الوحي ، كيفياته ، الرد على منكريه بقلم: د. سامي عطا الجيتاوي
تاريخ النشر : 2020-06-28
الوحي ، كيفياته ، الرد على منكريه
تمهيد :
لمبحث الوحي أهمية عظمى ، ومكانة سامية ، ورتبة عالية بين مباحث علوم القرآن الكريم ، حيث أنه سبيل الإيمان بنزول القرآن ، والتصديق بأنه كلام الله عز وجل ، وهو أسا س الإيقان برسالة رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وجميع الرسل والأنبياء ، وهو مناط اليقين بالغيبيات كلها ، فالوقوف على حقيقته ، وكيفياته ، وأنواعه ، وصوره ، يؤدي إلى الإقرار الجازم بكل ما أفصح عنه القرآن الكريم ، وبينته السنة المطهرة من أصول العقائد ، وأنواع الأحكام ، وأسس الأخلاق ، وقواعد المعاملات ، والعلاقات الاجتماعية ، وغير ذلك مما اشتمل عليه القرآن الكريم وتضمنته آياته ،( وليست حادثة الوحي خاصة بسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وليست ظاهرة بكرا تنحصر دراستها في رسالة خاتم الرسل ، بل الوحي ظاهرة عمت جميع رسل الله – عليهم الصلاة والسلام - ، فإثبات صحتها لأحدهم ، إثبات لنبوة جميعهم دونما استثناء ، لاشتراكهم في هذه الظاهرة …) ، وفيما يلي تجلية لجوانب الوحي ، ومسائله ..
الوحي في اللغة :
الوحي لفظة عربية أصيلة ، والفعل منه : وحى ، يحي ، فمصدره : وحيا ، إذا كتب أو : أوحى ، يوحي ، فمصدره : إيحاء ، وهو إيصال المراد إلى الموحى اليه على أسرع وجه وألطفه .
قال ابن دريد : ( أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري ت 321هـ ) : ( وحى في الحجر : إذا كتب فيه وحيا ، ووحى الكتاب : إذا كتبه ) . وروي عن علقمة بن قيس النخعي ( ت 72هـ ) قوله : ( قرأت القرآن في سنتين ) ، فقال الحارث بن عبد الله الأعور ( ت 65 هـ ) : ( القرآن هين الوحي أشد منه ) أراد بالقرآن القراءة ، وبالوحي : الكتابة ، والخط .
وقال الكسائي : ( علي بن حمزة ت 189هـ) : أوحى إليه : أي : كلمه بكلام يخفيه عن غيره ) . وتابعه الزجاج : ( ابراهيم بن السري ت311هـ) في ذلك ، فقرر أن الوحي في اللغة كلها :(إعلام في خفاء. )
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : - ( والوحي لغة : الإعلام في خفاء ، والوحي أيضا : الكتابة ، والمكتوب ، والبعث ، والإلهام ، والأمر ، والإيحاء ، والإشارة …..) .
وقال ابن الأنباري :- ( إنما سمي وحيا : لأن الملك أسره على الخلق ، وخص به النبي الذي بعثه الله اليه ) ..
وقد أجمل الشيخ مصطفى عبد الرازق البحث حول أصل الوحي في اللغة في أربعة آراء :
( أولها : أن أصل الوحي في اللغة كلها إسرار وإعلام في خقاء . وهو رأي الكسائي والزجاج ومن تابعهما عليه
ثانيها : أن اشتقاق الوحي بمعنى الإلهام من الوحي بمعنى : السرعة لأن الوحي يجيئ بسرعة وهو رأي الراغب الأصفهاني ، وأيده ابن خلدون ، والقاضي عياض .
ثالثها : أن أصل المادة : السرعة والخفاء معا ، فالوحي : الإعلام السريع الخفي ، وأيده ابن قيم الجوزية ، وأبو البقاء في الكليات .
رابعها : أن أصل المادة هو إلقاء الشيء إلى الغير ، وهو رأي الطبري .)
الوحي في الاستعمال القرآني
لعلك بعد هذا الحديث اللغوي عن الوحي لا يخفى عليك أن العديد مما جاءت فيه هذه المادة من نصوص الذكر الحكيم ، لا يخرج عن المعنى اللغوي لها ، فالوحي في القرآن الكريم يطلق ويدور معناه على الوجوه التالية :-
1- الإلهام الغريزي للحيوان ، كما في قوله تعالى :- (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) ( النحل : 68) .فالمراد بالوحي في هذه الآية : الإلهام ، وهو التكوين الخفي الذي أودعه الله تعالى في طبيعة النحل ، بحيث تنساق إلى عمل منظم مرتب لا يختلف فيه آحاد ها
2- الإلهام الفطري للإنسان ، كما في قوله تعالى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه )( فالمراد بالوحي في هذه الآية الهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية ، فان الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينا ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا به .
3- التسخير والقاء الأمر للامتثال ، كما في قوله تعالى : - ( فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها )( فصلت: 12) . فالوحي هنا بمعنى التسخير ، أي : سخر كل سماء لما يراد منها
4- الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء ، كما في قوله تعالى:( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) ( مريم: 11) يقول الفخر الرازي:- ( لا يجوز أن يكون المراد من قوله ( أوحى إليهم ) الكلام ، لأن الكلام كان ممتنعا عليه ، فكان المراد غير الكلام ، وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة ، أو برمز مخصوص ، أو بكتابة ، لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما يشر به ، فكما حصل السرور له حصل لهم ، فظهر إكرام الله تعالى له بالإجابة ، واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة ، لقوله تعالى في سورة آل عمران ( ثلاثة أيام إلا رمزا ) والرمز لا يكون كتابة الكلام ) .
