الشاعر الحداثي سيف الملوك سكتة يكتب نصه بعيداً عن المعاد بقلم: فضيلة معيرش
تاريخ النشر : 2020-06-24
الشاعر الحداثي سيف الملوك سكتة يكتب نصه بعيدا عن المعاد والمكرر والصور الشعرية التي فقدت تأثيرها ودهشتها ...قصيدة  الرائي " أنموذجا "

قصائد الشاعر سيف تشعرك بسهولة الولوج إليها كالبيت الذي نشأت وترعرعت فيه مهما تغربت عنه وتغيرت مسالك العودة إليه وغدت عصرية، تستطيع وأنت مغمض العينين الوقوف عند عتبة بابه وإيجاد مفتاحه الذي اتفقت مسبقا أنت وأهلك على مكانه ، في حال فرقتكم السبل وأعادكم الحنين إليه يوما.
نظرة الشاعر للواقع استشرافية دقيقة التوجيه ، يتحكم في حجم القصيدة التي يكتبها من حيث القصر أو الطول .
حيث النص الفارق في الدهشة والبساطة والعمق ، لم يرهق نصه بالصور الشّعرية المبالغ فيها والمكررة ، ما يمكن قوله أن الشاعر الحداثي سيف الملوك سكتة يكتب نصا بعيدا عن المعاد والمكرر" الشعر ليس أن تلتقط ما نثره غيرك ، وتعيد صياغته بل الشعر هو أن تؤسس لرؤيا جديدة وبنية تعبيرية جديدة تتوالدان في حركة إبداعية مستمرة " 1
حين الإطلاع على منجزه نجد أن القصيدة عنده قد وصلت لمراتب عالية من التعبير كما هو الحال في كتابات الشاعر المصري" أمل دنقل " الذي تعد قصائده التفعيليّة علامات فارقة في خارطة الشعر الحداثي، وكذا الشاعر محمد مفتاح الفتوري الذي تألق بدوره في شعر التفعيلة و الشاعر الفلسطيني " محمود درويش" الذي يشكل شعره التفعيلي ظاهرة فريدة....ألخ.
" الشعر لم يعد مجرد نزوة ذاتية أو حوار داخلي ، يسقط العالم الخارجي
أو الآخرين من أفقه إنه شيء يتوجه للآخرين عبر ذات الشاعر ، الإنسان نفسه وهذا يساعدنا على إدراك سبب ميل الشاعر كونه يمثل وعيا كاملا لوظيفة الشعر " 2
يقول أيضا صلاح عبد الصبور في كتابه " حياته " في الشعر " كنا قد خرجنا من عباءة الرومانتيكيّة العربيّة بموسيقاها الرقيقة وقاموسها اللّغوي المنتقى ، الذي تتناثر فيه الألفاظ ذات الدلالات المجنحة و الإيقاع الناعم
وكنا قبل ذلك كلّه أسرى للتقليد الشّْعري العَربي الذّي يؤثر أن تكون للشعر لغته الخاصة المجاوزة للغة الحياة " 3
وعي الشاعر ارتبط بنقد مجتمعه حتّى وإن طبق قاموسا شعريا سائدا .
ديوان الرّائي للشاعر سيف الملوك سكتة صدر عام 2005 / 2006 م عن منشورات الاختلاف عدد صفحاته ( 119 ) ، يحتوي على تسع عشرة قصيدة (19) أغلبها جاء موزونا على تفعيلة المتدارك أو الخبب القريب من النثر مثل النّص الذي سنستشهد به .
على مستوى البنية جاء العنوان اسما مفردا معرف فهو معروف الهوية بالنسبة للشاعر .
