نوّار الدّفلة بقلم:محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-06-16
نوّار الدّفلة بقلم:محمد المحسن


(تقديم محمد المحسن)

باسم الحداثة، قام الكثير ممن يسمون أنفسهم كتّابًا بإخراج نصوص تتشكل من جمل متناثرة لا رابط بينها ولا معنى لها وسمّوها قصصا قصيرة تروم بناءً حديثاً يسعى إلى التجاوز و خلخلة أنماط السرد التقليدي وزحزحة أفق انتظار القارئ.وعوض أن تجتذب هذه القصص القارئ وتستهويه حدث العكس،لأنها تفتقد تلك المتعة التي كانت توفرها كل أنواع السرد والتي تنهض أساسا على الحكاية،صحيح أن الأجناس الأدبية في حاجة إلى التغيير والتطوير،لكن من غير أن تتلاشى المبادئ الأساس التي تكوّنها فالتجاوز يتم في إطار القواعد نفسها التي يقوم عليها كل جنس .
إن القاصة/الشاعرة التونسية هادية آمنة شديدة الوعي بهذه المسألة لذلك تجدها تحرص كل الحرص على إضفاء طابع الجدة على كتاباتها من غير أن تنزلق في متاهات الغموض،متسلحة بكثير من تقنيات الكتابة القصصية،وتجدها أيضا تصر على إمتاع القارئ وإهدائه لذة القراءة من خلال حكاية مشوقة يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل ويأخذ فيها العجائبي بعدا رمزيا.
وإذن؟
نحنُ إذا أمامَ نصٍّ زاخرٍ بلغةٍ فريدةٍ متوهجة..لغةٍ جمعت ما بين النثر والسرد القصصي بكل حنكةٍ واقتدار..
فلا نكاد نقرأ جملةً إلا و يحضر فيها رمزٌ أو تشبيهٌ أو كنايةٌ أو استعارة،ومع ذلك نجد النص لا ينفلتُ من يدِ الكاتبة ليحافظَ بكل مهارةٍ على لغةِ القصة القصيرة حاضرةً ومهيمنةً على كل انتفاضاتِ تلك اللغة الرائعة.
إذن في هذه القصة السلسة يفاجئنا هذا الازدحام من الصور البلاغية الرائعة والتي جاءت خادمةً للنص وموظفة بشكل دقيق للتعبير عن أحداثه وتقديم رسالته،وقد جاءت عفويةً في غالبها غير مقصودةٍ لذاتها،لكنها ألبستِ النَّصَ رداءً بهيًّا.
وللقارئ-هذه اللوحة القصصية الفاخرة-للمبعة التونسي هادية آمنة أختم وأقول: أحيانًا لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح،يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلًا على نافذة إدراكك دون أن تغادر! وهذا مافعلته المبدعة هادية آمنة..وتمنياتنا لها بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال.

نوّار الدّفلة (الفصل الرابع )

