلسطينية الذي تآلف على حياة اجتماعية وميدانية واحدة, على مدار سنوات عمر الثورة في الأردن ولبنان والشتات, فمن جهة مشاعر الحزن والبؤس ورفض الهزيمة, بعد ربع قرن من الكفاح الضاري, ومن جهة أخرى مشاعر الانتماء للجماعة التي سكنت  آلاف الكوادر بالرغبة في العودة إلى الوطن مع الجماعة, ما دام قد وقع الفأس بالرأس, لقد تغلّبت مشاعر الحنين إلى الوطن والرغبة في العودة إليه حتى لو تحت الحراب الاسرائيلية على مشاعر الغضب والرفض لأوسلو, والتخلص من النكران العربي لوجودهم في بلدانهم ,  فكان الرحيل من الشتات إلى الوطن, تحت غطاء أكبر عملية خداع استراتيجي, يمثّل ذروة التراجيديا في مسار الثورة الفلسطينية, لكنه مسار سيسيولوجي لجماعة وشعب مقاتل مهجّر, يعود عاشقا  لرؤية تراب وطنه بعد غياب قسري على مدار عقود...

    إن عودة كادر اليسار الفلسطيني إلى الوطن ضمن الجماعة, لا يمكن اعتبارها نقيصة وطنية, أو في اطار قياس  المسؤولية والمشاركة في اوسلو  يلام عليها, إنما النقيصة الفردية أن يتحول الكادر اليساري إلى مثقف يساري يرطن باصطلاحات ومفاهيم اليسار ليس إلا , ويغادر مكانة المثقف الثوري الذي يعمل على رفض وتغيير  الواقع بالممارسة الثورية وليس بالجملة الثورية, حيث اندمج هذا الكادر في الحالة التي أفرزتها أوسلو اجتماعياً وسياسياً, وغادر مرحلة التحرر إلى مرحلة بناء الذات والاستقرار بعد تعب الشتات,  فالانتقال من مهمة نضالية وكفاحية براتب مائة أو مائتين دولار, إلى وظيفة مدنية براتب ألف وآلاف من الدولارات, أحدث نقلة نوعية في نمط التفكيربعد التحول في الواقع , وميلاً واضحاً نحو الاستراحة والاستقرار...

    هذه العودة إلى الوطن بالرغم من رومنسيتها, شكّلت انشقاقاً سياسياً في الرؤية لدى بعض كادر اليسار, محورها أن النضال الوطني الفلسطيني, قد بدأ مرحلة جديدة, عنوانها "بناء الدولة الفلسطينية...!!" والنضال من داخل الجغرافيا "لفلسطين" وليس من جغرافيا الشتات...!!

    وبدأت الماكينة الإعلامية المحلية والعربية والدولية تزين خيار أوسلو وأفضلياته, وخيار (أريحا – غزة) أولاً, وأحلام التنمية وسنغافورة الشرق...وبدأت السلطة تمارس وظيفة دفع الرواتب, ووظيفة تحديد الرتب العسكرية, والوظائف المدنية التي أسقطت في حبالها آلاف من الكوادر التي لم تكن يومأ تحلم بالاستقرار المكاني أو المالي...

    هذا التغيير والانتقال في وضعية كادر الثورة الفلسطينية والكادر اليساري منها, قد أحدث ضعفاً في بنية الفصائل اليسارية فكراً, ورؤية, وممارسة, فأضعف قدرتها على المواجهة مع أوسلو وتداعياته, وبدأت مرحلة جديدة في أزمة اليسار الفلسطيني بانفضاض آلاف الكوادر عن الجسم التنظيمي للفصائل الفلسطينية, إلى حد أن بعض القيادات اليسارية التاريخية قد أصبحت جزءاً من السلطة والعملية السياسية التفاوضية, ومساهمة في التنظير للتسوية مع الاحتلال "مثال وثيقة جنيف" وغيرها...

حدود مسؤولية الجبهة الشعبية...

