بين الفؤاد ولعبة الضمير بقلم:أمان السيد
تاريخ النشر : 2020-06-30
بين الفؤاد ولعبة الضمير

 ذاك التطواف في أرض مستحدثة، غريبة عنك وجدتَ نفسك فيها ضمن سياق أحداث لا يد لك فيها، ولا حول، ولا قوة تجعل أمامك أكثر من لغز يحرّك فيك تساؤلات للبحث عن مفاتحها، وقبلها ستشبّ العوامل التي دفعتك إليها مثل جدار أصم يخزق روحك، وبلا وعي ستجري مقارنات مُبيّضة الصفحات متسلسة، ومشرعة على البحر مثلا، أو الغابات، أو المحيط لأنه استطاع أن يغمرك بالدهشة، وبالاحتواء في الوقت نفسه رغم ما يغوص فيه من الخفايا والمَخفيات، والمُفترسات، والكنوز أيضا.

 وكلاجئ تغرق أرضك بالكفر والجحود بالإنسان تتساءل عن الظلم متى بدأ، وهل له موازين، أم هل له تسهيلات، واستباحات، ومعايير هي تحقّ لبعض الجهات، والأطراف، وتُمنع، وتُحجب عن أخرى؟!

 هذه الأرض التي تخطو بقدميك عليها، وهما ما تزالان حذرتين، رغم أنك قد غدوت من المنتمين إليها بإرادتك. أية إرادة تلك، المبهمة عليك، ولعلها مجموعة أقدار لها شكل مختلف عما تعارفت عليه أذهان البشر وتصنيفاتها، جعلتك تجري بقدميك إليها رغم أنك تشعر بأنك مقيد بشدة إلى سلاسل وأصفاد حديدية، ومع ذلك أنت تسير، وتسير، وتبتسم لكل شيء!.

 هل حقا أنت تبتسم، أم أن شفتيك قد أشفقتا عليك وعلى نفسيهما، فشقتا فُرجة على ما يدور حولك، أو لعلهما أرادتا أن تريا ما لم تره أنت، أو لعلهما تريدان أن تشكرا العالم الجديد، لأنه سهّل لك الخلاص الذي يحلم به، ويتمنّاه غيرك، حيث لا رصاصة توجّه إلى كلماتك في مسارح الفضاء الكتابي الذي تنحني لمُخترعه النّافر عن انتمائك، ومعتقدك لما أبدع لك، ولأمثالك من اللاهثين وراء الحرية من مساحات تتّسع لتستلقي فيها بكلماتك، وتصرخ بما تؤمن به وأنت آمن تماما، فلا غاز السارين، أو خوابٍ كيماوية ستبيدك من فوق رأسك، ولا من حولك، وأنت تتنقل تحتها مثل عصفور تتقزّم المساحات الوارفة تحت قدميه، وتخنقك مُسيّبة الزّبد من فمك أمام عيون ترتدي البله، والاستغباء أقنعة، وسرائر. زبد هو بالطبع لن يرقى إلة رقة زبد البحر حين يكتب قصيدة، ونار براميل سماوية ليست بالطبع كنار العشق التي يستلذ بها قلب العشاق، ولا نار جهنم الله الأرأف التي تنتظر العاصين، والمجرمين، وليست شبيهة بخنجر هيؤوه ليجزّ حنجرتك، ولسانك المتدلي من سقف حلقك المزمجر بما فيك، حنجرتك لا تضطر إلى تفقدها هنا، إذ تتقلدها حرّا، بها تغني متى شئت لله، وللحب، وللإنسان المُدان، والمحقون، والمضطهد، ولركن اكتشفت اليوم أنه أجمل مكان للتعبد، صومعة مثالية لقراءة كتاب تصبّ منه جامّ غضبك على من يسيّسون العالم لمصالحهم، ويحشرونك في جلود طوابير المنسيين في هذا المترامي الأطراف الذي استبدل القيم، والأخلاقيات بالعهر، والانحدار، والانحناء، وبقهرك، وباستلابك.