جدار فاصل بينهما تسلّل من خلاله صوت رخيم يتغنّى بأنشودة فرنسيّة على ضوء القمر ماتت شعلة قنديلي محبّة في الرّب افتح بابك صديقي بيارو أعرني ريشتك لأكتب بعض الكلمات اخترق النغم الحالم مسامعه وذاكرته...منها ولها كم خطّ قلمه. عاودته الرغبة في حرق وإتلاف دليل هزائمه وانكساراته و لياليه المؤرقة. حزمة أوراق ملقاة في إهمال فوق الخزانة الزرقاء عصارة نبضه قصائد شعر تركها مرتعا يحطّ عليه الذباب بعد تعب. كانت تستفز حواسه وحروفه فيرتقي إلى درجات الابداع يتلمظ عطشا إليها. لاسعة هي كسيخ الحديد. بعقله ينهرها وبقلبه يحتوي سقطاتها .تتمرّغُ عيونه على صدرها النافر الجسور دككتِ حيطان ذاتي المُتداعية " أحبّك.. أحبّك يانوال وأشتهيك شهوة راغية....اسمها مريم بهذا أخبره العوني.جاءت تَشغل الفراغ الذي تركته نوال.نوال كم أحببتها وكم كرهتها كم تعابثت وهي عليمة أنّكَ على حافة هوّتها السحيقة. تبسُّطها في الحديث و في نظراتها ما كان تكلّفا وما كانت تتصنّع الإغراء بل كانت متقنة لصنائعه. ساهمة الطرف الكحيل تستمع إلى أشعاركَ فَتَتعَاظم نشوتكَ....في لَهوَجة مُستعجلة سألها " سيّدتي السيارة الحمراء .هي لَكِ ؟ " " نعم العوني هي لي " يا الله لقد تذكّرت اسمي حينها تجاسر على الاقتراب منها ممتّعا حواسه برائحتها. تقهقرت إلى الوراء وأعادت سؤالها بنغمة حادة. - هل هناك من مشكل؟ نظر مكشرا إلى وجوه الصبية ثمّ هَمس في بحّة وحذر. سيّدتي يجب إدخالها إلى البهو فموعد خروجهم وشيك وما أقدرهم على قوّة التدمير والإفناء فأنا خبير بعبثهم. نظرت في ساعتها ثمّ ارتبكت وهي تبحث عن المفتاح في فوضى حقيبتها دقّ العوني على بلور السيارة وسبقها مهرولا إلى ظلّ شجرة توت اخترقت الباحة فَـفـَزِعَت لها العيون مستطلعة.السيّارة الوحيدة التي كانت تخترق حرم المدرسة هي سيّارة مفتّـش التعليم فلمن هذه؟
عاد كعبها يوقّع على الطِّوار الإسفلتيّ الرمادي في عجلة . انتابه ارتياح.
لها سيّارة ففرصة اللقاء بينها وبين السائق عثمان أصبحت مستحيلة. تبّا له من جِلف نصف أميّ .
غَبِطه على تلك الجسارة وعلى ذلك الانطلاق الفطريّ في تقصي دروب المغامرة. كان متمكّنا في تطويع الحسان بجسمه البرنزيّ الفارع وقسماته الموسومة بطابع حسن فحوليّ متناغم مع ضحكته الرنانة التي يصلها بالشتائم الوقحة يتبادلها مع زملائه من السائقين بعدها يترك المِقود لقدره .يرفع يداه مُتضرّعا قائلا " تُبنا إلى الله" أحبّ الله بقلبه وجوارحه وقدّم لنجواه حمدا على المعاصي التي يخاف التوبة منها. استجمع شجاعته وخاطبها ذات مساء" نوال أيتها الزميلة سوف أجعلك سيّدة مصونة "رنت إليه بعيونها السوداء الضاحكة قرّبت وجهها منه -يكفيني أنّي لكَ يا شاعِري مُلهمة. ثمّ دندنت موقّعة بحركة راقصة من كتفها -أخاف القفص أتوق للحريّة مع كلّ نَفس.أنكر قولها.هل جُنِنتَ لترتبط بمثلها ألم تكن شاهدا على مجونها؟ خطاياها كثيرة تأكل روحه كانت تخطو بملكة الأنثى الفاتنة المحاسن على أرضه الرخوة.
كانت به رغبة مستعرة لامتلاكها.-آه كم تبدو باهرة وسط الجميلات .
يبسم إشفاقا على نفسه أنتَ مُعتلٌ عليها مهينا لنفسكَ في رضاها. خذ يا قلبُ بيدي ولا تسأل.
أما قالوا إنّ المرأة لعنة خيْر للرّجل أن يخشى أن تُصادفه أنثى يُفتَـتَـنُ بها أما كان الأجدر بي أن أقوّم طِباعي وألطّف ما بي من شبق لا أختلف عن السائق في رغبتي.هو يريدها مُجرّد أداة أو لعبة وأنا أعتقد أن الوصاية لي عليها. كلّما أمعن التفكير فيها اشتد عليه الالتباس.لقد تورط في الإفصاح عن رغبته في الزواج منها مخافة ضياع فرصة غرسها و إعادة تشكيلها لتكون نباتا جديد الخلق. لمح الساكنة الجديدة لقسم نوال وهي تمسح الأتربة بحنوّ مكفكفة دموع طفلة صغيرة وقعت على أرض الساحة عند تراكض بعض الأولاد في انطلاق عنيف وراء كرة قماشية مترهلة لفظت البعض من أحشائها. مثلها مثل نوال تبدو حريصة على أداء مهمّتها التربوية على أكمل صورة بمثابرة نادرة الوجود. تتحسس مواطن الفاقة فتقتطع من مرتّبها ما يسدّ حاجة تلاميذها قبل حاجتها كم تطوّع عثمان للمغامرة بالسير على الطريق الصخرية مضحيّا بعجلات سيارته لتتمكّن نواله من توزيع حمولات علبها الكرتونية .كرّاسات , كتب وأقلام وملابس مستعملة تقي الأجساد الصغيرة من لسعات البرد الموجعة ونخز الأشواك الدامية لأقدام عارية تسلك الدروب والأحراش إلى المدرسة. أسندت ظهرها إلى سارية وتأمّلت الكرة التي تقيّأت كلّ أشلائها قطع قماش باهتة اللون وجوارب ممزّقة. أكسب الألم وجهها نظارة وهي ترى مأساة طفولة لاهثة في جوع وراء مرح صاخب تختلط فيه الصرخات والقهقهات والبكاء والعويل.

هادية آمنة - تونس-