5- الوسوسة من الشياطين ، وتزيينهم خواطر الشر في الإنسان كما في قوله تعالى :- ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون )( الأنعام : 112) .
فالوحي هنا عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية ، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه ، ومنه سمي الذهب زخرفا ، وكما في قوله تعالى:- (وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وان أطعتموهم إنكم لمشركون )( الأنعام : 121) أي : يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل .
6- القاء الله عز وجل إلى الملائكة من أمره ليفعلوه من فورهم ، كما في قوله تعالى (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان )( الأنفال : 12).والوحي إلى الملائكة الذين أرسلهم الله عز وجل لنصرة المسلمين يوم بدر أما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص ، واما بإبلاغهم ذلك بواسطة .
7- ما أنزله الله على أنبيائه ورسله ، من أنباء الغيب والشرائع ، كما في قوله تعالى :- ( انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا )( النساء: 163).
فالمراد بالوحي في هذه الآية ما يلقيه الله عز وجل إلى من يصطفيه من الأنبياء والرسل .
الوحي بالمعنى الشرعي :
يعتبر القرآن أكثر الكتب السماوية حديثا عن الوحي وطبيعته ، وبيان وسائله ، وأنواعه ، إذ ورد بلفظه الصريح ، وبصيغه المتعددة في ثمانية وسبعين موضعا ، ويكاد المفسرون يتفقون في تعريفهم للوحي منحيث المفهوم الشرعي له ، فالطبري ( أبو جعفر محمد بن جرير ت 310هـ) يفهم من الوحي أنه : الإرسال الإلهي بالنبوة ، ففي تأويله للآية الكريمة : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده …الآية )( النساء: 163) ، يقول : ( إنا أرسلنا إليك يا محمد كما أرسلنا إلى نوح وإلى سائر الأنبياء الذين سميتهم لك من بعده ، والذين لم أسمهم لك . ) . ويوافقه القرطبي : ( أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ت 567هـ) : في تعريف الوحي بالإرسال .
أما الطبرسي : ( الفضل بن حسن ت 548هـ) : فالوحي عنده : ( إلقاء المعنى على وجه يخفى ، ثم ينقسم فيكون بإرسال الملك ، ويكون بمعنى الإلهام . )
ويرى الفخر الرازي : ( محمد بن عمر ت606هـ) : ( أن الوحي ورد الكتاب به على معان مختلفة يجمعها تعريف : الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتاية أو غيرها … فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء – أنباء الغيب - إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحيا . )
وظاهر من التعريفات السابقة ، أن الوحي بالمعنى الشرعي لا يخرج عن نطاق المعنى اللغوي ، والفرق بينهما هو الفرق بين العام والخاص ، فالوحي بالمعنى اللغوي : عام يشمل كل إعلام في خفاء ، والوحي بالمعنى الشرعي : خاص لا يتناول إلا ما كان من الله سبحانه لنبي من أنبيائه .
إمكان الوحي عقلا
إن كل من آمن بوجود الله وقدرته ، لزمه أن يسلم بموضوع الوحي على أنه بديهية مسلمة ، لا يحتاج– لوضوحه- إلى مزيد من الأدلة عليه ، فلا يمكننا إذا آمنا بوجود الخالق الدبر لهذا الكون إلا أن نتبع هذا الإيمان بالإيمان بضرورة رعاية خلقه ، وتدبيره المستمر للكون على ما يرضى ، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بالوحي . والإيمان بالوحي يتوقف إلى حد كبير على الإيمان بعالم الغيب ، وكثير من الناس ينكرون ما لا يخضع لإدراك الحواس ، ويشدون الوثاق على عقولهم وأفئدتهم بسلاسل الحسيات وأصفادها ، ثم يزعمون أنهم يعولون في ذلك على العلم ونتائجه ، ويتوهمون هذا في عصر ازدادت فيه المكتشفات العلمية الحديثة التي لا تضبطها الحواس مباشرة ، لقد قطع العلم شوطا بعيدا في الدلالة على وجود مغيبات كثيرة غير محسة ، من موجودات ونواميس كونية ، عرفنا بعضها ولم نعرف معظمها ، وليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار ، لأن قوة الإبصار عندنا محدودة بحد معين ، وإلا لاقتضى أن يكون الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته ، وإن من اليسير على الله – وهو خالق العين وبصرها – أن يزيد في قوة ما شاء منها ، فترى مالا تراه العيون الأخرى ، ( ألم ندرس في الفيزياء أن النور مركب من ألوان ، وأن بعض الألوان لا تراها العيون ، وأن هناك إشعاعات ضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الأشعة البنفسجية لا تراها عيوننا، ولا شيء يثبت أنها كذلك بالنسبة إلى جميع العيون ، أو ليس هناك عيون أقل أو أكثر حساسية من عيون أخرى ..؟ إذن فما المانع أن يرى محمد – صلى الله عليه وسلم –وحده الملك ويفهم ما يتكلم به ..؟
