قراءة سيكولوجية للبروفايل النفسي للشخصية الفلسطينية بعد سبعة عقود من النكبة
تاريخ النشر : 2020-06-30
قراءة سيكولوجية  للبروفايل النفسي للشخصية الفلسطينية بعد سبعة عقود من النكبة.

إعداد دكتور/ محمد عوض توفيق شبير

دكتوراه الإدارة التربوية

"الكبار يموتون والصغار ينسون" منذ أن  أطلق (بن غوريون) مؤسس الكيان الصهيوني هذه المقولة البراغماتية لم تفارق الواقع جدلية التغييب والحضور على مستوى الذاكرة قصيرة وطويلة المدى لدى الشخصية الفلسطينية، وكذلك جدلية الصراع مع عنصر الزمن التي يُراهن عليها المحتل كأساس لخلق تكوين نفسي جديد، وبُنية عقلية مغايرة للشخصية الفلسطينية يتراكم فيها البناء المعرفي المُعدل والمُفصل على مقاس الرغبة الصهيونية، القائم على عملية غسيل للدماغ من خلال إيحاءات نفسية للحياة اللاواعية في التكوين العقلي للفلسطيني بحيث تتكفل بتغيير الصورة الذهنية للمُحتل الإسرائيلي كإنسان يمكن قَبوله، وفي نفس الوقت يستحقر فيها الفلسطيني ذاته عبر ادخاله في حالة من لوم الذات الدائم وجلدها باستمرار على ما أقترفه من صد لقبول الإسرائيلي من خلال الإدانة النفسية للذات، وشعوره بالندم الدائم وبالذنب كونه انتهك إحدى المحرمات الإنسانية والتي شكلها الإسرائيلي في وجدان العالم، وكذلك تصوير الفلسطيني كشخصية مستسلمة عاجزة ومُنهكة جراء حالة التوهان الفكري اللامحدود التي صاغها المحتل عبر افتعاله للأزمات الممنهجة، وبأشكالها المتنوعة، وأصنافها اللامحدودة.

وفي ظل هذه الحالة عاشت الشخصية الفلسطينية أخطر أزماتها على المستوى السيكولوجي والتي تمثلت في أزمة الهوية(هوية الوجود) والتي تمحورت حول صراع الوجود أكون أو لا أكون، وقد نمت هذه الأزمة عبر حالة التضاد المباشر مع توجهات الفكر الصهيوني، حيث عاشت هذه الهوية ظروف الاضطهاد بما يحوي هذا المفهوم من دلالات قاسية، وسط تعرض الفلسطيني للقساوة اللامتناهية من خلال حالة سوداوية سعت لتفكيك كل السياقات التي ارتهنت للحقوق التاريخية والتي تشبث بها الفلسطيني. إلا أن الصمود النفسي للشخصية الفلسطينية قد أكسبت الفلسطيني نوعاً من المناعة النفسية والتي بدورها جعل الهوية الفلسطينية قادرة على التعايش مع الصراع بعقلية متفهمة لطبيعة الصدام الدائر بين هويتين تحاول أحداها طمس الأخرى. إلا أن السؤال الأهم في وجدان الفلسطيني ما زال قائماً وهو سؤال الوجود؟ أيُنا أحق بالوجود؟ وهو ما يفضي لحالة القلق الوجودي وصراع البقاء. حيث إن البحث عن الإجابة لهذا السؤال يُشعل صراع الذات والفكر ما بين إقدام مؤلم، وإحجام مُحزن.

وفي خضم حالة الصراع القائم سعت الأيدولوجية الصهيونية لإدخال الشخصية الفلسطينية في حالة تقمص وتوحد مع المعتدي استناداً للتفسيرات السيكولوجية القائلة بأن المهزوم مولع بتقليد المنتصر! والعيش في عباءته وذوبان الشخصية الضعيفة(الفلسطيني) في مركبات الشخصية القوية(الإسرائيلي)، والسير نحو تفكك الذات وطمسها لتعيش حالة من الاغتراب، والأسى، واليأس النفسي، وهو ما أفضى لحالة من التناقض مع ما هو واقع وما سيقع وتشتيت للفكر وتحويل اتجاهاته من أهداف محددة ومنطقية إلى حالة من العبثية الفكرية في كل الأزمنة والأمكنة.

