رحلة في براري القدس بقلم:محمد موسى العويسات
تاريخ النشر : 2020-06-29
محمد موسى العويسات
رحلة في براري القدس....
قالتْ وقلتُ فأوصتْ فكتبتُ
العنوان الذي كان يراودني من لحظة انطلاقي من بيتي في قرية الشّيخ سعد (أحد أحياء جبل المكبر) عند الرّابعة عصرا، هو (الرّحلة المَسِيَّةُ في المرابع الأُنسيّة والدّيار العذّيّة)، ولا شكّ أنّه من وحي عناوين الرّحلات الصّوفيّة، ولكن لمّا نشرت بعض الصّور من تلك البلاد، معلّقا عليها بأمثلة عربيّة أصيلة: المَربى قتّال، و(المربى اسم مكان من ربا أي نشأ، فالمربى هو المنشأ) ومنها البلاد طلبت أهلها، ومنها الإبل (الْبِلْ) حنّت لأهلها، وتلك والله ثلاثة وقفت عندها وقفت تدبّر وبيان، أظنّها جميلة وطريفة، ولكن لن أثقل النّصّ بها فيملّني القارئ ويملّها. فلمّا نشرت هذا على موقع التّواصل (الفيسبوك) كان تعليق الأستاذ الأديب اللغويّ المقدسيّ إبراهيم جوهر قد غيّر العنوان الذي كنت أفكّر فيه، إذ سأل: ماذا قالتْ لك؟ وماذا قلتَ لها؟ هل حمّلتْك وصيّة؟ ثلاثة أسئلة، نقلتني من فكرة الوصف السّاذج للمكان والبكاء على الأطلال إلى ما هو أبعد، فتلك ثلاثة دعتني لربط المكان بالزمان الماضي والحاضر، واستشراف القابل من الأيام... وإن فوّت حرصي على الأسماء بعض التّشويق... فنظرت في العنوان مليّا، وحاولت أن أصنع منه عنوانا وإن كنت أقرّ بعجزي عن الّنحت فقد اهتديت إلى عنوان: قالتْ وقلتُ فأوصتْ فكتبتُ... البداية كانت من مبدأ تلك الدّيار، اختلفت مع نفسي، من أين أبدأ السّلام عليها؟ فقلت من حيث تهبّ النّسائم بعبقها. فبلغت ورُفقتي حاجز الاحتلال العسكريّ المسمّى الكونتينر ( كلمة تعني الحاوية في الإنجليزيّة)، زوّروا به اسم الموقع الذي تعارف عليه قومنا منذ أواخر حكم الإنجليز يوم شقّت هذه الطريق المسمّاة طريق وادي النّار قبيل النكبة بأعوام قليلة، كانت تربط الخليل وبيت لحم بعمّان، فأُطلق حينها على هذا الموقع اسم (قهوة حجازي) لمقهى هناك لأحد رجال آل حجازي من عشيرة الهلسة. الكونتينر أو الحاوية اسم يناسب الحاجز العسكريّ، والحاجز هناك يعني لك، أو يعني لي أنا، أمورا لن أتجاوزها وإن طال الوصف عليك، وأن كانت فضل بيان، هو نقطة فيها يُفصل جنوب الضّفة الغربيّة ممثلا ببيت لحم والخليل وقراهما عن شمال الضّفة رام الله ونابلس وجنين وألحقْ بها الأغوار ومنها أريحا. يُفصلانِ بغلق بوابة حديدية بلمسة زرّ من جنديّ لا يُدرى من أين أتى. الحاجز يعني، وكما كلّ الحواجز الموت، فتشعر أنّ ملك الموت يحلّق في المكان، لا تدري على من يقع الاختيار في تلك السّيّارات المنتظرة عبورها في الاتجاهين في صمتِ قهر وذلّ مكبوت، بالأمس وقبل يومين من رحلتي هذه كانت إحدى الضحايا أحمد عريقات، ليكون الرقم العاشر أو يزيد في العابرين إلى الموت من هذا الحاجز، الحاجز يعني لي أنّ من فاوض على الأرض والإنسان ووقّع الوثائق قد خان، الحاجز يعني لي أنّني لن أبدأ من عنده السّلام على الدّيار، فهو رمز لخرابها، من حيث ندري أو لا ندري... لفت انتباهي في منتصف الدّوار الجديد لافتة كبيرة للمجلس