ولا يراه آخرون ، أو لا يدركون ماذا تعني تلك الهيمنة أو الدوي …؟ ) ومن الموجودات التي لا تراها الأبصار ، تلك الأنواع من الأشعة والظواهر غير المرئية – كأشعة إكس – التي تخترق الجسد الآدمي أثناء تصويره ، لتساعد الطبيب على تشخيص مرضه ، وأشعة الليزر التي تستعمل في علاج حالات مرضية وغيرها ، ويسيطر الإنسان عليها ويتحكم فيها ، على الرغم من عدم رؤيتها بالعين المجردة ، ثم إن التيار الكهربي نفسه لا يرى في السلك الناقل له ، إنما نرى آثاره من برودة في الثلاجة ، وحرارة في المدفئة ، ونور في المصباح الكهربي ....... ثم الموجات – الكهرو مغناطيسية – التي تحمل الصوت والصورة من بلد إلى آخر ، فتلتقطها أجهزة المذياع ، أو اللاسلكي ، أو الإذاعة المرئية ، إلى غير ذلك من المكتشفات العلمية الحديثة ، التي تعرف عليها الإنسان في العصر الحديث ، فهل كانت هذه المكتشفات معدومة قبل أن يكتشفها الإنسان .؟ وهل يكون الإنسان القديم مصيبا لو أنكر وجودها لأنه لم يبصرها بأم عينيه ، على الرغم من توفرها في أرجاء الكون من غابر الأزمان .؟ وهل يسوغ للإنسان المعاصر أن يجحد وجود كل ما لم ير.. ؟ وهل يستطيع الإنسان أن يحيط بكل شيء علما …؟ إذا كان العلم الحديث جعلنا نؤمن بوجود ما لا يرى من أشعة وموجات أثيرية ، استطاع الإنسان المعاصر بإمكاناته العلمية المحدودة أن يسخرها لخدمة الإنسان ، ويستغلها فيم له في مصلحة ومنفعة ، أفلا يستطيع خالق الإنسان الذي له القوة المسيطرة ، والعلم المحيط ، وبيده ملكوت كل شيء .... على أن يوصل العلم والحق بوسيلة لا ترى بالأعين إلى بعض خلقه وهم الرسل ….؟ إن من رأى أن هذا عسيرا أو مستحيلا على الخالق ، فقد أهدر عقله ، وأضاع رشده ، إذ لم يقدر البون الشاسع بين المخلوق الضعيف وجهله ، وبين قوة الخالق وسعة علمه …( ثم هناك شيء آخر ..لو ادعى محمد – صلى الله عليه وسلم – ذلك ادعاء ، وافتراه افتراء ، لكان يجب أن يكون أسلوب القرآن كأسلوب الحديث ، فالأسلوب هو الرجل في كل ظروفه وحالاته ، ودراسة أسلوب القرآن تدل على أن هذا الأسلوب غير ذاك ، وأن قائل هذا ليس ذاك أبدا ، لقد كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يرسل ألفاظ الحديث إرسالا ، مكتفيا بأن يستودعه ذاكرة أصحابه ، على حين كان يأمر بتسجيل كل ما يوحى اليه من القرآن ، ويظل يكرره ويعيده خوفا من أن ينساه فلا يذكره ، وكان محمد – صلى الله عليه وسلم – يسأل عن كثير من الأمور فلا يجيب عنها ، وربما مر على إمساكه عنها زمن طويل ، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال ، طلب محمد السائل ، وتلا ما نزل عليه من القرآن في شأنه ، وربما تصرف هو نفسه في بعض الأمور على نحو معين ، فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه ، بل ربما انطوت على شيء واضح من العتب واللوم ، ثم إنه – عليه السلام – كان يعلن في كل مرة أن القرآن كلام الله ، وأنه ليس إلا أمينا على نقله وتبليغه ، وأنه يتلقاه من جبريل ، ولقد ظل محمد صادقا أربعين سنة مع قومه ، حتى كان بينهم مثال الصدق والأمانة ، وبدهي أن مثل هذا الإنسان لا بد أن يكون صادقا مع نفسه ، يتحرى الدقة في كل مشاعره ، وأقواله ، وإحساساته ، وبعد ذلك كله ، فقد كان – على ما أجمع عليه المؤرخون – أميا لم يقرأ كتابا ، ولا خطه بيمينه ، ولم يدرس تشريعا ، ولا تأريخا ، ولا شيئا من تأريخ الرسل والأنبياء السابقين ، فمن أي نافذة طبيعية يمكن لهذه الإلهامات كلها أن تنزل عليه ،وكيف لها بأن تنبع هكذا من داخل قلبه وعقله ؟ )
صور الوحي كما بينها القرآن
أجمل بعض العلماء صور الوحي في صورتين مجملتين كالزركشي ، وذهب بعضهم إلى تكثيرها ، فعدها السيوطي خمس كيفييات ، وبلغ بها بعضهم ثماني مراتب ، وقد حصرها القرآن في أصناف ثلاثة ، شاملة لجميع صور الوحي التي أسماها بعض العلماء كيفييات ، وبعضهم مراتب . قال تعالى : - ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ( الشورى: 51)
الصنف الأول :- أن يلقي الله المعنى في قلب النبي مباشرة ، ويكون ذلك في اليقظة أو المنام ، وهو على حالتين :-
1- أن يلقي الله المعنى في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة ويتم ذلك من غير واسطة ملك ، مع خلق علم ضروري عند النبي - صلى الله عليه وسلم – بأن هذا المعنى من الله قطعا ، فهو نور ينبلج في القلب فيندفع ولا يحتمل الشك أو التأويل ، ومن هذا القبيل ما أشار اليه تعالى بقوله :- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ..) ( النساء: 105) .
