الشاعر التونسي القدير جلال باباي لم يقعده المرض..ولم يمنعه من الإبداع..بل أكّد أنّ المعاناة الحقيقية،هي معاناة الفكر والوعي..ليس إلا..
هناك منظّرون يصرون على أن ملامح الإبداع لا تكتمل إلا بامتثالها لشروط المعاناة التي تستوجب على المبدع حسب منطقها أن لا ينفصل بجسده أو بروحه عن ظروف
قاسية يعتبرونها ضمانا لعدم إفساد الموهبة التي يمكن أن يشوهها الرفه الزائد وإن انتهى ذلك برحيل غير مأسوف على المبدع
المعاناة الحقيقية هي معاناة الفكر والوعي،هكذا بقول المبدع الكبير والشاعر الألمعي التونسي جلال باباي الذي لم تنل منه المواجع ولم تثبط عزيمته الفذة
حجم المعاناة التي يعيشها بصبر الأنبياء (يعاني منذ زمن من جلطة دماغية..لها تداعيات دراماتيكية على صحته النفسجدية..)
هذا المبدع الفذ،الذي عرفته ذات زمن بعيد موغل في الدياجير،كان قلمه يربك -حفاة الضمير-ممن تخيفهم الكلمة الجاسرة التي تخترق بشموخ سجوف الصمت والرداءة،أما
قصائده فقد صيغت ومازالت تصاغ بحبر الرّوح ودم القصيدة..
شاعرنا المتميز جلال باباي أكّد لي أنّ المعاناة لا ترتبط بوضع مادي أو اجتماعي أو صحي،قد تكون كذلك بالنسبة لكثير من الكتّاب،إلا أنّ المعاناة الحقيقية
هي معاناة الفكر والوعي التي تجعل الكتابة رهانا كونيا أكثر منها تنفيسا عن وضع اجتماعي خاص.
هنا أستحضر ما قاله الروائي الجزائري واسيني الأعرج:" المبدع الحقيقي هو من يقف على الطرف النقيض من الخطاب المهيمن ويتخذ له أكثر المسالك صعوبة،وهو ما
يعرضه دوما للحصار والمنع والتجويع،وإن كان ذلك لا يمنع-حسبه -من ظهور حفنة من المثقفين القريبين من السلطة ومن الخطاب ”وهؤلاء لا معاناة لهم ويمكن أن نسميهم بلغة اليوم مرتزقة”.
ويضيف واسيني أن تكون مثقفا يعني بالضرورة أن تقبل بكل رهانات الإقصاء والمضايقات والتجويع،التي يعتبرها من مرادفات خيار الكتابة التي كثيرا ما تنتهي
بصاحبها إلى المنفى لضمان المحافظة على نقائه وتحرير قراراته حتى لا يستطيع أحد تجويعه ويصبح هو سيد قراراته.ومن هذا المنطلق لا ينبغي على المثقف فيما بعد التباكي على وضعية اختارها.."
لكن جلال باباي لم يبك..ولم يستعطف السلطة،كما لم"يتاجر" بمعاناته-أقصد مرضه-بل صبر وصابر،تجلّد وثابر،وثبت ثبوت الرواسي أمام العواصف..وسلك منذ البدء
دربا شقيا،لكنه ممتع ولذيذ يتجسّد في الكتابة الإبداعية بمختلف تجلياتها الخلاقة..فكان له حضوره المتميّز والأنيق داخل الساحة الأدبية والإبداعية تونسيا وعربيا،ولطالما أربكت-أشعاره-النقاد (وأزعم أني واحد منهم) بما تضمنته من تطور في بنية القصيدة الداخلية، خاصة التركيب
الموسيقي والتصرفات الإيقاعية التي تتواءم ضمنيا مع بنية الصورة، حيث غدا التعبير الشعري لديه (الشاعر جلال باباي) يتمتع برشاقة تناغمية تفوق النظرة إلى البحر والتفعيلة التي جاء على وزنها..