     وفي السياق أيضاً فإن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باعتبارها فصيلاً يسارياً اساسياً في الساحة الفلسطينية, وكانت مكوناً اساسياً في (م.ت.ف) والفصيل الثاني حضوراً وممارسة وموقفاً ورؤية, تتحمل قسطاً من المسؤولية في تردي الوضع الفلسطيني والوصول إلى مربع أوسلو الكارثي, ليس من منطلق أنها شركية اليمين الفلسطيني في دخول لعبة التسوية السياسية, إنما بسبب عجزها عن تحقيق البديل الثوري عن قيادة البرجوازية الوطنية التي بدأت تباشير تنازلاتها مبكرة ولم يمض على تفجر الثورة الفلسطينية إلا بضعة سنوات لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة...والصحيح أن الجبهة الشعبية لعبت دوراً تصادمياً في منع اليمين الفلسطيني من الصعود إلى منصات التسوية المبكرة, فكان موقفها مختلفاً في عام 1974 حين كشفت عن اتصالات سرية بين المنظمة ووسطاء مع الإدارة الأمريكية, دفعها ذلك إلى الخروج من (م.ت.ف) وكالت الاتهامات إلى المنظمة بشأن التقاطع مع مؤتمر جنيف ما بعد حرب اكتوبر 1973, وكانت تتابع عن كثب تلك الاختراقات السياسية التي تقوم بها أطراف عربية ودولية لتدجين (م.ت.ف) ودفعها إلى أتون التسويات, وعارضت مبادرة فهد السياسية, وعارضت رحيل القوات الفلسطينية من بيروت إلى الشتات العربي, ونبّهت من تداعيات رحيل القوات إلى تونس, والبلدان العربية والتوجّه إلى إيطاليا, باعتبار ذلك طريقاً للطلاق مع فكرة مواصلة الكفاح, وقالت كلمتها بأن الرحيل المؤقت يجب أن ينتهي في البقاع وسوريا, وعملت على تأسيس جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني في لبنان مع الحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي وغيرهم, وعلى جبهة التنازلات المتدرجة, رفضت قرار (242) مراراً باعتباره مدخلاً للعبور للتسوية مع الاحتلال, ورفضت منطق وتصريحات سياسية وإعلامية تتحدث عن الميثاق الوطني بأنه "كادوك" إلى أن وقعت الطامّة الكبرى بالإعلان عن اتفاق اوسلو, الذي أبرم في ليل دون علم أحد من (م.ت.ف) إلا أصحاب المطبخ السري, ولم يكن قد مضى على المؤتمر الوطني الخامس بضعة شهور,. الأمر الذي دفع قيادة الجبهة الشعبية إلى عقد كونفرنس وطني عاجل بسبب اتفاق اوسلو, وأعلنت من خلاله رفضها المطلق لاتفاق أوسلو, وأطلقت عبارات خارجة عن المألوف السياسي والإعلامي على ما حصل من هذه التنازلات بالقول (سادات فلسطين) أو (المنبوذ) في صرخة وطنية تحمل بعداً تاريخياً وموقفاً حازماً من السقوط السياسي مع اتفاق أوسلو, وفي سبيل الضغط على اليمين الفلسطيني المهيمن على (م.ت.ف) استخدمت الجبهة سلاح الخروج من (م.ت.ف) أكثر من مرة بغرض منع الانهيار السياسي وبغرض توضيح الموقف جماهيرياً وإعلامياً وتبيان خطورته, وحين تشعر أو تدرك أن خطر تدمير (م.ت.ف) أكبر من خطر التنازلات المندرجة, كانت تغلب الوحدة الوطنية على الخلافات السياسية, إدراكاً منها أن الخلاف السياسي يمكن أن ينتهي, حين تصطدم القيادة المتنفذة بالمواقف الاسرائيلية المتطرفة والطريق المسدود, إلا أن القيادة المتنفذة كان جلّ همها أنه تحدث فجوة سياسية استراتيجية في جدار الاستراتيجية الوطنية التي مثّلها الميثاق الوطني, ولم تعبأ للوحدة الوطنية كثيراً, ما دامت هي المتحكمة في كل مقادير (م.ت.ف) مدعومة عربياً ودولياً, مما جعلها تعرض على المجلس الوطني الفلسطيني في غزة التصويت على بنود الميثاق الوطني الفلسطيني, استجابة لاتفاق وتفاهمات أوسلو, وقد وقفت الجبهة الشعبية أمام هذا التحول الاستراتيجي, رافضة أي مساس بأي بند أو مادة من الميثاق الوطني, في حين ارتفعت مئات الأيدي موافقة أو متوافقة مع الهيلمان السياسي الذي اسقط الثابت الوطني...

