تداعيات جائحة كورونا على العلاقات الاجتماعية في قطاع غزة بقلم:أ.طلال أبوركبة
تاريخ النشر : 2020-06-05
تداعيات جائحة كورونا على العلاقات الاجتماعية في قطاع غزة/ فلسطين

أ.طلال أبوركبة

وضعت جائحة كورونا، التي اجتاحت العالم، المجتمعات الإنسانية كافة، أمام واقع جديد، فرض ذاته على كل التفاعلات والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات، فأمام وطأة التدابير، التي اتخذتها معظم الحكومات في شتى أصقاع الأرض، بخاصة مسألة التباعد الاجتماعي (الجسدي)، اختفت فجأة جميع أشكال التجمعات البشرية خارج إطار الأسرة، وتلاشى المجتمع لصالح الانكفاء على الذات، والنكوص إلى الوحدة الأصغر في مكوناته، وفي حال فريدة من تكبيل الجسد، زادت معها الريبة من جميع أشكال التقارب، خالط ذلك شعور بالخطر والخوف من انتقال العدوى والمرض.

جاءت هذه التدابير الوقائية في مجتمعات طالما اعتادت على نمط ثقافي يعزز الثقة والتقارب، لكن إطالة أمد هذه التدابير من عزلة وتباعد اجتماعي أدى إلى انقلاب في حياة الناس رأساً على عقب، وفرض قواعد جديدة، إذ تم تعليق قواعدهم المعتادة، التي هي حياتهم اليومية مثل تعليق اللحظات التي تؤطر حياتهم مثل الدراسة، والعمل، والتعبد في دور العبادة، وزيارات المقاهي، وزيارة الأقارب والأصدقاء، بحيث لم يعد للوقت ايقاع، فتشابهت الأيام بالنسبة للأغلبية، ويبقى الأصعب حالياً هو تبني معتقدات جديدة وسلوكيات جدية في وقت وجيز.

ويشير علم النفس الاجتماعي تاريخياً، إلى أن علاقة الفرد بالمجتمع في أوقات الجوائح، تعتمد في شكل أساس على مدى قدرة الفرد على صنع واقعه، بما يمتلكه من أدوات الوعي الكافية لذلك، وما يشكله الإحساس بالمسئولية تجاه الآخرين من ضغوط نفسية، وفي حالات نادرة من العزلة،  تجرى خلالها إعادة تشكيل الذات والجسد كمفاهيم ذات أبعاد اجتماعية، كما أنها تثير خلالها أفكاراً حول الخلاص الفردي والثقة بالأخرين، والموت، والخوف من تهديد غير مرئي، وكذلك تدابير التباعد الاجتماعي التي شلت الحركة الاجتماعية في المجالات العامة، وأطاحت بالمسافات الاجتماعية، الحميمية والشخصية والعامة، وقلبت مقاييسها، وربما تفرض في وقت لاحق، خصوصاً مع استمرارها مدة زمنية أطول، ما يُمكن أن نطلق عليه انتقائية العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات المحلية، ما يشكل تهديداً واضحاً للمفهوم الجمعي والهوية الجمعية داخل المجتمع الواحد.

المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة لم يكن بمنأى عن هذه التحولات الدراماتيكية التي عصفت بالمجتمعات البشرية جراء انتشار وباء كورونا، إلا أن الخصوصية الفلسطينية في التعاطي مع هذه الجائحة تبرز نفسها، في انعكاسات وتداعيات ذلك على طبيعة التفاعلات والعلاقات الاجتماعية.

ابتدع الفلسطينيون خلال تاريخهم الممتد في مواجهة الكوارث والأزمات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي، التي كانت تهدف في الأساس إلى بعثرة المجتمع الفلسطيني، وتهديد تفاعلاته الاجتماعية، عدة وسائل "ميكانزمات" دفاعية لمواجهة التهديد الوجودي، الذي تسبب فيه الفصل الإسرائيلي، فكان التلاحم والتضامن الوطني أحد أبرز الآليات في مواجهة تلك السياسات الإقصائية الهادفة إلى ضرب بنية المجتمع الفلسطيني.