قال الفخر الرازي : ( إن قوله بما أراك الله معناه : بما أعلمك الله ، سمى ذلك العلم بالرؤية : لأنه العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب ، لكونه جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور . وكان عمر - رضي الله عنه – يقول :- ( لا يقول أحد قضيت بما أراني الله تعالى ، فان الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ، ولا يكون علما )
وسرد أبو حيان الأندلسي أقوالا في تفسير الآية فقال :- ( بما أراك الله : أي بما أعلمك الله من الوحي ،وقيل : بالنظر الصحيح ، فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال ، )
2- إلقاء المعنى في قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – مناما ، كما حكى القرآن على لسان إبراهيم – عليه السلام – ( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ..) ( الصافات: 102) . وحصل ذلك لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أول عهده بالوحي ، ثم حصل في مناسبات سجل القرآن بعضها ، كما في قوله تعالى : - ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) ( الفتح: 27) . وإنما كانت الرؤيا وحيا ، وجزءا من النبوة ، باعتبار ما يقترن بها من اليقين بأنها من عند الله ، وأن الوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بالرؤيا أول أمره تمهيد للوحي الصريح إليه يقظة ، وفي الصحيح عن عبد بن عمير:- ( رؤيا الأنبياء وحي ، وقرأ : يا بني اني أرى في المنام أني أذبحك …) .
الصنف الثاني:-وأشار إليه قوله ( أو من وراء حجاب )، وقد حصل لسيدنا موسى – عليه السلام - إذ كلم الله موسى بلا واسطة ، فلم يره موسى ، قال تعالى :- ( وكلم الله موسى تكليما )( النساء: 164).
الصنف الثالث :- أن يرسل الله ملك الوحي جبريل – عليه السلام – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فيوحي اليه ما أمره أن يوحيه ، ويحصل له علم ضروري بأنه ملك الوحي ، يبلغه عن الله تعالى ، وقد أشار اليه بقوله سبحانه :- ( أو يرسل رسولا فيوحي بإذ نه ما يشاء ) ، وقد حصل هذا لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – ولجميع الرسل من قبله ولعلك تسأل : بأي صنف من أصناف الوحي نزل القرآن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنقول :- إن الراجح لدى العلماء أن نزول القرآن ينحصر في الصنف الثالث من الوحي ، إذ أنزله الله بواسطة ملك الوحي جبريل – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – في اليقظة فحسب . ، قال تعالى :- ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) ( الشعراء: 193 -195)
صور الوحي إلى رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم-
لقد عرفنا فيما سبق كيفيات وحي الله إلى أنبيائه ورسله ، وسنبين فيما يلي صور وكيفيات الوحي إلى سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، المكمل لهدايتهم ، والمتمم لرسالتهم ….. وتتجلى هذه الصور فيما يأتي :-
1- الرؤيا الصادقة في النوم :- ويقرر ذلك ما جاء في صحيح البخاري ، عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عتها- أنها قالت :- ( أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي : الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح …. الحديث ) ولقد كانت مدة الرؤيا ستة أشهر ، فيكون ابتداء النبوة بالرؤيا حصل في ربيع الأول ، وهو شهر مولده – صلى الله عليه وسلم - ، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة . ومرائي الأنبياء ليست بكلام يلقى إليهم فقط ، وإنما تشتمل على الكلام والإلهام . ومن مرائيه – صلى الله عليه وسلم - :- ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال :-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم ، كأنا في دار عقبة بن رافع ، فأتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأولته بالرفعة لنا في الدنيا ، والعافية في الآخرة ، وأن ديننا قد طاب ..) . وما رواه عن أبي موسى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال :- ( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلى ( أي : وهمي واعتقادي ) إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب …الحديث ) .
2- أن يكلمه الله – عز وجل – مباشرة كفاحا ، أي : بدون واسطة الملك ، وذلك إما أن يكون في اليقظة ، على مذهب من يقول أنه - عليه السلام – رأى ربه ليلة الإسراء والمعراج ، وأما على مذهب من قال بأنه لم ير ه ، فلم يعدها من مراتب الوحي . وإما في المنام : كما في حديث معاذ مرفوعا : ( أتاني ربي فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى …قلت : لا أدري يا رب …الحديث )
3- أن ينفث الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ويشاهده ، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم – ( إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته ..) .