توزعت العناصر المشكلة للعنوان وفق نموذج توافقي يكشف عن حرص الشاعر العميق جعل القصيدة برمتها تدور في نطاقه – الرائي -
حيث جاء مبتدأ مرفوع بالضمة ظ-ع –آ كونه اسم منقوص والخبر محذوف
الشاعر يبين مدى حاجته لتعميق ارتباطه بما يراه ويشاهده ، هناك عدة أمور حسية وشعورية شاهدة على ذلك –الذاكرة – الأعماق – الشجر – الشاطئ ...إلخ
وعند تتبع النظم في قصيدة التفعيلة نجد ذلك الوفاء على مستوى جمالية اللغة الشعرية ويمكن أن نلمس النمط الإيقاعي من خلال عنصرين هيمنا على القصيدة بشكل واضح هما : التوازي و التكرار وإن كان هذا الأخير شبه منعدم ماعدا تكرار بعض الكلمات على غرار أعماقي والقصد منها مدى إحساسه وتأثره لما يعيشه ويعانيه في عقله الباطن وضرورة البوح به ونقله للمتلقي .
– أبكي – الباكي : إحساسه المرهف اتجاه الآخر فالطفل الحافي والعاري يثير فيه الشجن والألم ويجب حماية ذاك الطفل الكائن الضعيف من استغلال وجشع الآخر .
بينما نجد على مستوى الصوت ما يمكن تسجيله باعتبار الحرف العنصر الأصغر في تأليف الكلام ، نجد الشاعر يمزج بين توظيفه للحروف الجهريّة والحروف المهموسة ، أبرز لنا من خلالها مدى الطاقة التعبيرية التي تضمنتها الأصوات التي هيمنت على النص الشعري كتكرار الحروف الجهريّة على غرار الراء حوالي ثلاثين مرة وكذا حرف العين ما يماثله تقريبا والميم أكثر من أربعين مرة بينما الحروف المهموسة على غرار الفاء حوالي عشرين مرة و القاف عشر مرات والتاء المقبوضة ثمانِ مرات ، و السين حوالي سبع عشرة مرة. وساهم هذا المزج في خدمة موضوع القصيدة وإيقاعها الخارجي أيضا .
كرر الشاعر بعض الكلمات لجعل النص يحقق الانسجام و التناغم الإيقاعي لإدخال المتعة في نفس المتلقي وإظهار الجانب الانفعالي والنفسي وهذا ما تعيشه الذات الشاعرة نجد التكرار في ألفاظ .
ذاكرتي – الباكي - الطفل – وجهي - ...." التكرار هو تكرار الكلمة سواء كانت حرفا أو فعلا أو اسما ، وتكمن الظاهرة الأسلوبية في إبراز أهمية الكلمة المكررة في السياق وبلعب التكرار دورا دلاليا على مستوى الصيغة والتركب إضافة كونه خاصية أساسية في بنية النص القرآني " 4
معجميا الذات الشاعرة ما يمكن أن تراه وترفضه في الواقع تنقله ويتحدد من خلال الحقول الدلالية ، فالمعجم الشعري يعتبر لغة القصيدة يختار من خلاله الشاعر الكلمات التي تؤلف لغته الشعرية وليس كل الكلمات معجما ولكن نتأمل ما ينتقيه الشاعر هناك أقطاب دلالية يستمد منها معجمه
كمعجم العواطف : أعماقي – يجرحني - أسئلتي -ذاكرتي - صفائي -قلبي – أحلامه –أبكتني ...*
ومرد ذلك كون الشاعر ينقل حزنه ونزف أحاسيسه مما يصادفه ويراه في مجتمع تتفاقم معاناة أفراده من واقع مرير يصعب فيه التغيير وبث الوعي ...
معجم الأمكنة : الشاطئ – مثواي ..جاء هذا المعجم قليل ليوضح الشاعر الأماكن التي تشهد رؤاه ويدور فيها محور القصيدة .
معجم الطبيعة :
– الشجر – الرماد - الكون – الغائم –الخريف –الصحراء –النور – النار – غصون – العتمة وهو المعجم الطاغي والمهيمن ، يعكس حتما حاجة الذات الشاعرة إلى الإحساس بالكون والطبيعة وصب حزنه ومآسيه في كنفها كونها الملجأ الذي ترتاح فيه النفس البشرية المتعبة من أعباء ومشاق الحياة والواقع .