قلت،جل قصائده (وما أكثرها ) تشير إلى سمات الذات الشاعرة عند جلال باباي واهتمامه بالتجويد اللفظي واللغوي والتعبيري،والعزف على نغم موسيقي متقن يتقابل
فيه-في تقديري،وهذا الرأي يخصني) مع جهود مدرسة المهجر ومع شعراء العاطفة والحس الرومانسي والوجداني في القرن الماضي مثل أحمد زكى أبوشادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وحسن كامل الصيرفي ونجيب الكيلاني وغيرهم من رواد هذا اللون الشعري الذي انتشر في نهاية الثلث الأول
من القرن الماضي،وظل ممتدا في تجارب الشعراء إلا أنه تراجع قليلا في وقتنا الحاضر،وهذه السمة التعبيرية التي تقوم على ازدواجية الإيقاع والتصوير تحتاج إلى دقة كبيرة في النظم حتى لا يسبق أحدهما الآخر وحتى تبدو معالم التجربة هي المنتجة للدلالة والتعبير في النص الشعري.
وهنا بالتحديد تجلت إبداعات الشاعر الكبير-جلال باباي-الذي كما أسلفت-لم يقعده المرض ولم تنل منه-الأزمنة الرديئة والليالي العاصفات-،بقدر ما ازدادت-ابداعاته-
توهجا ولمعانا..
فالرجاء والأمل في الوصال والود والفرحة والانتشاء والشوق والاحتفاء والدلالة العامة التي تغلف الخطاب الشعري، تؤكد حقيقة الصفات والمعالم الوجدانية في
ضمير الشاعر وهي تمثل نقطة الالتقاء في النص وتقود إلى اللمحة الوجدانية التي ما سرعان أن تتحول إلى لوحة غنائية مكتملة النغم والإيقاع من خلال عملية البناء الموسيقية،التي اعتمد عليها الشاعر القدي-جلال باباي-في نظمه وسعيه الواضح للتجديد والتطوير.
من هنا يمكن اعتبار-قصائد جلال باباي-رحلة غنائية وجدانية إيقاعية داخل ضميره الخلاّق قدّم لنا فيها وجها من وجوه التعبير والإبداع في دلالات موسيقية
وغنائية في قالب تصويري موضوعي لا يقف عند حدود الترميز أو العزف على الوتر الموضوعي الفكري فقط،وإنما جعل من الغناء واللحن صورة كلية وفضاء عاما يشمل التجربة بكل تداعياتها،بالإضافة إلى الموسيقى الداخلية التي عكست نغما تواتريا خاصا تعين في صور وأساليب الجناس والسجع
والاعتماد على الرمز والتصوير النفسي والوجداني،وقد فسر ذلك كثيرا من سمات الشخصية والتعبير لدى الشاعر"الأكودي"-جلال باباي (نسبة إلى مدينة أكودة التي تقع في ولاية سوسة الساحلية مهد الشاعر وموطنه)
ما أريد أن أقول؟
أردت القول أن العلل وكل تعاسات وجود-المبدع-على غرار الشاعر القدير جلال باباي- لن تمنعه من أن يبدع وهذا ما يقوله لنا تاريخ الكتّاب والفنانين على مر
العصور.إذ يكفي أن تتوفر موهبة الكتابة لتكون السند والدافع للإبداع وفي غيابها لا أحد يمكنه أن يبدع سواء كان غنيا أو فقيرا أو مريضا..
ولكن..
المشكل -في نظري-مرتبط بالظروف المحيطة بالإبداع لغياب أبسط شروط الصحة في المناخ الثقافي السائد المشحون بالسلبية في ظل غياب رؤية واضحة للفعل الإبداعي،
وغياب رموز ثقافية تعطي جمالية أكبر لصورة الوطن على غرار القيمة الرمزية في لبنان التي يمكن اختزالها في علمين بارزين هما جبران خليل جبران وفيروز،وهو ما يعني أن جوهر الوطن يتشكّل حسبي من رموز الإبداع والثقافة، لهذا يحتاج المبدع إلى دعم معنوي أولا وقبل كل شيء
ثم إلى دعم مادي.(أوجّه في هذا السياق نداءا عاجلا إلى وزارة الشؤون الثقافية كي تعتني بهذا الشاعر المبدع وتؤازره في محنته"الإغريقية" التي سيخرج منها حتما وبإذن الله بسلام..)
