حواجز الموت بقلم:نزهة الرملاوي
تاريخ النشر : 2020-06-24
حواجز الموت
قصة قصيرة
نزهة الرملاوي

اليوم كأيّ يوم يعصف فيه الضّجيج على حواجز الانتظار، ريتا القادمة من ليل الاغتراب، الآملة برؤية المدينة، أتعبها الوقوف أمام الحواجز المغلقة، مشت على الجسر المقام فوق حاجز قلنديا، بدت العيون غائرة في وجوه متعبة، اتكأ المشاة على آلامهم، مضوا في أوجاعهم، المسافة تتمدّد على جسر طويل، يزيل السّتائر عن قذارة المتسلّطين، ويعكس الثّبات في وجه العابرين.
جملة من التّحدّيات تستقبل ريتا وهي تتأمّل أحوال الماريّن، صرخت في أعماقها: سأمرّ على حزني وتعبي وأنتصر.. داست عجلاتُ القهر آمالها بالرّجوع، وما رحمت عودتها بعد شقاء في الغربة وهشاشة تنخر عظامها، بدت كسلحفاة طالت بها المسافات فوق جسر الشّقاء الطّويل. من بعيد رأت وجهاً ما زالت نضرته في عبق الذّاكرة، التقت العيون ودار أمامها شريط من ذكريات قديمة قفزت عن أعتاب المدرسة، تعانقت الأرواح من جديد.
أماني التي تقطن قبالة الجدار من جهة المدينة، تخطّت حاجز الصّمت ومضت لتسألها: ريتا.. أنت ريتا ابنة جارتنا أم جريس، صديقة الطّفولة وزميلة الدّراسة أليس كذلك؟
ابتسمت ريتا وواصلت النّظر إلى شفاه أماني لتتأكد من فهمها الكلمات، هزّت رأسها وأجابت: نعم أنا ريتا بلحمها وشحمها..
كيف حالك ريتا الغالية؟
عذرا، ارفعي صوتك حينما تتكلّمين.. لقد نفدت بطّاريّة السّماعة.. ومن الصّعب أن أسمع الأصوات..
ما بك؟! الا تسمعين هذه الضّوضاء التي تنتشر من حولك، مركبات وزعيقا وزوامير تملأ الفضاء بالصّخب ؟
لا أسمع إلا طنينا وتشوّشات في الأصوات.
حاضر، سأرفع صوتي، وأدنو من أذنك حين أتكلّم.. كيف حالك؟ متى عدت من أمريكا؟
عدت إلى الوطن سائحةً بعد أن فقدت بطاقة هويّتي التي تثبت أنّني مواطنة مقيمة في القدس، بسبب غيابي لسنين طويلة وعدم تمكّني من العودة قبل الموعد المحدّد.
أعانك الله على شقاء الغربة وشقاء البقاء.
فالأشقَ بقية عمري على أرصفة الوطن.
عن تعب الغربة والانتظار تكلّمتا، أخذهما الحديث عن الطّفولة، دُهشت ريتا ممّا تراه من حولها، وسألت أماني: ما الذي أراه؟ جدارا وبوّابات تعيق دخولنا إلى المدينة؟ وما هذا الجسر الطّويل الذي يتلوّى كأفعى تتربّص بنا وبالمشاة فتزهق أرواحنا تعبا وبلا رحمة؟
تتعدّد مقاصد وضعها يا صديقتي، مضت سنوات كثيرة ما همد فيها ألمنا، تعاقبت فصول التّهجير، وتلتها فصول التّهويد، جاءتنا معاهدات مهزومة أكملت عمليات الهدم والشّطر والقصّ والضّم تحت أغطية من الصّفقات المجنونة، جدار عمره من عمر الوطن المشطور، شطر المدينة وقسّم المقسوم، مارد نهض ليقوّض أحلامنا، ويُقصي بحرنا، ويفرّق أهلنا، وما زال ماضيا في قتل أمنياتنا، أطفأ أفراح مدينتنا ومشاعل الحريّة في وطننا، ومزّق وحدته، التهم مساحاته بشراهة، وراح يقتلع ما يقف في طريقه الطّويل.
حديثك زاد من ألم يضاف إلى ألم قدميّ اللتين تواصلان المشي على هذا الجسر البغيض بلا نهاية، يا للخسارة، تغيّرت معالم المدينة، أين جبالها التي كانت مُزيّنة بالزّرع والزّيتون وشوارعها وطرقاتها الواسعة؟ أرى بنايات تناطح السّحاب وتخفي النّور وراءها.. ظلّ حلم العودة يراودني، لم أنسها في غربتي ولو للحظات.. وها هي أحلامي تُوأد في قبيلة العنصريّة.
