الصعوبات الاقتصادية التي تعرفها تونس منذ 2011 وتداعياتها الاجتماعية بقلم: محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-06-30
الصعوبات الاقتصادية التي تعرفها تونس منذ 2011 وتداعياتها الاجتماعية بقلم: محمد المحسن


الصعوبات الاقتصادية التي تعرفها تونس منذ 2011 وتداعياتها الاجتماعية..ما زالت تلقي بظلالها القاتمة على تقييمات مسار الثورة.

في الرابع عشر من شهر جانفي2011،عزفت تونس لحنها الثوري العذب، وتمايل الشعب طرباً، تناغماً مع ألحان طالما اشتاق لسماعها سنوات طوال. قبل هذا التاريخ الجليل، كانت قوافل الشهداء تسير خبباً في مشهد قيامي مروّع باتجاه المدافن،بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شباب تبرعم ربيعهم،وأزهر في بساتين العمر الجميل. شباب تقدموا بجسارة مَن لا يهاب الموت، ليفتدوا تونس بدمائهم الزكية، ويقدموا أنفسهم مهراً سخياً لعرس الثورة البهيج.
كان محمد البوعزيزي أوّلهم،حين خرّ صريعاً ملتحفاً ناراً بحجم الجحيم،ثم سقط من بعده شهداء كثر مضرّجين بالدّم،بعد أن أفرغ حفاة الضمير غدرهم في أجسادهم الغضّة التي سالت منها دماء غزيرة. وفي الأثناء، كانت الفضائيات بارعة، وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية،لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلد كان يزعم حاكمه أنّه من مناصري حقوق الإنسان.
ترى،كم احتاجت تونس إلى مثابرة وزخم ودم ليضطرّ الطاغية إلى الرحيل،ويضطر العالم إلى سماع صوتنا الذي ما كان أن يصل لو لم يكن له هذا الثمن الفادح؟
الإرادة وحدها قادرة على تحقيق نصر ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت.
هو ذا الموت، إذن،كاسراً سافراً،متوحشاً،فجائعياً وفرجوياً،وما علينا نحن الذين أمهلتنا أعمارنا،لكي نعيش ونحيا ونرى بعينين مفعمتين بالرفض والتحدي تلك المشاهد الأليمة التي حزّت شغاف القلب، إلا أن نبارك ثورتنا المجيدة، ونرمي وروداً عطرة على أضرحة شهدائنا، شهداء ثورة المجد والحرية والكرامة.
ثورة الكرامة بمعناها النبيل لدى شعب أوغل ليله في الظلم والظلام،تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنيات،إنّما هي فعلُ وجود يصرخ أمام كل العالم أنّ القهر غير مقبول،وأنّ الحرية والعدالة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما، مهما كانت سطوة الحاكم المستبد،وقدرته العجيبة على مراوغة شعبه، ونهب أرزاقه في دهاليز الظلام.
رسالة تونس الثورية نبيلة في جوهرها، مقنعة بشجاعة شبابها وطلائعها، وقدرة شعبها على الصمود والتحدي،ومن ثم تجسيد أسمى أشكال النضال في سبيل استرداد حقوقه السليبة والمستلبة.ومن هنا،علينا أن نخرج من دائرة المزايدات،وننأى بأنفسنا عن أنشوطة الخوف والترجرج،ونفسح مجالاً لضوء سيصير حتماً بلداً جميلاً.
خرج الصّوت التونسي من الشرنقة التي نُسِجَت حوله،ليعلن،بوضوح تام،أمام العالم أنّ الصّمت موت وغياب،والصمود حضور، كما الفعل الثوري أقوى إنباءً من أيّ كلام.
وإذن؟
هرب المخلوع،يحمل آثاماً ولعناتٍ من الصعب حصرها أو عدّها،تاركاً بلداً يلملم صبره، يكفكف دمعه،ويرنو إلى الأفق استشرافاً لغد أفضل.لم يكن (المخلوع) يهتم بأشعار أبي القاسم الشابي،ولا بهتافات الجماهير التونسية التي استلهمت من شاعر تونس العظيم المعنى النبيل للتضحية والفداء،ولا كان يستوعب المغزى العميق لبيت شعري سيظل محفوراً في ذاكرة الشعوب (إذا الشعب يوما أراد الحياة...فلا بد أن يستجيب القدر،ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر..) كان مهتماً فقط بتكريس زواج رأس المال مع السلطة عقدين ونيّف،ليحصد في ما بعد عواصف شعبية من الغضب العارم والسخط الجارف،تراكمت بفعل القهر،وأصبح الجوّ التونسي،تبعاً لها، يعبق بأسره برائحة الوليد القادم على مهل: "الثورة"، ثورة شعب لطالما تنزى في القيود.