4- أن يأتيه جبريل – عليه السلام – في صورة رجل من البشر ، فيكلمه بالوحي ، فيسمعه الحاضرون مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويشاهدونه ولكن لا يعرفونه ، روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : كان النبي – صلى الله عليه وسلم – بارزا يوما للناس ، فأتاه رجل فقال : ما الإيمان ..؟ قال : الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته ، وبلقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الحديث ) ولم يتلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – أي شيء من القرآن في حالة مجيء جبريل عليه السلام في صورة رجل من البشر ، ولو حصل ذلك لكان هذا مثارا للشك ، ومدعاة لتأكيد شبهات الكفار والمشركين الذين يقولون : ( إنما يعلمه بشر ..) وقد ذكر الله تعالى ذلك عن المشركين وفند لهم شبهتهم ، ورد عليهم قولهم في قوله تعالى :- ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون )( الأنعام : 8-9) . 5- أن يأتيه جبريل – عليه السلام – في صورته الملائكية ، فكان من حكمة الله -عز وجل – ، أن أنزل القرآن على هذه الصورة الروحية الملائكية من صور الوحي ، حتى لا يلتبس الأمر على العباد ، وفي هذه الحالة لا يرى ، فيلقي إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – الوحي الذي حمله إليه ، وعند ذلك يظهر أثر التغير والانفعال على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويثقل جسمه ثقلا شديدا ، وقد يكون وقع الوحي عليه كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه ، وتلك أشد حالات الوحي على الرسول – صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أن الحارث بن هشام – رضي الله عنه – سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال :- يا رسول الله كيف يأتيك الوحي.؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني (أي يبتعد ) وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي عنه ما يقول ، قالت عائشة – رضي الله عنها – ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا ..) و المتتبع لأحوال نزول القرآن، وصور الوحي ، يترجح لديه أن القرآن كان يتنزل في مثل هذه الحالة والكيفية فقط ، ومما يقرر ذلك : ما يحدث للنبي – صلى الله عليه وسلم –إبان اتصال أمين الوحي جبريل- عليه السلام – ، ليكون له من التهيؤ والاستعداد التام ما ليس لغيره ، وبذلك يستطيع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يميز بين نوعين من الوحي الملقى اليه ، الوحي القرآني الذي يأمر بتسجيله فورا ، والوحي الذي يستودعه ذاكرة أصحابه وهو وحي السنة المطهرة . قال شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة :- ( والذي نقطع به – والله أعلم- أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته . . إلى أن يقول : ولم أقف قط على رواية تفيد نزول شيء من القرآن عن طريق جبريل وهو في صورة رجل ، وكل ما جاء من ذلك من الأحاديث الصحاح كحديث جبريل المشهور ، وسؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم – عن الإسلام والإيمان ، والإحسان ، والساعة وأشرا طها ، فإنما هو في وحي السنة لا في وحي القرآن )
شبهات حول الوحي وتفنيدها :
أثار أعداء الرسل من أهل الكفر والعناد شبهات حول الوحي ، وما هي في الحقيقة إلا خرافات وأباطيل لا تستند إلى دليل سليم ، ولا حجة واضحة ، ومع أنها لا تستحق الوقوف عندها لتهافتها ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من العرض لها وتفنيدها .
أولا :- شبهات الكفار والمشركين :-
1- زعم المشركون المنكرون لنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- أنه يتلقى القرآن من إنسان آخر من البشر ، قيل : هو عبد لبني عامر بن لؤي ، يقال له : يعيش ، وكان يقرأ الكتب . وقيل : عداس - غلام عتبة بن ربيعه - ، وقيل : جبر ، عبد لبني الحضرمي ، وقيل : كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ..ويقال له : أبو ميسرة ، وقيل : سلمان الفارسي ….والحاصل أنهم اتهموه بأنه يتعلم الكلام الذي يلقيه عليهم من آيات القرآن الكريم من غيره ، ويزعم أنه عرفها بالوحي ، وهو كاذب فيه ، وقد ذكر سبحانه هذه الشبهة ورد عليها بقوله :- ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )( النحل : 103) . ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد فقال : ( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم )( النحل: 104) . ثم بين سبحانه أنهم كاذبون في هذا القول فقال :-( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون )( النحل: 105) ، فالمشركون لم يجدوا في أنفسهم قوة يستطيعون بها أن يتحدوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – ، ليصدوه عما جاء به من الحق ، فلجأوا إلى الافتراء والكذب الذي لا يسانده واقع ، ولا يصدقه عقل سليم .
2- زعم المشركون أن القرآن اختلقه محمد – صلى الله عليه وسلم – من عند نفسه ، وأعانه عليه قوم آخرون ، وأنه أحاديث من أحاديث الأولين انتسخها محمد من أهل الكتاب ، وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى : ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قول آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) ( الفرقان: 4-5) .