البلديّ كتب عليها: رافقتكم السّلامة، عبارة وداع أكرهها، منذ طفولتي، تذكّرني بعبارة أمّي رحمها الله، وهي تودّعنا عصر كلّ يوم جمعة من مضاربنا في الضحضاح أو المخبيّة أو المنطار، بعد أن نقضي عندها بعضا من يوم الخميس وليلة الجمعة وبعضا من نهار الجمعة، لنعود إلى القرية إلى بيتنا العتيق، إلى حضن الجدّة العجوز، لنكون أقرب إلى المدرسة في جبل المكبّر، كنا خمسة أطفال وأحيانا ستّة أو أكثر، كنّا نبكي لفراقها وهي تشيح وجهها عنّا كي لا نرى دموعها، وتقول مع السّلامة... ما كان يجب أن تكتب تلك العبارة، لأنّها تعني منتهى القريّة، أقصد السّواحرة، فأين ما تبقّى من عشرات الآلاف من الدونمات التي تبلغ عين الفشخة شرقا؟!... من سلخ تلك الدّيار التي هي الأصل والمربى، هي البلاد، وحَصَرَ الانتماء في كومة حجار مكتظّة؟!... لا أكره التمدّن، فأنا غارق فيه، ولكن أكره الانسلاخ من جلدي، أكره الفطام عن ثدي أمّي... أكره النّسيان... وجدت الدّيار عاتبة... وجدتها غارقة في انتظارٍ قاتل... تتأمل وجوه المارّين... تعرف وتنكر... هذا أعرفه وهذا لا أعرفه... وجدتها تئن وجعا من ذراعها الشّماليّ... بيدر العبد والِعْلِليّات وشعب القطفة... أصبحت تسمّى (قيدار)... ذلك الكتف الذي يطلّ على وادي أبو هندي... بدأت السّلام على الدّيار من عند قبر موسى الأطرش والمخروم والصّرارات فوادي قحطان... لم أرها ابتهجت بالطريق المرصوفة في خدمة ذاك المستوطن الذي وصل القلب عبر الشّرايين الخبيثة... وجدتها لا تريد إلا تلك الطّريق التي عبدتها القطعان والدّواب وأناس يدبّون عليها دبيب العشق في أرواح المحبّين... ومن على الضحضاح كانت لي وقفة... أجمل بتلك الإطلالة... حار البصر في أيّ اتجاه يرنو... يجذبني جبل المنطار... وتدافعت الذّكريات... مهلا يا جبل المنطار... يا حكاية شموخ أجدادي... فلك منّي سلام خاصّ... هناك عن شمالي مرج فرحة هنا عرقوب الخلايل... هذه جورة البقرة... التفتُّ جنوبا... حيث رتقة عامر، وعماير القنبر، وخربة أبو غنثور، وشِعاب التّتن... انزلقنا قليلا لنكون من بير موسى قاب قوسين أو أدنى... درست القنوات المخصوصة بجلب مياه الشّتاء إليه... ذاك البير الكفريّ ذو الماء الشّبِم.. المنحوتُ على عِظَمِه في الصّخر... لا يُدرى من فطره...... هنا توقّفت الذّاكرة لتقصّ حديث النّفس للنّفس... هنا تنازعوا في شبر ماء... من يسبق إلى تجهيز القناة كان له من الماء شبران... هنا كنت طفلا... ولمّا سجّتْ الغنم بعد وِرد الضّحى تعلقت بصوف نعجة ثنيّة فطارت بي فرمتني على صخرة لتدمي وجهي وتكسر أنفي... بقيت آثار الدّم على تلك الصخرة أياما... هنا وعن يمينك سوط بير موسى يمتدّ في حدب جميل يطلّ من الشّرق على دار السّوق... ومن الغرب على جنجس وهو مرج من أخصب المواقع كمرج فرحة أو أزيد... هناك في طَرَفه كان رُجْمٌ لقبر الشّعفاطيّ، بقي شاهدا على الثورة الكبرى ثورة عام1936... هناك في جنجس شقّ عرب الشّقيرات أكياس الشّعير على سلاح للثّوار وصل للتوّ من الشّام... فدهمهم الإنجليز بخبر مُخبر... فلما خشَوا الدّرك ولم يتمكنوا من إخفائه أفرغوا الشّعير على السّلاح وجُمعت عليه مئات الأغنام... وبعد تفتيش بيوت الشّعر رجع فرسان الإنجليز يجرّون أذيال الخيبة... وفاز الثّوار بالسّلاح... وهذا بعض وفاء تحفظه تلك البلاد... وفي منتهى جنجس وادي المِهواة... وله قصّته... ويقود السّوط سوط بير موسى إلى دار الدّبّة... يا لهف نفسي على دار الدّبّة؟ تلك الهضبة التي تعلو وادي رهوة وتطلّ على شعب سرور... شعرت بأنينها... أنين مثقل بالقيود... ونحيب مغتصبة... شُقّت إليها من الشارع نفسه الذي نسلكه باتجاه المنطار طريقٌ ترابية مرصوفة... في مبتدئها نصبت (حمّرة) بئر... صخرة ضخمة مستديرة بسمك المتر تقريبا مثقوبة في وسطها بدائرة قطرها نصف متر... عن أيّ الأبار نزعت، لا أدري، ما أدريه أنّ عليها لمسة أجدادي...وآثار مطارقهم وأزاميلهم... وخطوطا تركتها حبال الدّلاء الجلديّة في حوافّ الدائرة الداخليّة... كأنّها أسرّة في وجه عجوز مشمئزّ... لم يشهد في زمانه فسحة لسرور... أو جرت عليه الأقدار بما يسوء... عُلّق على تلك (الحمّرة) ورقة كتب عليها كلمة عبريّة بخطّ يدوي (لِحَتُوْناه) أي إلى العرس... ومن فوقها سهم يشير إلى دار الدّبّة... وقفت عندها... هل قضي الأمر، وأصبح (بوعز) صاحب أرضٍ مسيّجة وقطيع من الغنم... وعدد من البيوت المتنقّلة؟!... هل أصبحت دار الدّبّة مَعْرسه... (مَعرَس بوعز)... يؤلمني شكواها... من يقبل لها تلك النّطف الدّنسة؟ قالت: هناك مَعْرَس سرور... هناك مَمَات أبو دهيم... هناك مَقتل غنيم... هناك وهناك... أمّا (دار بوعز، أو حاتوناة بوعز) فغريب عليّ، غريب يا ولدي... من جاء به ليقتطع بضعة منّي؟ ألا تكفيني تلك المغتصبة المقتطعة المسماة قيدار... (قيدار اسم تاريخيّ لعاقر ناقة صالح عليه السّلام)... من عقر الدّيار؟! وتنكّر للبن أمّه؟!... نتقدّم قليلا ليكون على شمالنا أمّ الرّتم... اليوم لا رتم... ولا علي سالم درجة... ولا النّقطة الرابعة الأمريكيّة التي شقّت الطّريق للتنقيب عن البترول في جبل المنطار في زمن حكومة الأردن... شِعب سرور على يمينك... قصّة أخرى... ما زال عامرا ببعض أهله... وعن شمالك ظَهرة أمّ شعبين التي تسلمك في منتهاها إلى أمّ دسيس ووادي الدّكاكين... القصّة طويلة... وتطلّ على على سهل جميل ذي تلال صغيرة يشقّه وادٍ ينحدر من جبل المنطار... إنّه دمنة بني هلال... تعلوه من جهة الشرق ظهرة المخبيّة... هشّت لي الأرض لتذكُّري تلك الأسماء... فأخجلتني ببراءتها... أيكفيكِ أن أتذكّر أسماء الشّعاب والخلال والبطنان والوديان والكهوف؟! قالت: وذلك أضعف الإيمان... رحل الأهل... وبَقيتُ خرابا... اشتمّ في بعض الزائرين رائحة من نزلوا شعابي وشربوا من مائي وتعفّرت وجوههم بنقع ترابي... ودرجوا على أشواكي... تنفّسوا هذا الهواء العليل... فكنت شفاءً للصّدور... لماذا أطلتم الغياب؟ كنت أتمنّى يوم الوباء لو فئتم إليّ... لأحصنكم من هذا البلاء... هيّا تنفّسوا بعمق... واملؤوا الصدور بنسائم الشّرق التي تهبّ من تلقاء الكرك والطفيلة ومأدبا وعمّان والسّلط... ومن نسائم الغرب حيث بيت المقدس...