    إن هذه الإطلالة على مواقف الجبهة وتصادمها مع أطروحات اليمين الفلسطيني والنزعات التسووية المبكرة لا يمكن جمعها في هذه العجالة أو المقالة, إنما أردنا منها أن نبين أن الرؤية السياسية المبكرة للجبهة الشعبية كانت دوماً تستشعر خطورة ومآلات التنازلات المتدرجة وصولاً لما هو أسوأ في تاريخ القضية الفلسطينية...

   إن هذه الإطلالة أيضاً, لا يمكن أن تعفيها من المسؤولية عن تطورات الأحداث, والوصول إلى هذا المربع من الأزمة الوطنية, وهي مسؤولية العجز عن تشكيل البديل الثوري الذي كان يجب أن يمنع اليمين الفلسطيني من الانزلاق إلى ما وصل إليه من اعتراف بالكيان الصهيوني, بيد أن هذا العجز لا يمكن إدراكه على أنه لأسباب ذاتية بحتة, إنما لأسباب موضوعية وخارجية متصادمة مع بنية الجبهة السياسية والرؤيوية, هذه البنية التي يدرك العدو الصهيوني خطورتها أكثر من أي جهة أخرى, الأمر الذي دفع كل الأعداء والخصوم والرجعيات إلى محاصرة الجبهة ليس سياسياً فحسب إنما عملياً ومالياً ونشاطياً وأمنياً وإعلامياً, ولا زالت الجبهة على قائمة الإرهاب الأمريكية المجدد سنوياً من وزارة الخارجية الأمريكية...

   كما أن العدو الصهيوني يضع في أولوياته الأمنية مطاردة كوادر الجبهة في كل مكان, ويلاحق أعضاءها وكوادرها وقياداتها في الضفة الغربية, ولا يسمح بأي نشاط فردي أو جماعي لأياً من عناصرها...

    إن الجبهة الشعبية لا تعمل في فراغ, يمكن أن تملأه بسهولة, بل تعمل في وسط موازين قوى محلية وإقليمية ودولية, تجعل من نضالها أشبه من النحت بالصخر, والأكثر إثارة ومسرحاً للعجب أن تضع السلطة الفلسطينية ورئيسها, الجبهة الشعبية كتنظيم مشاغب أو خطر, ويجب محاصرته وإغلاق كل المنافذ عليه, ما دام لم ينطوي تحت إمرة القيادة المتنفذة, ويخضع لإجندتها السياسية...

     ولعل من ضمن الأسباب التي تفسر عجز اليسار الفلسطيني عن تشكيل البديل, هي تلك الأسباب المتعلقة بالعلاقة الأممية مع اليسار العالمي والاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت تمثّل مصدر قوة اليسار الفلسطيني في الساحة الفلسطينية والعربية والدولية, تلك العلاقة التي أتاحت له بأن يكون له حضوراً ونفوذاً سياسياً وإعلامياُ وأيديولوجياً, يحسب له حساب في الساحة الدولية والعربية, غير أن سقوط الاتحاد السوفييتي, وتحلل المنظومة الاشتراكية, قد أحدث زلزالاً, وارتداداته خلخلت بنيان ظاهرة اليسار العالمي ومنها اليسار الفلسطيني , مما أضعف اليسار الفلسطيني وجعله عرضة لتحالف اليمين وداعميه على كل المستويات, وهذا يعني أن العجز له أسبابه الموضوعية كما له أسبابه الذاتية, في حين أن اليمين الفلسطيني قد كوفئ على تنازلاته السياسية وتم احتوائه سياسياً ومالياً, من قبل دول عربية وأجنبية, ترعى صعوده إلى حافة الهاوية السياسية, ومنطق سياساتهم تقول للفلسطيني "اذهب أمامنا وأمّن طريقنا ونحن سنلحق بك...!!" وها هم اليوم يلحقون بالفلسطيني ولكنهم هذه المرة سبقوه إلى حضن الكيان مباشرة...

·   وفي حدود تقدير المسؤوليات, فإن من بين الأخطاء السياسية في إدارة الجبهة الشعبية للخلاف السياسي مع سياسات اليمين الفلسطيني هي اعتماد صيغة التحفّظ على بعض القرارات والتوجّهات السياسية التي عالجت الشأن الفلسطيني, والتي يستثمرها اليمين لجهة أن الجبهة الشعبية لم ترفض, إنما تحفّظت...!!   وفي الواقع إن تحفّظ الجبهة على بعض القرارات والتوجهات هو رفضاً لها, ولكن مراعاة للحد الأدنى من استمرار وضرورة الوحدة الوطنية, وضماناً لمسيرة (م.ت.ف) كجبهة وطنية كانت تستخدم صيغة التحفّظ...