الجدار طويل كطول القهر في قلوبنا، أتى الجنود إلى الأرض بلا ميعاد، اقتلعوا أشجارها وأقاموا على بقايا جذورها المستوطنات، فجّروا البيوت بلا رحمة، تسابقت الجرّافات إليها، أخذت تغتالها وتخفي بقاياها، تخلق سُحباً من الرّمال، وجبالاً من الرّدم، والأيادي المكبّلة عاجزة عن احتضان الأمكنة، عيون المقهورين تُعاند البوح بالألم، وتُبعد الخوف من داخلها.
يا إلهي ما الذي أسمع عن مدينة لا زالت تسكنني، ما زلت بها طفلة، تغفو جدائلها على أدراج القناطر العتيقة، وخطواتها تلاعب الظّلال في الحارات، ساحاتها تدغدغ مشاعر الحبّ فيّ، لم تغب أصواتنا التي تنشد للأعياد في المعابد، ولا زال صوتها الخارج من النّور يعلو بين أروقة المساجد. في غربتي كان الحنين يُضيء الفوانيس الغافية في زوايا الذّاكرة، هناك حيث تتعالى ابتهالات المصلّين وتراتيل الشّاكرين، أصوات الباعة تتخطّر في كلّ مكان، خطواتنا تتراقص، تجري مع الصّبية هنا وهناك، طائراتنا الورقيّة نطلقها مع الرّيح القادمة قبل الشّتاء، فتقفز بين الغيم وتعلو بلا تعب، نركض حتّى تختفي من خلفنا المسافات.. يا الله ما أجمل مدينتنا!
مدينتنا لا زالت تتنفّس، أبنية بها تساوت مع الأرض، تسابق المعذّبون إلى ركام بيوتهم.. ركضوا، فتّشوا عن ذاكرة الأشياء وتفاصيل الصّور.. نبشوا أعماقها، وباتوا في عراء الأمنيات.. البلدوزر الوحش ينهش حروف الصّغار المرسومة على الحيطان، وأكفّ الجرافات تغتال البراءة من عيونهم النّادية من صمت الدّمعات، ضحكوا، رسموا من ضجيج الخطب والمهرجانات أملا بحجم السّماء... صرخوا، خجل العالم أن يستيقظ أمام صمودهم.
أصوات الرّضع تضيع في الزّحمة، تتوقّف أنفاسهم الصّغيرة تحت شمس الانتظار، ما زالوا يتلوّون ويواصلون البكاء، والأمهات الصّابرات يرسمن من القهر فرحاً، وينسجن من الألم ابتسامة، والصّغار لا يكترثون، يمضون في بكائهم، يفتّشون عن زجاجات حليب ودمى ضاعت بين زحمة المنتظرين.
أتذكرين رحلاتنا المدرسيّة إلى البحر؟ أتذكرين يوم صنعنا من رماله بيوت أحلامنا الكبيرة، أخذتنا موجاته ونأت بنا إلى البعيد.
ومَن ينسى يا صديقتي؟.. يا الله، لقد أتعبنا الوقوف، لا حياة لمن تنادي.. يئس المنتظرون مثلنا، ها هم يطرقون الأبواب المغلقة، اسمعي، بدأت أصواتهم تعلو.. ها هم ينهضون من جديد، خرجوا من رحم البقاء، وتجذّروا بالمكان.
الجنود لا يبالون، أطلقوا وابلا من الرّصاص لتسكت الأصوات، نظرت ريتا إلى أماني وقالت:
يا إلهي.. ما أبشع ما أرى! انظري وجوه الناس وقد احتقنت ألما وغضبا، تماما كوجه المدينة الذي يبدو شاحباً حزيناً.
- كيف لا تحزن وجرحها يكبر من بعد الأحباب وتفريق الأخوة، لقد تقطّعت بهم السّبل، غير الجدار ملامحها وتفاصيل وجهها، وزيّف تاريخها، وقطّع أوصالها، ما أقساهم من بشر! تفحّصي وجوه المنتظرين، وعيونهم الغائرة من ألم الوقوف، هذه الحواجز اللّعينة، تزيد من قهرهم، أصواتهم تخرج متأزمة مختنقة، إلا أنّهم ما زالوا يصرخون.