لست أدري إن كان يشعر بوخز الضمير،وطائرته تغادر المجال الجوي التونسي في اتجاه المنفى البعيد.ولست أدري إن كان كذلك قائد الطائرة يشعر براحة البال،وهو يؤمّن هروباً عبر الجو "لشبح" ظل يحكم البلاد والعباد بالحديد والنار،ويسلب خيرات بلاده وأرزاق شعبه تحت جنح الظلام!
في هذا السياق،يرى المؤرخ عبد الجليل التميمي أن التونسيين بمختلف طوائفهم وعقائدهم لم يموقعوا حتى اليوم هذه الثورة العبقرية.
وأكد التميمي في-تصريح صحفي- أن تونس شرّفت العالم العربي لأن شباب الثورة استطاع في مجتمع استبدادي بائس أن ينادي بأعظم الشعارات العالمية في ذلك الوقت، مشيرا إلى أن العالم العربي سيبقى مدينا لتونس بهذه الانطلاقة الاختراقية التي تمكّن التونسيون من خلالها من وضع ملف الكرامة وإنسانية الإنسان موقع جديد وهام في الدولة.
وشدّد الباحث وصاحب مؤسسة التميمي للبحث والمعلومات على أن المؤرخين سيكتشفون مع مرّ الزمن دور تونس الرّائد والطلائعي في كسر الجمود الذي سيطر على العقل العربي والمجتمعات العربية، وأن التونسيون سيدركون أنهم لم يفهموا بعد قيمة هذه الثورة التي زلزلت الاستبداد في تونس وفي ليبيا ومصر وسوريا واليمن وغيرهم من بلدان العالم العربي.
وأكد التميمي أن هذه الحقائق ثابتة ولا يمكن أن ينكرها إلا الجاحدون وأن اسم تونس والثورة التونسية في أجندة التحولات الكبرى بالعالم العربي في القرن الـ21.
وأنا أقول:،عند اندلاع ثورات الربيع العربي، نشأ أمل في الوطن العربي بأن التغيير القادم هو لمصلحة الشعوب،ولما فيه خيرها وتقدمها وازدهارها، فنالت تأييداً مبكراً، إلا أن تسلط بعض الحكام للبقاء في السلطة بأي ثمن،وانقلاب آخرين على العملية الديمقراطية، مهما كانت خسائر الوطن والمواطن، واستعداء شرائح واسعة من المواطنين الثائرين، فجّرت الشعور الفئوي والقبلي والطائفي والمذهبي، فتمزقت الأوطان وتشرذمت،وطغت أشكال الانتماءات على حساب الانتماء الوطني وخيّمت في الأجواء روائح البارود على حساب نسيم الحرية.
في كل مجريات الربيع العربي، تقدّم الهمّ الاجتماعي على الهم الوطني،وكان القاسم المشترك بين الأنظمة التي شملتها هذه الثورات هو القمع وتجاوز القانون وإذلال الناس والمعاملة التمييزية بينهم،على أسس العشيرة أو الطائفة أو الولاء أو الثروة.واللافت ترافق ضعف الحساسية الوطنية تجاه إسرائيل وأمريكا مع اندلاع الثورات العربية،ما يؤكد أن الاستبداد العربي المترافق بشتى أصناف الفساد وانعدام المحاسبة حليف موضوعي للاحتلال.
ولكن..
لا يزال الاقتصاد التونسي إلى اليوم يدفع ثمن تواتر الحكومات وعدم الاستقرار السياسي الذي لم يتسنّ لأي منها ضبط وإتمام برنامج اقتصادي يحقق الحد الأدنى من المطالب الشعبية للتونسيين الذين أطاحوا بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في العام 2011.
بعد نحو 9 سنوات من الثورة الشعبية العارمة التي أطاحت بحكم بن علي في العام 2011، لا تزال تعاني تونس من البطالة والتضخم وترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى ارتفاع أسعار السلع وتراجع قيمة العملة المحلية، ما فاقم الأزمات المعيشية للمواطنين.ولم ينجح 5 رؤساء حكومات من مختلف الانتماءات السياسية والمشارب الأيديولوجية في إخراج البلاد من أزماتها غير المسبوقة،بقدر ما زادوا من مشاكلها على جميع الأصعدة.
ختاما أجازف بالقول:ورغم مساحة الحرية التي توسعت ممارسة وتشريعيا والتقدم الذي سجل في المسار السياسي مع تنظيم الانتخابات البلدية الحرة الأولى منذ ثورة 2011 في ماي 2018 لترسيخ المسار الديمقراطي في البلد الوحيد الناجي من تداعيات ما يسمى ب" الربيع العربي"،فإن الصعوبات الاقتصادية التي تعرفها تونس منذ 2011 وتداعياتها الاجتماعية ما زالت تلقي بظلالها القاتمة على تقييمات مسار الثورة.
ولنا عودة إلى هذا الموضوع عبر مقاربة مستفيضة

محمد المحسن (كاتب تونسي)