   إن هذا التحفظ كسياسة في إدارة الخلافات السياسية قد أثبتت فشلها, في ضوء أن اليمين لم يراعي حرص الجبهة على الوحدة وقدسيتها, إنما أراد أن يحصل دائماً على ما يسمى "الإجماع الفلسطيني" حتى في ظل التحفّظ...وعليه فالأمر يستوجب اعتماد سياسة الرفض التي تتوافق مع رؤية الجبهة والثوابت الفلسطينية, والتحلل من أي صيغ توفيقية أو تضليلية تحمل أكثر من تفسير...

·   إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مكون يساري, وأن يساريتها تنطلق من وطنيتها وحفاظها على حق الشعب الفلسطيني وتراثه وصون تاريخه النضالي وثوابته, وحرصها على تصليب الموقف الوطني إبان المحطات السياسية المتعاقبة...

    وانطلاقاً من بنيتها السياسية والفكرية هذه, كان لها اجتهاد سياسي حين أجمعت كل القوى الفلسطينية على المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني, اجتهاد سياسي يقول بأهمية أن يكون للمجتمع الفلسطيني والسلطة الفلسطينية, مجلس تشريعي يخطّئ أو يشرّع القرارات والقوانين التي من شأنها أن تحد من جنوح السلطة في ادارة المجتمع الفلسطيني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا , ومحاصرة المواقف السياسية التي تقفز على الثوابت الفلسطينية والحق الفلسطيني كما حدث ويحدث إلى يومنا هذا, كما كان للجبهة الشعبية اجتهاد بأن على كافة القوى والفصائل أن تقف على ميزان الجماهير لترى حقيقة وزنها بين الجماهير ودورها في المجتمع الفلسطيني, وإرساء المنهج ديمقراطي الذي يصون حرية المواطن الفلسطيني في الاختيار لمن يمثله أو يمثل طموحه...

   قد يبدو للبعض  أن هذا الاجتهاد يعد اعترافاً بأوسلو, كون المجلس التشريعي لم يكن إلا شأناً استنسابياً لتداعيات أوسلو... بيد أن الجبهة لم تكن في لحظة تؤمن بـأن لها دور منتظر في أوسلو وتداعياته, وعليه فإنها رفضت مراراً أن تكون جزءاً أو مشاركاً في أي حكومة فلسطينية منذ ربع قرن, مع أي طرف فلسطيني على أرضية أن هذه الحكومات معنية بالعلاقة مع الاحتلال في كثير من وظائفها وتعقيدات دورها المجتمعي والاقتصادي...إلخ... أن المجلس التشريعي لو أتيح له أن يقوم بدوره ووظيفته التشريعية المستقلة  والبعيدة عن السلطة وعن اشتراطات أوسلو, لأمكن له أن يحد من سلوك السلطة وسياساتها التي أوصلت الوضع السياسي إلى ما نحن فيه, وربما لأمكن له في لحظة سياسيه فارقه ان يقدم على الغاء اوسلو كقرار من ممثلي الشعب الفلسطيني  , لهذا فإن الكيان الصهيوني أدرك  مبكرا خطورة وظيفة المجلس التشريعي وعمل على إفقاده وظيفته وشلّ نشاطه التشريعي واعتقال العديد من عناصره, ثم جاءت السلطة وأقدمت على حلّه عبر مرسوم رئاسي...فالاحتلال كان يريده عنوانا للانقسام لا عنوانا  للمواجهة معه او التصادم مع اوسلو ..

    إن اجتهاد الجبهة الشعبية في المشاركة بالمجلس التشريعي قد خطّأته المراجعة السياسية في مؤتمرها السابع, كون المشاركة قد أساءت إلى موقف الجبهة المبدئي من اتفاق أوسلو,في ضؤ محاولة تصويره من قبل اليمين الفلسطيني على انه انخراط في الواقع الاوسلوي  , ولم تكن المشاركة لتقنع الرأي العام الفلسطيني الذي يدرك ويحترم المواقف التاريخية للجبهة الشعبية...

    وهنا يمكن القول أن قياس وحدود المسؤولية قد تصل إلى هذه الخطوة التي لم ترتقي بأي حال إلى المشاركة في أياً من إرهاصات وتفاهمات اتفاق أوسلو....

ابو علي حسن

21/6/2020