أخرجت أماني بعضاً من زفير ألمها، وأبقت عيونها مفتوحة نحو النّاس التي تستجدي الأمل بالعبور.
انتهى بهم المسير، وصلتا نهاية الجسر أحسّتا بالتّعب، جلستا على صخرة محاذية للجدار، وراحتا تتحدّثان وتنتظران كما الآخرين.
ريتا التي كانت بحلمها تمضي إلى الصّلاة والحبّ، لم يُسمح لها بالعبور بعد فتح الأبواب، صاحت: إن قدّر لي وكان بالعمر بقية، سأقتلع كل حواجزكم وأعود إلى المدينة. بكت طويلا على صدر الأبواب المغلقة، من بعيد لوّحت بيدها للعابرين، نظرت بازدراء إلى الجدار، أحسّت أنّ روحها تتخطّى الجدار وتعانق الأسوار هناك.
جلست ثانية وراحت تفكّر بالمخاطر وطول السّاعات التي تواجه الطّلاب في أثناء ذهابهم إلى المدرسة والعودة منها، والمصاعب التي تواجه العابرين للمدينة والخارجين منها.. تقرأ في وجوه الواقفين حكايات من التّعب، وفي فوضى المركبات وازدحامها، تسمع الأنين والآهات ولا تسمع الكلمات.. بقيت مع النّاس في عناء الانتظار، صرخ قلبها: افتحوا لي الأبواب لساعة، فقط لساعة يقتبس فيها بصري بعض نور من قنديل يغفو في زاوية من بيتنا العتيق وأعود إليكم..
تلاشى بعض المنتظرين من حولها، وراحوا يهبطون ويصعدون في طرق ملتوية، تسحقهم طول المسافات، وترميهم في حواجز أخرى للعبور، هناك حيث ينام الأمل، ويطول الانتظار في نقطة واسعة تكتظ بالحافلات الملوّنة، طرق حولها أسلاك شائكة، وقاعة انتظار كبيرة تفيض بالنّاس المتألّمة، تفتّش حقائبهم وأجسادهم، يدخلون عبر بوّابات الكترونيّة، تزيد من عبئهم وقهرهم، يُحاولون الوصول في الوقت المحدّد، لكنّهم يتأخرون.
ودعّت ريتا أماني ومضت نحو الرّصيف المقابل، شاهد المنتظرون الثابتون أمام الأبواب ريتا وقد ضلّت طريقها، سارت في مسرب لم تقرأ فيه لافتات المنع وعدم الاقتراب، لم يكن أمامها إلا الفراغ، وطريق ساكن، ودمع يشوّش رؤيتها، وأشباح لجنود... صرخت أماني من بعيد: ريتا حبيبتي توقّفي... لا تقتربي أكثر... لا تتجاوزي الخطّ المرسوم لا أحبّ رحيلك دون وداع.. أرجوك عودي.. ستأخذك طيور النّسيان وتمضي بلا ذاكرة، ستهاجر في آخر مواسم بقائها ولن تحملك في ربيعها، أتوسّل إليك.. لا... لا تقتربي... لا تنقلي قدمك الأخرى في تيه المسافات.. لا تغادري الحاجز إلا منتصرة.. الثّعالب تراوغ يا ريتا… لا تقتربي منهم رجاء... لا تتركي دمك الطّاهر ينتظر على الأرصفة... فلا ديّة لك في عُرف الجُبناء... لا قصاص ولا عدالة لدى الغُرباء... نحن متعبون متألّمون حتّى النّخاع.
ريتا الماضية في حزنها، غريبة المكان والزّمان واصلت سيرها، من بعيد رصد الجنود تحرّكاتها، تصيّدوا جهلها بالمسارات قمعوا خطواتها الهادئة فاستقرّت بالمكان، هوى الرّصاص على جسدها المنهك فهوت في لحظات. غضبت العيون من رؤية الذّبيحة، فتحت الأبواب لحظات لعبور القطيع، وبدأت مراسم الرّقص حول الغنيمة، شربوا نخب دمها المراق، وزفّوها لمقابر الأرقام.
الشّمس توشك على الغروب، تمضي خلف البحر الهائج في الذّاكرة، تودّع المدن المقهورة وترحل، والأبواب المؤصدة ترسم ظلال الأعمدة على غبار الأقدام العالقة من جديد، دوّامات من الذّل تزيد من غثيان المنتظرين ومن حطام أنفسهم، تنثره كالرّماد على حواجز الموت، فتبدو نسيجا من قصص لواقع يشبه الخيال.
21/6/2020