قراءة في قصيدة "زهرة الجنوب" للشّاعر صالح الزّيادنة بقلم: د. عامر جنداوي
تاريخ النشر : 2020-06-14
قراءة في قصيدة "زهرة الجنوب" للشّاعر صالح الزّيادنة بقلم: د. عامر جنداوي


هي القصيدة الأولى في ديوان الشّاعر الثّاني، "أنغام حائرة"، الصّادر سنة 2001.
القصيدة مكوّنة من عشرين بيتًا، على البحر الكامل.
"زهرة الجنوب" عنوان يوحي بمدى حبّ الشّاعر لبلده، التي يراها زهرةً لكلّ الجنوب، كنايةً عن جمالها وبهائها والمكانة التي تحتلّها في نفسه.
يستهلّ الشّاعر قصيدته باستفهام بلاغيّ:
"ما للقوافي قد أتتني فجأةً
وطغت على القرطاس والأوراق"؟
وهنا لا بدّ من أمرين:
الأوّل أنّ القصيدة تفرض نفسها دون تخطيط أو سابق إنذار "أتتني فجأةً"، والثّاني أنّ الشّاعر يعي ويعلم سبب مفاجأة القوافي وتدفّقها " وتدفّقت كالسّيل"، وهو الشّوق "مشتاقة من شاعر مشتاق"، وليؤكّد للأهل بقاءه على عهد المحبّة "إنّا على عهد الوداد بواقي".
ومن ينظمُ الشّعر يعرف أنّ القصيدة تفرضُ نفسها على الشّاعر، الذي ما عليه إلاّ الاستجابةَ لندائها، وهذا ما حصل ما شاعرنا، فجاءت أحاسيسُه منسابةً صادقةً، نقيّة عذبة.
من حيث المضمون، فالقصيدةُ دفقُ فخرٍ بالعروبة والحسب والنّسب:
"تجري دماء العرب في أوصالنا
من خالص الأنساب والأعراق"

وفخر بالشّهامة والكرامة:
"إنّ الشّهامة منبعٌ ثرّ هُنا
والنّقْب نبع للكرامة باقي"

وسموّ الأخلاق:
"إنّا جُبلنا في الجنوب على التّقى
وعلى سموّ الرّوح والأخلاق".

وهم (الشّاعر وأهل الجنوب) أهل التّقى والدِّين:
"إنّا جُبلنا في الجنوب على التُّقى"
...
"قد أخلصوا لله في الميثاق"
...
"يتمسّكون بكلّ ما أوصى به
ربّ البريّة باعثُ الأرزاق"
وهم الذين يهتمّون بتربية النّشءِ على نهجهم في العروبة والتّقوى ليحمل هؤلاء من بعد آبائهم راية المجد عالية ترفرف خفّاقة في سماء الحضارة والتّقدّم.
الصّدق عنصر واضح في القصيدة، وما ذاك إلاّ دليل على حقيقة ما تنبض به روحه، ويخفق به قلبه تجاه بلده. فالشّاعر يُقسمُ في القصيدة مرّتين ليؤكّد صدقَ شعوره تجاه الجنوب، وحبّه له ولأهله:
"والله إنّا عصبةٌ تسمو إلى
رفع الجنوب على ذُرى الأعناق"

وفي الثّاني:
"تالله ما أنّتْ حُشاشةُ شاعرٍ
إلاّ وكنتم في الونى ترياقي"

واستعمل النّداء مرّتين:
"يا رهْط إنّي شاعرٌ يأبى الهوى
أن تستكنّ بمهجتي أشواقي"
(الهوى هنا فاعل للفعل يأبى)
وكأنّي به يهمس لها، ليبثّها لواعج حبّه وحرقةَ أشواقه...!

والثّانية:
"يا زهرة البيداء تلك قصيدتي
تزهو كشمس البيد في الإشراق"
"زهرة البيداء" كناية عن جمال مدينة "رهط" كما يراها وحُقّ له، ويكفينا -نحن- متعةً أن نتخيّل زهرةً في الصّحراء...!
في القصيدة أساليب كثيرة غير القسَم والنّداء والكناية، وقد كان للصّورة الحسيّة منها نصيب.
"تزهو كشمس البيد في الإشراق"، فمن عاش في البيد يعرف مدى جمال شمسها عند الشّروق، وهو تشبيه مأخوذ من حياة الشّاعر كونه بدويًّا، فقد تخيّل قصيدتَه بإحساسه المرهَف شمسًا تشرق على البيد، ويا للجَمال...!
صورة أخرى "إنّ الشّهامة منبعٌ"، و"النّقب نبع للكرامة باقي". وما يميّز النّبعَ أنّه دائم الدّفق والعطاء الذي لا يتوقّف، وهي صورة حسّيّة رائعة معبّرة، النّبع يعطي الماء، والنّقب يعطي الشّهامة والكرامة، ولا يتوقّف.
القصيدة "زهرة الجنوب" بمجملها جزء مُقتطَعٌ -إن جاز لي- من روح الشّاعر الكبير بعروبته، وأصالته، ودينه وأخلاقه، بِحبّ بلده الذي يتدفّق غصبًا عنه:
"يا رهط إنّي شاعرٌ يأبى الهوى
أن تستكنّ بمهجتي أشواقي"
والصّحراء تشهد له حبّه، أليست رفيقتَهُ الدّائمة؟
"ولتسألوا الصّحراء فهي خبيرةٌ
عن منتهى الإخلاص في أخلاقي"
ثُمّ يقفل قصيدتَه كما بدأها بالحبّ والانتماء:
"إن كنتُ قد أودعت حبّي عبرها
فالنّقب صفوةُ إخوتي ورفاقي".
بقي أن أقول إنّ حرف الرّويّ الـ(قاف) بعد مدّ من أحبّ القوافي إليّ، ولا أنسى شاعري العراقيّ المحبوب أبا غيلان بدر شاكر السّيّاب حين قال:
"الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق
عراقٌ، ليس سوى عراق ‍‍
والبحر أوسع ما يكون
وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى
سمعتك يا عراق...!"
القصيدة تحملُ في جعبتها الكثير، لكنّي أكتفي بالقول إنّها عهدُ حبٍّ ووفاء للنّقب خاصّة والجنوب عامّة بأهله صغيره وكبيره، وأرضه سهله وجبله، القصيدة نسخةٌ عن شخصيّة صاحبها، ومرادفةٌ لها.

تحيّة صادقة لصديقي وأخي الشّاعر المعروف صالح الزّيادنة أبي جَمال، اعذرني يا صديقي إن قصرت قراءتي عمّا حملته القصيدة في جعبتها، شكرًا على هذا الإبداع النّابض بالحبّ والانتماء والوفاء، شكرًا على إثرائنا بفكرك العميق، وبصيرتك البعيدة الثّاقبة، حفظك الله، وأمدّ في عمرك، ذخرًا ونبعًا منه نروي شوقنا لكلّ جديد وجميل.