يتكون كما هو معروف البناء التركيبي من نمطين من الجمل ، نمط الجملة الفعلية حيث يكشف لنا الشاعر عن الجانب الحدثي في النص والفضاء الزمني وتاطيره المستويات الزمنية الدلالية نجد تكرار للفعل الماضي وللفعل المضارع ولا وجود لذكر الفعل الأمر .
" يقترب الشاطئ مني " " شاكست غصونا كنت أنا الظل لها "
" أمسك ما تبقى مني " حيث الإشارة الزمنية الدالة على الحاضر لكن لا تلغي الماضي بل تتداخل أحيانا معه كقول الشاعر : " فلم يبق إلا ظلي الحيّ "
النمط الثاني هو نمط الجملة الاسمية تقريري ورد الاسم المعرف أكثر من أربعين مرة والاسم النكرة ورد أكثر من ثلاثين مرة .
بينما التقنية التي تظهر بوضوح في قصيدة التفعيلة أو في الشعر عامة وتعطيه سطوعه الشعري خاصية التقديم والتأخير .
وقد امتدح وأثنى الشيخ عبد القاهر الجرجاني هذه الظاهرة قائلا :" هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، ولا يزال يفتر لك عن بديعه، ويفضي بك إلى لطيفه، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد أن الذي راقك ولطفه عندك أن قدم فيه شيئًا وحول اللفظ عن مكان إلى مكان " 5
والعناصر التي يشملها التقديم كتقديم الفاعل و المفعول به و الجار و المجرور ..
ومن نماذج ذلك – " عبثا يتأكد من أنه لا يحلم "" أسئلتي لم اشف منها بعد " " الشجر الهارب مني يتبعني "
" في كفيه رماد النرجسية " " إلى الذئب الجائع في الإنسان "
" وأما تقديم ما حقه التأخير ، وتأخير ما رتبته التقديم فقد عمد الأديب على هذا الأسلوب فيرتب الألفاظ على غير ما تقتضيه ترتيبها ووجودها الذهني وذلك من أجل تحقيق أبعاد نفسية معينة تنبع من طبيعة التجربة الشعرية و المعنى المراد نقله ، على ألّا يكون هذا سببا في إفساد المعنى وإبهامه ومن أبرز البلاغيين الذين أشاروا إلى هذا البعد النفسي في التعبير عبد القاهر الجرجاني " 6
ومن حيث الأسلوب التركيبي حافظت الجملة على نمطها الخبري
وهذا لتحقيق مقصديّة البوح للمرسل إليه بالموقف الشعوري الذي يؤرق الشاعر ويجعله في حالة تساؤل وحيرة من واقع معتم الصورة مقلق الرؤى بالنسبة للرائي .
وهناك الكثير من الجمل الإنشائية كقول الشاعر : " من أي مخالب تضيء العتمة ؟ " " وهل الشاي لذيذ مثل شفاه الأنثى ؟ " " هل ما زلت تصافحني ؟ " " هل مازالت عذراء؟ و الغرض منها الاستفهام
الاستفهام هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل " 6 "
وعلى مستوى بنية الضمير نجد –ضمير المتكلم وضمير الغائب
في مقدمة النص اعتمد الشاعر ضمير المتكلم من خلال مؤشرات
لفظية دالة على ذلك " ذاكرتي مثواي – هل أخرج من أنثاي ؟- " فلم يبق إلا ظلي الحي " " ويقترب الشاطئ مني " وجاءت لفظة الغياب الذي جاء به للتنويع في الخطاب ولا تفقد القصيدة جانب الحيوية و النشاط فيها " الرائي الممسوس بسري ..يذهل عني ..عن معناي " " عبثا يتأكد أنه لا يحلم مثلي "
- يسود ضمير المتكلم ليبرز القلق الوجودي الذي يعيشه الشاعر وأسئلته
.العميقة ، وأيضا يتصور كل قارئ أنّه هو الرائي وهو المقصود بالخطاب
وهذا ما زاد في بلاغة وجمال المعاني التي تحملها القصيدة .