وقد أبطل الله زعمهم بقوله (فقد جاءوا ظلما وزورا ) ....... يقول الفخر الرازي :- ( إن هذا القدر - أي قوله سبحانه فقد جاءوا ظلما وزورا - إنما يكفي جوابا عن الشبهة المذكورة ، لأنه قد علم كل عاقل أنه – عليه السلام – تحداهم بالقرآن ، وهم النهاية في الفصاحة ، وقد بالغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية ، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات ، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا ، ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها ، ولو استعان محمد- صلى الله عليه وسلم- في ذلك بغيره لأمكنهم أن يستعينوا بغيرهم ، فلما لم يفعلوا ذلك ، علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة ، وانتهى إلى حد الإعجاز . ) . ويقول ابن كثير .- (وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه ، فانه قد علم بالتواتر وبالضرورة ، أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته ، وبره وأمانته ، وبعده عن الكذب والفجور ، وسائر الأخلاق الرذيلة ، حتى أنهم كانوا يسمونه في صغره والى أن بعث : بالأمين ، لما يلمسون من صدقه وبره ، فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا فيما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر ، وتارة يقولون : شاعر ، وتارة يقولون : مجنون ، وتارة يقولون : كذاب ، قال الله تعالى :- ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) .. ومما سلف يتبين لنا أن جميع الشبهات التي أثارها المشركون حول الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - شبهات باطلة ، حيث أنها لم تستند إلى دليل ولا حجة ، ولا تقف أمام دلائل القرآن الكريم ، وحججه القوية ، والمشتمل على أخبار الأولين والآخرين، إخبارا حقا وصدقا، مطابقا للواقع في الخارج ماضيا ومستقبلا ، زيادة على فصاحته وبلاغته المتناهية التي تنبئ بنفسها عن أن منزل القرآن عالم محيط با لمعلومات صغيرها وكبيرها ، خفيها وظاهرها ، ومن ثم فالقرآن مبرأ من كل عيب ، ونقص ، واختلاف ، يقول تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( النساء : 82)
ثانيا:- من شبهات المستشرقين :-
وكما كان للكفار والمشركين والمعاندين في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – مزاعم وشبهات يثيرونها لإطفاء نور الله ، ولوقف امتداد ضيائه ، كان لأعداء الإسلام من المستشرقين المعاصرين وتلاميذهم ، مزاعم وأباطيل أثاروها ضد الوحي وحقيقته ، وكان جل ما اعتمد عليه المستشرقون في مزاعمهم هو : نفي أن يكون الإسلام دين موحى به من عند الله ، أما طريقهم إلى هذا الهدف فهو : التشكيك في رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – بإثبات بشرية القرآن ، وأنه كان يتصنع الوحي ، أو أن ما كان يبدو عليه حين الوحي ، إنما هو أعراض مرض عصبي .
ونقول :-
أولا : - أما زعمهم بشرية القرآن :- ( وهي في ظني لا تختلف عن مزاعم من سبقهم من المشركين إنما قاموا بتغليفها في ثوب جديد ) ، فدليلهم المدعى يقوم على نظريتين :-
النظرية الأولى :- القرآن فيض من خاطر محمد – صلى الله عليه وسلم – أو انطباع من إلهامه : ومن القائلين بهذه النظرية :المستشرق المجري اليهودي – جو لد تسيهر - ، إذ يقول : إن محمدا تأثر بالعناصر الأجنبية التي كانت تسود منطقة مكة في وقته ، وقد بلغ هذا التأثر مبلغه ، فأدرك بقوة إيحائه الأصول التي تستند إليها تلك الأفكار ، حتى أصبحت عقيدة انطوى عليها قلبه ، وصار من كثرة إيمانه بما يعتقد أنها وحي إلهي ، وأنه أداة لهذا الوحي ) ، ويستطرد – جولد تسيهر- في نظريته فيقول :- ( لقد كانت السور الأولى في النزول على الشكل الذي تعود الكهان القدماء وضع نبوءاتهم فيه ، ولو جاء في شكل آخر لما رضي عربي أن يرى فيه قرآنا موحى به من الله ، وما أعظم الفرق بين سجع السور المكية وسجع السور المدنية ، بينما نرى محمدا يسرد في الأولى رؤاه الكشفية الإلهامية فقرات مسجوعة متقطعة ، وفق صوت ضربات قلبه المحموم ، نرى الوحي في الثانية يتخذ لنفسه الشكل السجعي لكنه مجرد من اندفاعه وقوته ، حتى في الحالات التي أعاد فيها النبي طرق الموضوعات التي تناولها في السور المكية .… )
النظرية الثانية :-
القرآن تسطير للتعاليم التي تلقاها محمد من الأحبار اليهود والقساوسة المسيحيين
ويقول بهذه النظرية مستشرقون كثيرون منهم : المستشرق : جولد تسيهر وهو يقول : إن تبشير محمد ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها ، أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها ، التي تأثر بها تأثرا عميقا ، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه . ويقول المستشرق - جون نوس - أستاذ الفلسفة بكلية فرانكلين ، ومارشال الأمريكية في مؤلفه – أديان الإسلام - :- إن الإسلام يزهو وهو يفاخر بأن القرآن يكمل أنصاف الحقائق التي أتت بها الأديان السابقة ، مع أن كل من له دراية بالأديان العالمية يدرك لأول وهلة عند قراءة القرآن : أن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) نقل كثيرا من تعاليم الأديان الأخرى ، ومع أنه اعتمد كثيرا على التقاليد الموسوية والمسيحية في تصوير العلاقة بين الإنسان وربه في التاريخ ، وكذلك نقل كثيرا عن غيرهم ، إلا أنه أسبغ على الله – ربه- ثوبا من الخلق العربي ، والشخصية العربية ..ويرى هذا الرأي أيضا :المستشرق ابراهام كانش – أستاذ الحضارة والثقافة العبرية بجامعة نيويورك – فيضع مؤلفا كاملا لموضوع المصادر اليهودية للقرآن أسماه – اليهودية في الإسلام – إذ يقول في مقدمته :- إن محمدا لم يكن يقصد في أول الأمر الدعوة إلى الإسلام كدين جديد ، إذ اعتبر نفسه الأمين الشرعي على الكتاب المنزل من عند الله ، لتأكيد الكتب السماوية القديمة ، ولهذا السبب لم يجد في أول الأمر فارقا بين اليهودية والمسيحية ، واعتقد أن اليهود والمسيحيين سيرحبون به ، حتى إذا ما تحقق له أنهم لن يعضدوه ولن يساندوه ، تقدم بالإسلام كدين جديد .