من جهته، يؤكد-لي-الشاعر جلال باباي-أن الظروف الاجتماعية القاسية لا تعني أبدا أن يتخلى الكاتب عن شرف النفس،لذا لا ينبغي أن يتذلل للسلطات كما يفعل
بعض ممن يضعون أنفسهم في سجل المبدعين لحل مشاكل اجتماعية أو صحية كالتي يعاني منها الكثير من بني البشر بخاصة ببلادنا-وكم هم كثر-،أو امتهان كرامتهم وشرفهم من أجل فتات لا يُسمن ولا يغني من جوع.كما لا يعني بالضرورة أن يعادي المثقف كل شيء ويعيش في زاوية العزلة الشبيهة
بالموت.."
لا أحد ينكر أن معاناة المفكرين والأدباء ثقُلت بها سجلات التاريخ الإنساني،ومآسيهم في الشرق والغرب وعبر كل الأزمنة وقد تخطت معاناتهم حدود البؤس والحرمان
إلى ما هو محاكاة هموم الوطن والتاريخ بأعمالهم، فالذين درسوا تاريخ مسيرة الفكر الغربي خصوصا يذكرون جيدا الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي الذي عاش في الفترة بين 1828 و1910،ورغم غناه إلا أن ذلك لم يمنع من أن يثبت من خلال أعماله أنه واحدا من عمالقة الروائيين الروس
ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر وحتى أن البعض يعدّونه من أعظم الروائيين على الإطلاق،وهو ما يعني أن الرّفه الزائد لم يفسد حسه الإبداعي.وكذا أحمد شوقي بيك الملقب-بأمير الشعراء-والذي عاش في قصر ذهبي في عهد الخديوي حلمي عباس قبل أن ينقطع عن القصر ويميل
إلى جانب الشعب ويتغنَّى في شعره بعواطف قومه معبّرا عن آمالهم في التحرر والاستقلال،فتوجته أشعاره بلقب ”أمير الشعراء”.
كما لا يمكن أن ننسى الكاتب الجزائري الراحل مالك حداد الذي حُرم التعبير بلغته الأم كسائر أولئك الذين لم يسمح لهم بتعلم لغة بلادهم وهو من شارك في الثورة
بكتاباته ذو الحاجة إلى لباس عسكري،إلا أنه عانى إلى وقت قريب من التهميش والإهمال حتى في حياته.والمرحوم الطاهر وطار والذي لم يكن في عوز شخصيّ ليضع رائعاته ”اللاز” و”الزلزال” و”الحوات والقصر”،فلم يكن فقيرا ولا غنيّا،ولم يكن هاجس الوضع الشخصي وراء كتاباته الخالدة
بل كان نزوعه نحو العالمية ورغبته في أن يسجّل عبوره على الحياة بأسئلة ساهمت في بناء الوعي العام وفتحت آفاقا جديدة لأسئلة الإنسان..
هوذا-أيضا-الشاعر التونسي الكبير جلال باباي،يتحدى المرض،المواجع،المحن والشدائد..ويضع بشرف قلمه خلف شغاف القلب ويكتب بأسلوب عذب وخلاق للقادمين في موكب
الآتي الجليل..
تحياتي المفعمة بعطر الإبداع إلى الشاعر الكبير جلال باباي،وأتمنى له كل التوفبق والشفاء..
محمد المحسن (شاعر وناقد تونسي)
الشاعر التونسي القدير جلال باباي لم يقعده المرض..ولم يمنعه من الإبداع بقلم: محمد المحسن
تاريخ النشر : 2020-06-07