 أرض لم تتصفحها من قبل، ترتّل للإنسان ألحان التعظيم، والتّقدير بدءا من مهرجانات أضواء الإشارات والتّحذيرات والقوانين في الشوراع حرصا عليه، وانتهاء بتصديق كل ما يدّعيه مواطنوها أمام المحاكم والمنصّات الرسمية، وإن كان رياءً، إذ يُفترض أنه الصدق، لا غير، تلك الأرض هي نفسها التي حلمت بها يوما بديلا عن وطن هجّرك عنه ظالموه، ومستبدوه، فنأيت بعينيك، وخلّيت قلبك هناك، ثم إنك رحت ترثي الوطن، وتبكي، في كل رفّة صبح وخفقة عتمة، تبكي، وتمسح دموعك، الأرض التي استقبلتك باحتفاء، ووهبتك صدرها، وذراعين حانيتين، هي نفسها التي ركزت رايتها الفاتحة ذات يوم في تراب كان يخصّ شعبا وادعا محبّا للحكايات وللأساطير بالفطرة، والانعتاق، وبفطنته قرأ البحر، وشرق الغابات برحابة صدر مستنبطا منها الحكمة والعشق وسديم العيش، لم يكن همه أن يستقصي ما وراء أرجوان الشمس وهي تغطس في المحيطات اللامتناهية، ولم يكن همه البحث عما يستر عورته، إذ أيقن ألا عورة إلا عورة الفؤاد، وبؤبؤ الضمير، ولم يكن من تطلّعاته أن يبني ويعلي أبراجا، ودكاكين، أو يتعلم القراءة، والكتابة، ويرفل في أثواب حضارات مزيفة، ويعزف على أوتار مدنيّةٍ لعله بالفطرة سَبر طلاسمها، ودهاليزها حين تعلم لغة الأمواج، ونواح القصب، ومصاحبة أصدقاء آخرين غير مرئيين لسواه، وترانيم قصائد الروح التي تضجّ بها خيالات الأشجار في أعماق العتمات، وتعلّم أنّ من تسكر روحه ببهاء الفطرة لن يعرف التّشويه، ومع ذلك اقتيد مصفّدا بالسّلاسل مثل جروٍ مسلوب الإرادة، انتزعه الأبيض، وأعمل فيه سكاكينه، مستكثرا عليه تلك الحياة التي أمامها شعر الأخير بسقوطه منذ أول اللحظات، حياة تميّز من تهبهم ذاتها، ولبابها، وتعرف أمام من تستأثر، وتمنع بهاءها، الأبيض الذي اعتقد أنه سيغلبها، وهو يجرجر آدميّها مقموعا ممحوقا، أو ملقّما للمحيط المُحملق في كل ما يجري برعب، يتابع أطفاله، وهم يُنسَلون من منه، ويتلقّم أجساد السّمر المرميين فيه بلا ذنب اقترفوه سوى أنهم يجب ألا يعيشوا، في حين كان الفضاء يردّد مع الفاتحين أغنية الظلم البكر على هذه الأرض التي تتغنى اليوم بعدالة إنسانية لا يشك مطلقا في أن الجميع يتنعّمون بظلالها، ودفئها.

 وكلاجئ ينوح فيك القلب، تبوء بإثم كونٍ تتداخل فيه الممارسات، والمتناقضات حتى لتكاد في بعض الثواني أن تتزعزع في كل ما تحمله، فهل حقّا تُراك أدركت، وتدرك مكنونات القيم، وكهنوت قداديسها، أم أن مثلك الأجدر به أن يكتفي بأن يستتر في حروفه، وفيها يستبيح ما لا يجب أن يجسده كينونة مرئية؟!

 وكلاجئ.. كلاجئ عليك فقط أن تكتفي بالتّداخل، والطّواف في حلقات الضوء، وسكائب ألوان وألحان تزخر بها المتاحف تراثا لسكان بلاد أصلاء سُلبت منهم بلادهم، نفسها التي استقبلتك مع المنفيين، والمشرّدين، وكثير من الطامعين، وأن تتمتم: أنّى ليدٍ سلبت أوقتلت، أن تتمّكن من تقليد تلك الدوائر الصغيرة، والزّخرفات التي أبدعتها أيدي فنانين ألهِموا الحرية صادقة، فتعلّموا كيف يبتكرون هالاتٍ تنفذ إلى الروح بحلاوة السّحر، وهناك خلّتها لأمثالك ممن يقاسمونها الشّجو، والشّجن، وعبق الحرية، وقد استشعروا بحسّهم المرهف أنهم سيبادلونك الأنفاس ذاتها، هنا حيث الفضاء مشرع للذكريات، والمقارنات بحلوها ومرها، أرض أوسع من المدى رسّخت ذاك النداء، فلبّيته، ونقشت اسمك مع الناقشين، وقد نبت عنك هوية تسربلتَ بها عمرا، ورحتما معا تسموان إلى فقدٍ يؤرّق الجفون، ولكنها فاقتك سطوة حين أبقتك السابح مأسورا في تجليات ألوانها، وألحانها، وأنغامها التي تتسلق النجوم، فرحت تشرد منتشيا وراء بشر تعرّوا إلا من نقائهم.   

أمان السيد

كاتبة سورية أسترالية