مناقشة هذه المزاعم :-
1-افترض المستشرقون أن النبي – عليه الصلاة والسلام – اتصل بأحبار اليهود والقساوسة المسيحيين وأخذ عنهم القصص التي وردت بالقرآن ، بدليل ورودها متشابهة مع القصص التي وردت بالتوراة والإنجيل .. ونقول : لم يقم دليل على هذا الاتصال المزعوم ، فضلا عن أن حقائق التاريخ تكذبه ، فالثابت أن اليهود كانوا متركزين في –يثرب – وفي – خيبر- وفي – اليمن – ومنذ أن هاجر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة ، ناصبه اليهود العداء ، فالقرآن لم يأخذ من اليهود عقائد بين فسادها لمصادماتها للوحي الإلهي ، ثم إن القرآن صحح كثيرا من القصص الوارد في التوراة والذي تعرض للتحريف والتزوير .
أما المسيحية : فكيف تكون أصلا للقرآن ، وقد جاء القرآن حربا على أصولها ، وأهمها عقيدة التثليث ، وصلب المسيح – عليه السلام – فقال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ..)( النساء : 157) ولا يمكن لمحمد – صلى الله عليه وسلم – أن يكون قد تلقى تعاليمه عن اليهود والنصارى ، والقرآن يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ..) ( المائدة : 57) وقال :- ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ..)( المائدة: 51) …مع أن هذا النبي لم يكن وليد حقد عليهم ولا تنافس معهم ، إذ جاء في القرآن : - ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبييون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .) ( البقرة : 136) .
2-وأما ما زعموه من أن الوحي كان نتيجة لخلوته وتعبده وكثرة تأمله – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء ، لذا فهو نابع من ذاته ونفسه ، فهو زعم باطل لا يقره دليل ، ولا يسانده واقع كذلك ، لأن المتدبر في أمر الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يظهر له أن الوحي قد طرأ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفاجأه بدون سابق ذكر ، وانشغال خاطر به ، كما كانت معارف الوحي متجاوزة الذات الإنسانية للرسول – صلى الله عليه وسلم - ، ويستحيل اعتبارها من المعارف الشخصية في شيء، ومن ثم يجب التسليم بأنها معارف إلهية تلقائية مطلقة ، لا يستطيع الفكر الإنساني وحده أن يتوصل إلى شيء حقيقي فيها ، ومن هنا كانت ثقة النبي – صلى الله عليه وسلم- التامة بأنه وحي من عند الله – عز وجل - . ومن يتدبر في أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في مجيء الوحي إليه ، يتأكد لديه أن الوحي حدث تلقائي مفاجئ ، طرأ على حياة من اصطفاه الله عز وجل للرسالة والنبوة ، دون سابق توقع أو تطلع ومما يدل على ذلك أيضا : أن الوحي عندما انقطع عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فترة لم يستطع الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن يستحضره أو يستجلبه ، روى – عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، من طريق عكرمة قال : أبطأ جبريل في النزول أربعين يوما ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : يا جبريل : ما نزلت حتى اشتقت إليك ، قال : أنا كنت أشوق إليك ، ولكني مأمور ، وأوحى الله إلى جبريل قل له : - ( وما تتنزل إلا بأمر ربك ) ، وغير ذلك من الروايات التي تؤكد أن الوحي كان يفاجئ النبي – صلى الله عليه وسلم – ويطرأ عليه من غير تأهب أو استشراف من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما يقرر ويؤكد أن الوحي كان خارج نطاق ذات النبي – صلى الله عليه وسلم – وخارج إرادته وقصده ، فالوحي أمر إلهي محض ، لا أثر لسعي المرء في كسبه أو دفعه ، وبالتالي فإن النبوة منحة إلهية إلزامية غير كسبية ، فلا ينالها الإنسان بالجهد الفكري ، أو الترقي الروحي والأخلاقي ، ولا عبرة في حصولها للقيم الدنيوية والاعتبارات المادية ، فإن الله جلت عظمته قد اختص بالنبوة من شاء ، وفي الوقت الذي شاء ، حسب مشيئته وحكمته وعلمه .
