تجليات الموت..في قصيدة الشاعر التونسي جلال باباي بقلم: محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-06-25
تجليات الموت..في قصيدة الشاعر التونسي جلال باباي  بقلم: محمد المحسن


تجليات الموت..في قصيدة الشاعر التونسي القدير جلال باباي
نثار أمنيات ....بعد الممات
ذروا نوٌار الياسمين يوم رحيلي
مع أوٌل مدٌ وجزر للرياح اللواقح
كي ينبت البحر تلالا من يقطين
ونعيد سيرة النبي" يونس "ٌ ذكرى للغافلين
سيظلٌ الفجر يرمق كل قصائدي
وانحت ملحمة الخلود
بوحا لموتي قبيل يوم الدين.
انثروا فوق لحدي ما تيسٌر من نوارة اللوز
لعلٌها تمطر فاكهة ربيع في علٌيين
كوٌموا أطراف مرقدي أعشاش ماء للطيور العابرة
وانحتوا رحلتي نثار ما حبٌرته فوق بياض زهدي من دواوين
ساضرب موعدا جميلا مع الله
لأسجد في حضرة ملكوته
أنتبذ البرزخ موطنا بالقرب من الصالحين..
أتخذ من خشخشة الخطاطيف أغنية للوافدين
سلام للميٌتين .....رحمة للسابقين.. . ارقدوا بسلام أيها اللاحقون......
الشاعر التونسي جلال باباي أكودة/ ديسمبر 2019

لقد بِتْنا اليوم معتقدين بأنّ الشعر،عموماً،هو ابن الفقدان ووريث الخسارات.لكن الموت لم يكن في تأمُله،ولا في معايشته اختباره حدوده مُجرّد بكاء وعزاء وإيحاء بغيوم الحزن التي تُلبّد سماء الكائن وتُظلّله.
إنّ الموت يتحوّل لدى الشعراء،بخلفيّاتهم الصوفية والفلسفية والوجودية المتنوِّعة،إلى ذريعةٍ قُصْوى لأَنْسنة الحياة وقد افتقدت لكثيرٍ من ملامحها وقوى تجدُّدها إن في ذاتها أو في مدى انعكاسها على مرآة النّفْس. فمثلاً،يتحوّل البكاء عند الجاهلي في وقوفه على الأطلال،وشعوره الفاجع بالغياب،إلى استحثاث الأنا بواجب الانتصـار على المـوت ومقاومته بحضور اللحظة المنتشية التي تحقّق هبة امتلائها في إثبات الفـروسية ونشدان اللـذة الحسية.ويُجسّد عذاب الحبّ ومعاناته لدى العذريين مَوْتاً، يد أنّه يعكس رغبة الأنا في الاتصال بمحبوبها،وبما أنّها لا تتحقّق فالحياة الداخلية لكينونة الأنا تتوهّج باستمرار.
فيما بعد،يتحوّل نشدان الموت عند المعرّي إلى ضوء وشوق للخلاص من العمى وأسر المحابس بأكملها.وفي تجربة الصوفيّ يصير الموت عن طريق الانخطاف والفناء وتحييد الجسد ذريعةً يتحقق بها الالتحام بالمطلق..
تضمّنت هذه القصیدة أسئلةً وجودیّة مقلقة،علّ أبرز ما یمیّزها حالة التّبرّم المتّسمة بظاهرة الحزن،وهی ظاهرة إنسانیّة خالصة عمّقتها ظروف الحیاة المعاصرة،فباتت هاته الظّاهرة علامة فارقة للشّعر العربیّ المعاصر،وقد تعامل معها-الشاعر التونسي القدير جلال باباي- تعاملاً وجودیّاً خالصاً انطلاقاً من وعیه الشّعریّ ومن إحساسه المرهف بالوجع الإنسانیّ.

لقد انسكب الحزن فی داخل-جلال باباي-كانسكاب السّائل فی الدّورق الشّفیف،فحینما نقرأ -هذه القصيدة الموغلة في الوَجَع-نبصر هذا الحزن فی داخلها المرسوم عبر الكلمات،وكأنّنا أمام مواجهة بین الذّات والموضوع،بل أمام تفاعل خلاّق،تفاعُل تبادل فیه الطّرفان الأدوار، حیث یجسّد الحزن فی هاته الحالة نوعاً من مواجهة الذّات،وهو فی الآن ذاته موقف شعریّ من الوجود والموجودات،یُفعّل عندما تبدو حدّة المفارقات بین ما تتغیّا الذّات وما تصل إلیه.
نؤکد انّ هذا الحزن يموج في-بعض قصائد جلال باباي -سيما بعد إصابته بمرض عضال نتمنى له الشفاء العاجل) لهذا أكاد أجرؤ على تسمية -هذا الشاعر الذي نالت منه المواجع في نخاع العظم (جلال باباي) بشاعر الحزن والالم وكذا التحدي ..
قال الشاعر اللاتيني هوراس في القرن الأول قبل الميلاد إنه بنى بشعره صرحاً أبقى على الزمن من الرخام.ومنذ ذلك الحين والشعراء يحاولون أن يجعلوا شعرهم محصناً ضد الزمن. إنهم يسعون إلى «استعمار» الأجيال المقبلة،وذلك إذ يتحدثون (عبر ما سماه الشاعر فيليب لاركن «طول الزمن وعرضه») إلى مَن لم يُولدوا بعد. الشعر (إذا غيرنا الاستعارة) نسيج حي من المخ واللسان،وهو سلاحنا ضد الفناء.
وابداعاتك الشعرية في تجلياته الخلاقة-يا جلال-سلاح..ضد المواجع والأحزان،وصرخة مربكة ومبعثرة لفصول الموت..تذكّر فقط أنّ من أشهر القصائد التي ظل يرددها الناس وكأنها تعالج الموقف من الموت،تلك التي نظمها الشاعر الكبير الراحل سميح القاسم،التي يقول في بعضها: أنا لا أُحبُّكَ يا موتُ/ لكنّني لا أخافُكْ/ وأدركُ أنَّ سريرَكَ جسمي/ وروحي لحافُكْ/ وأدركُ أنّي تضيقُ عليَّ ضفافُكْ.
وربما حملت كلمات القاسم موقفاً واقعياً تجاه الموت،يخفف من حدته ويتعامل معه كأمر لا جدال فبه؛لكن الأمر المهم في هذه الأشعار أنها تحفل بالجماليات،وللمفارقة،حتى في ذكر الموت،فهو يصبح مثله مثل أي قضية أو مشهد أو صورة،يصاغ جمالياً،ويصبح نصاً إبداعياً، يخفف من وحشته وهيبته.وكثير من الشعراء العرب قد أفلحوا في ذلك الجانب وأسسوا لنصوص عن الموت تحفل بالجماليات وإشراقات الحياة-مثلك أنت -ياجلال-تماما..
فأبتسم للحياة..ودع-إن شئت المواجع لي-