وقد عَمد المحتل في عقود احتلاله التي ما زالت قائمة لممارسة ساديته بأعنف صورها، والاستمتاع والتلذذ بعذابات الطرف الفلسطيني حيث جاءت هذه الممارسات من طرفه لإشباع رغبات دفينة ومكبوتة لديه قائمة على العنف وحالة العدائية الشديدة التي لا تنفك عن سلوكياته اليومية، وقد سعى من وراء هذا لإيجاد حالة استسلام مازوشية تتسم باحتقار المقهور لذاته، وتقديس وإعلاء شأن المتسلط بحيث يُقحم الفلسطيني في طُرق لإيجاد آليات دفاع نفسية قائمة على التأقلم والتكيف السلبي بالإكراه مع تلك الممارسات السادية الصادرة عن القوة الفوقية بحيث يتعرض فيها عقلية الضحية للاهتزاز الدائم وينتج عنه عدم توازن في نمط الحياة على الصعيد الشخصي للفلسطيني أو حالة توازن وهمي تدعيه الضحية كنوع من الإنكار النفسي لوجود الألم المتجذر في كينونة الفلسطيني.

وبالوقوف على أبرز مركبات الشخصية الفلسطينية التي حاول الإسرائيليون استهدافها في شخصية الفلسطيني وعمدوا إلى تحطيمها والتأثير عليها بشكل سلبي هو المركب السيكولوجي، والعقلي حيث أدرك الإسرائيليين عبر قراءتهم التاريخية لحالات الاحتلال في العالم أن أقوى طريق للسيطرة على الجغرافيا المكانية هو السيطرة على الجغرافيا النفسية والعقلية للفلسطيني وقد تمثلت ممارساتهم في هذا السياق في خلق حالة من الشك الدائم في الذات وما يصدر عنها من تصرفات وشعور الفلسطيني بالذنب على ما يقوم به من مطالبة بحقوقه، من خلال  تحويله إلى شخص مُحطم وفاقد للثقة في نفسه، وزعزعة شخصيته في سبيل تجريده من عقيدته النضالية، ومن قناعاته الوطنية والتأثير عليها بإيحاءات نفسية لمحو وطمس ذاكرته الوطنية، مما يُسهم في شيوع حالة اللامبالاة وتبلد الأحاسيس لدى الفلسطيني ولجوئه للانسحاب والعزلة والانكفاء على الذات،  وعدم الافصاح عن مشاعره وتحطيم البناء النفسي له.

إن نزعة التوحش اللاإنسانية والبعيدة عن قيم البشرية التي مُورست ضد الفلسطينيين،  ولحظات الوجع والانكسارات المتتالية التي عايشها الفلسطينيين، قد تركت آثاراً أليمة على كل مُركبات الشخصية الفلسطينية وهذا لا يُنكره أحد لأننا نُشاهد ونُعايش عداء وصراع بين قوتين غيرُ متكأفتين في كل شيء، وقد أوصلت الفلسطيني لحد الهذيان جراء قساوة المشهد، وقتامة المستقبل، وحالة اليأس والإحباط النفسي، وتلاشي الأمل المزروع في وجدان الفلسطيني نتيجة للوجع اليومي، كما ورهنت مزاجية الفلسطيني لحالة الاحتقان الدائم نتيجة للإرث الثقيل من المعاناة اللامعهودة في تاريخ احتلال الشعوب واضطهادها. 

والسؤال الأهم الآن: ما هي ملامح البروفايل النفسي للشخصية الفلسطينية بعد سبعة عقود من النكبة؟

إن تشخيصنا لواقع الألم النفسي الكبير للشخصية الفلسطينية، وحالة الانتكاسة الدائمة بعد حالة التعافي الظاهرية التي يعيشها الفلسطيني نتيجة لفترات انخماد ثورة البركان النضالي، والادعاء الكاذب بالسلامة النفسية قد أوجدت مسارات فكرية جديدة لدى الإنسان الفلسطيني. حيث أعتبر الفلسطيني ما يعيشه من ألم بمثابة تجربة نمو نفسي على مستوى البناء المعرفي والخبراتي للشخصية حيث إن تراكم تلك الخبرات المتولدة عن التجارب التي عاشها العقل الجمعي