3-أما قولهم إن الحالة التي كانت تعتري الرسول – صلى الله عليه وسلم – عند تلقي الوحي هي –حالة صرع - ، وهي فرية بلا مريه ، فالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كان أقوى الناس جسما ، وأصحهم بدنا ، وأعدلهم مزاجا ، يتحلى بالخلق السوي ، والعقل العظيم ، والفكر الناضج ، ولذلك أثنى الله عليه بقوله :- (وانك لعلى خلق عظيم ) ( القلم : 4).. ولقد بلغ من قوته – صلى الله عليه وسلم – أنه صارع – ركانة بن عبد يزيد – فصرعه ، وكان ( ركانة ) هذا مصارعا ماهرا ما قدر أحد على أن يأتي بجانبه إلى الأرض ، فلما عرض عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – الإسلام قال : صارعني ، فان أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله ، فصارعه الرسول فغلبه ، فقيل : إنه أسلم عقب ذلك . والمصاب بالصرع لا يكون بهذه القوة . وليس أدل على بطلان قولهم بأن النبي- صلى الله عليه وسلم – كان يصاب بحالة صرع أو مرض أثناء تلقيه الوحي ، من حضور فكره ، وقوة وعيه حينما يلقي جبريل الوحي إليه ، كما يدل عليه قوله – صلى الله عليه وسلم - :- ( فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال .. ) فالثابت علميا أن المصر وع في حالة الصرع يتعطل تفكيره ، ويتوقف إدراكه توقفا تاما ، فلا يحس ولا يدري ما يدور حوله ، ولكن حالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حالة الوحي وقبله وبعده ، كانت باقية على ما هي عليه في اعتدالها ، وقوتها ، ووعيها ، وتذكرها ، بل إنها كانت تزداد إشراقا ، وذكاء ،بعد تلقيه للوحي ،ومن ثم فانه – صلى الله عليه وسلم – كان بعد أن ينفصل الوحي عنه يتلو على الناس آيات القرآن الكريم ، ويبين لهم التشريعات ، والأحكام ،ويبث فيهم العظات ، والإرشادات ، ويبلغهم كل ما أمره الله تعالى أن يعلمهم إياه ، فكيف يعقل مع كل هذا أن يقال إن حالة الوحي كانت حالة صرع ، ومرض يصاب بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – سبحانك هذا بهتان عظيم ، لا يقول به إلا كل كذاب أشر .وهذه الشبهات والأكاذيب الباطلة غيض من فيض ،يقوم المستشرقون وتلاميذهم بترويجها بقصد الهجوم على الإسلام ، والتشويش على أصوله ، وحقائقه ،وشرائعه وأحكامه ، ليحولوا دون انتشاره شرقا وغربا ، وليثبطوا المسلمين عن التمسك به نظاما سياسيا ، واجتماعيا ، واقتصاديا ، وستبوء كل محاولاتهم بالفشل الذريع أمام حقائق الإسلام الثابتة ، وبراهينه الساطعة ، التي تدحض كل باطل ، وتكشف كل زيف في أقوال أعداء الإسلام لكل ذي عقل بصير ، وقلب سليم.
........................................................................
الهوامش
-د.. ضياء الدين العتر : نبوءة محمد في القرآن ، ص113.
- ابن دريد : جمهرة اللغة ، ج2/ ص 382 .
- ابن منظور : ( أبو الفضل جمال الدين ت 711 هـ ) : لسان العرب : 15/ 380 ) .
- الأزهري : ( أبو منصور محمد بن أحمد ت 370 هـ ) : تهذيب اللغة : 5/ 296 .
- الأزهري : تهذيب اللغة ، 5/ 380 .
-فتح الباري – ج1/ص9 السلفية بمصر.
- لسان العرب ج6/ ص 4787
- مصطفى عبد الرازق : الدين والوحي والإسلام : 46 .
- - التفسير الكبير- للفخر الرازي ح21/ص 191.والآية في سورة آل عمران : 41)

- انظر : محمد فؤاد عبد الباقي : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، ص 746-747 .
- الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ج6/ ص 20 .
- انظر القرطبي : الجامع لأحكام القرآن : ج4/ ص 85 .
- الطبرسي : مجمع البيان ، ج7/ ص 263 .
- الفخر الرازي : مفاتيح الغيب ، ج8/ ص 50 .
- مالك بن نبي : الظاهرة القرآنية ، ص 178 .
- التعبير الفني في القرآن – د. بكري شيخ أمين ص14.
- الزركشي : البرهان في علوم القرآن :
- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ، ج1/ ص 141- 142 .
- الزرقاني : ( محمد عبد العظيم ) : شرح المواهب اللدنية ، ج1/ ص 268.
- الآلوسي : روح المعاني : ج27 / ص 50 .
- الفخر الرازي : التفسير الكبير : ج11 / ص 33 .
-البحر المحيط ج3/ ص343 .
- الزرقاني : شرح المواهب اللدنية ، ج1/ ص 272 .
- الزرقاني : شرح المواهب اللدنية ، ج1/ ص 272 .
- ابن حجر : فتح الباري : ج1/ ص39 .
- الإمام مسلم : صحيح مسلم بشرح النووي : ج15/ ص 31 .
- الإمام مسلم : صحيح مسلم : ج 15/ ص 31-32 .
- الزرقاني : شرح المواهب اللدنية ، ج1/ ص 225 .
- انظر الحديث بتمامه في مسند الإمام أحمد بن حنبل ، ج5/ ص 245 .
- الحاكم : المستدرك ، ج2/ ص 24 .
- ابن حجر : فتح الباري : ج1/ ص 411 .
- ابن حجر : فتح الباري : ج1/ ص 18 .
- د. محمد محمد أبو شهبة : المدخل لدراسة القرآن الكريم ، ص 63 .
- مفاتيح الغيب: جزء24: ص 46
- تفسير ابن كثير ج3/ 341. .

- العقيدة والشريعة في الإسلام – جولد تسيهر ص5.

- انظر مجلة الأزهر – السنة 34/1963م – مقال ( نظرية الإيحاء بين المستشرقين والمسلمين – للدكتور صلاح الدين عبد الوهاب – بتصرف- .
- فتح الباري ج8/ ص429.
- د. حسن العتر : وحي الله حقائقه وخصائصه في الكتاب والسنة ، ص 24
- - ابن حجر : الإصابة ، ج1/ ص531.