- جاء العنوان رمزيا بعيدا عن التصريح والمتن فيه العديد من الصور الشعرية مكثفة الدلالات أبان عنها انزياح الألفاظ أسلوبيا فخرجت عن المألوف في شكلها اللغوي قصيدة التفعيلة تتميز أيضا بالشعرية والجمالية
من الصور الواردة في النص والتي تعتبر سمة أسلوبية مميزة تزيد من بهاء القصيدة نجد الصور أغلبها تنتمي لحقل الاستعارة جاءت كثيرة في النص كقول الشاعر :
" ويقترب الشاطئ مني " " يلمسني الشلل النصفي " " علقت الأمس على مشجب ذاكرتي " "
تشبيه تمثيلي " ولأني أنا الريح " حذف أداة التشبيه والمشبه به .
الصور الفنية الموجودة في النص وضعت المتلقي أمام أسئلة مدهشة
فليس هناك تكرار للمعاني ولم يقدمها أيضا جاهزة .
قصيدة الرائي : .............
ذاكرتي مثواي
الرائي الممسوس بسري
يذهل عني
عن معناي
هل أخرج من أنثاي
معافى الصورة
و الصوت ...
ويقترب الشاطئ مني ؟
ثمة ما يفسد كل صفاتي
ثمة ألواح ستلوح لي
فلم يبق إلا ظلي الحيّ
وغيابي
ماذا يبقى من نافذة كسرها الريح
إلاّ ما يجرحني
و الشجر الهارب مني يتبعني
يلمسني الشلل النصفي
وعودة أحوالي
أسئلتي لم أشف ...
منها
بعد ..
أدخل أعماقي
وأنام
أمسك ما يتبقى مني ...
- أقصد قلبي – أرميه
إلى الذئب الجائع في الإنسان ..
وحبل النار في عنقي يشتد ويسحبني
في الأعماق القاسية حتى....
لا يأخذني النور بعيدا
فأنا أبكتني جدرانٌ تهوي في أعماقي
أبكاني الطفل الباكي
و الطفل العري حتّى من أحلامه
الطفل النائم ..
سوف ينام ..
كلا
لن تنأى كل أصابعه عني
عيناهُ نافذتاي
شاكستُ غصونا كنت أنا الظل لها
لأقول ..
من أي مخالب تضيء العتمةُ ؟
وبأي رصاص ..؟|
هل النافذة مغلقة مثلي
هل مازلت تصافحني ؟
وهل الشاي لذيذ مثل شفاه أنثى ؟ّ
علقت الأمس على مشجب ذاكرتي
ونسيتُ ..
لا ماء في الحنفية
لا صحراء في قلبي
قلتُ :
ولا يمكن للظل المشي ورائي
وعدوي ...
عبثا يتأكد من أنه لا يحلم مثلي
ينأى الآن كثيرا عن صورته
في مرآتي ..
في كفيه رماد النرجسية
هل مازالت عذراء ؟
و لأني أنا الريح ...
فلستُ أهبُ
وأترك أشكالي في الكون الغافل عني
*
بعد غد
سأكون مع الأشياء اللامرئية ..
و أمر على وجهي الغائم
وجهي المتلبد بالأحوال الصعبة ...
أترك بعض رحيلي
و خريفي الراكض نحوي .

المراجع :
1 - القول لأدونيس –كتاب شعراء أعلام من المشرق العربي للدكتور ميشال خليل جحا ص 511
فضل تامر ص 356 وزارة الإعلام العراقية 2-
3- صلاح ع الصبور الأعمال ك الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1193 ص 129 .
4 – عبد القادر حسين الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر في البلاغة دار غريب للطباعة و النشر و التوزيع 2006 ص 114 .
5 – التقديم و التأخير بين القيمة النحوية و الجمالية البلاغية ...عبد الوهاب حجازي ...شبكة ضياء ..مؤتمرات ...دراسات..أبخاث
6و 7 كتاب المصلح النقدي في التراث الأدبي العربي ل محمد عزام ص 114/ 115
– 8 - ديوان الرائي للشاعر سيف الملوك سكتة قصيدة االرائي ص 55 /56/57/.58
بقلم // فضيلة معيرش/ الجزائر