ومن ثغرة رهوة يبدأ الصّعود نحو قمّة المنطار... في بطن الجبل وثنيّاته آبار... ومغارات... ومنازل... كانوا تعظيما لهذا المكان يقولون (عرب المنطار).. ومن على الجبل تنظر فتشعر أنّك تطلّ من جوّ السّماء... لترى القدس بطورها والمكبر وأبو ديس والسّواحرة والعبيدية ومدينة بيت ساحور وبيت لحم وقمّة الجبل الذي يحتضن بيت جالا... ترى جبل الفريديس وقرى من التّعامرة لا تحصيها... إذ تختلط الأنوار... وأطرافا من سعير... من جبل المنطار ترى عناتا وأطرافا من شغفاط وحي الأقباط من الرّام وجبع وبرقة والطّيبة ودير جرير وقرى أخرى من شرقيّ رام الله... ينهكني التّعداد.... وتأسرني لوحة من الأنوار بين سطوع وخفوت... كأنّها قطعة من السّماء فُرشت في هذه الأرض الطّهور... ومتى أنثني بوجهي نحو الشرق أطلّ على البرّية الشّرقيّة.... الزرانيق والبقيعة وجوفة شرف... أمّا البقيعة... فما زال منتهى السّهل الغربيّ المحاذي لتلك الهضبة الورديّة الجهموم... (ربّما اشتقّ اسمها من الجهم والتجهّم)... ما زال يئن تحت وطأة معسكر للمحتلّ... أعلن قبل أعوام أنّها أي البقيعة ستكون مطارا... لا يروقني أن أسمع هذا الخبر أو هذه الإشاعة... أريدها كما عهدتها في الرّبيع... قطعة خضراء من الجنان... وفي الصّيف تستعير صفرة الذّهب لتسرّ النّاظرين... كانت بيدر القمح ومخزن التّبن والشّعير... إلى أن جاء الاحتلال... فكان أن شوهّها بدباباته وقنابله في مناورات لم تهدأ إلا من عهد قريب... وبقيت هذه الأرض هاجس الشّرفاء والأوفياء، لم يُجِب أحد عن سؤالها الملحاح الذي أقضّ مضجعها: أمصادرة بالقوّة أنا أم بيع وشراء؟! قالت: والموت بأيديهم أهون من خيانة القريب... أقسمت لها أنّي ما خنت ولا جديّ ولا أبي... ماتوا على العهد... وأنا اليوم لا أراك أيّتها الصحراء إلا جنّتي في الأرض... ولو خنتك ما بكيت على الأطلال... انظري في عيني أخي أبي معاذ... ظننته يمسح عرقا فإذا بها دموع الحنين... ألف قصّة... ألف ذكرى... ألف حنين... كنّا قد هبطنا إلى الزرانيق... زرت بير الزّرانيق... قد أُحدثَ عليها بعضُ ترميم... لكن آلمني تلك (الحمّرة) العظيمة... التي قطعت من الدّمنة في مطلع القرن العشرين... وجرّها سبعة وعشرون رجلا حتى وضعوها على تلك البئر... واليوم تُخلع وتلقى جانبا بلا قيمة... وسرّني أن رأيت قطيعا من الغنم المعز والضّأن يرِدها... قد غدت سبيلا لأرواح من فطروها... وقفت عليها فشعرت بالنّشوة أن أمتلك أنا وإخوتي نصف هذه البئر... وسرّني أنّها عامرة وفي أيدي أمينة... فشكرت لأبي نايف خليل ولأهلنا الهذالين الذين أقاموا في بعض تلك البلاد ومنحوها بعض الحياة... وغير بعيد كنت أطلّ على سَدّ العِقاب أو كما يسمّيها إخواننا من عرب الجاهلين (العقابي)... أبرز الأماكن الأثريّة في تلك النّواحي... فهو كجبل مَرْد الذي لا يبعد عنه كثيرا.... تأمّلت المكان... لا بل كنت أسترجع شريط الذّكريات من الطّفولة... حننت للغرابي وأمّ سربوط وأمّ الفووس والبويهي وغيرها... عاجلتنا الشّمس بالمغيب... وأخذ الليل يتسلّل إلينا... اختلفنا في ليلها أيبدأ من حيث المغيب أم من جهة الشّروق؟!... حان موعد العَشاء... فقلت في ظهرة أمّ شعبين يكون... نضمن إطلالة على أريحا ومقام النبيّ موسى... والجسور والشّونة وشرق الأردن من الغور... والبحر الميت معظمه... والبقيعة أولا... قال أحد الرّفقاء: يغنيك عن العشاء هذه السّعادة التي تهلّ في وجهك... قلت ما كان كلّ هذا ليكفي رجلا من أهلها فيما مضى... أومأتْ إليّ البلاد أن تنحّى جانبا لأسرّ لك أمرا... ما بال هذا الطّبل والزّمر فيما يسمّى الضّمّ؟ أمّا زالت المؤامرات تجوز عليكم؟ أما زلتم للخائنين ظُهراء؟ فأنا يا ولدي، من تلك البلاد المقصودة بـ (الضّمّ) الذي هو وجه آخر للاحتلال، قد كانوا هنا ورسموا الخريطة... واعلم أننّي سأبقى على عهدي ووفائي... لن أخون... لن أنسى... لن أتغيّر ولو أعملوا هذه الجرافات في جسدي... أوصيك يا ولدي قبل أن يحلّ الليل وتنشغل بعشائك... أن تبلّغ سلامي لبيت المقدس... فإنّي كنفه... تشرق الشّمس علينا معا وتغيب عنّا معا... لا تطل الفَواق فنحسبه الفراق... بكيتُ عند ذكر القدس... وتلفّعت البلاد بظلام دامس لا أدري من أين حلّ... من هنا أبدأ السلام عليك وعلى من ماتوا وعلى من حفظوا العهد وما خانوا ولا تأكّلوا بثديك المدرار...
بيت المقدس 28/6/2020