ودفعت ديمومة الكوارث والأزمات، التي يتعرض لها المجتمع الفلسطيني، مستوى الخبرات الفلسطينية المطلوبة للتعامل مع الأزمات والكوارث، ما أدى تلقائياً إلى ارتفاع مستويات التضامن الاجتماعي والتآزر والمواساة أمام وطأة التحديات كافة، في قطاع غزة، الذي تعرض ولا يزال، لجملة من الأوضاع الإنسانية والمعيشية الصعبة بفعل الحصار والانقسام السياسي الداخلي، وما تركه من تداعيات صعبة للغاية على كل المستويات المعيشية، ما وضع انضباط المواطن الفلسطيني، بالتدابير الوقائية المطلوبة لمواجهة جائحة كورونا في حالة صراع بين التزام تلك التدابير من جهة، والقيام بواجباته الاجتماعية تجاه الآخر من جهة أخرى.

انعكاس التدابير الوقائية على الحياة الاجتماعية في قطاع غزة:

شكلت التدابير الوقائية، بخاصة الحجر المنزلي إلى بروز جملة من الآثار السلبية، التي يمكن رصدها من خلال النقاط الأتية:

·        ارتفاع معدلات العنف الأسرى: خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني، وعلى وجه الدقة في محافظات قطاع غزة، خصوصاً وأن التزام البيوت أدى إلى أن يواجه المواطن الفلسطيني أزمة اجتماعية ونفسية، في ضوء الواقع الصعب اقتصادياً، ما انعكس نفسياً على الأفراد، فزاد من معدلات التوتر والغضب والهلع مع أفراد الأسرة.

وتفيد بعض الاحصاءات والتقارير الأولية الصادرة من وزارة التنمية الاجتماعية إلى ارتفاع ملحوظ في العنف الأسري خلال فترة الحجر المنزلي، التي اتخذتها الجهات الحكومية منذ بدء الناجحة.

وأشار وزير التنمية الاجتماعية إلى أن دائرة المرأة بالوزارة تلقت ما يزيد عن 70 شكوى من سيدات تعرضن للعنف الأسري في مختلف محافظات الوطن، في حين أشار الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية إلى تلقيه أكثر من 500 مكالمة من نساء تعرضن للعنف النفسي، أو الجسدي، خلال فترة الحظر، التي دعت إليها الحكومة، فيما قالت وزير شؤون المرأة أمال حمد إن الوزارة كانت تتلقى أعدادا قليلة من الشكاوى، إلا أنها ارتفعت أخيرا الى المئات، مشيرة الى أن العنف النفسي يأتي أولا ويليه العنف الاقتصادي.

وأضافت حمد أن العنف تركز أكثر في قطاع غزة، إذ وصلت الى الوزارة مئات الشكاوى من محافظة رفح على وجه الخصوص وبقية محافظات قطاع غزة.

وهذه مؤشرات تهدد في شكل فعلي التماسك الأسرى في المجتمع، خصوصاً مع إطالة أمد التدابير واستمرار الأزمة لوقت أطول، وهو ما تؤكده التقارير الدولية كافة، حول العنف الأسري، التي صدرت أخيراً.

ازدياد محتمل للعنف المجتمعي وارتفاع معدلات الجريمة في المجتمع:

إذ تشير كل التوقعات إلى احتمال زيادة المشاكل الاجتماعية، وتنامي ظاهرة العنف المجتمعي وارتفاع معدلات الجريمة في الأراضي الفلسطينية، خصوصا المشاكل بين الجيران، أو المشاكل داخل العائلات الممتدة، وغيرها، كنتيجة للحجر المنزلي بنسبة قد تتجاوز 58 في المئة، بحسب استطلاع مركز العالم العربي للبحوث المسحية أوراد.

زيادة الأعباء على النساء:

حيث تتحمل النساء كل الأعباء الناجمة عن التدابير الوقائية لمواجهة الوباء وأبرزها تعطل المدارس وتواجد الأطفال في البيت فترات طويلة، وقيامهن بمتابعة تعليم الأطفال عن بعد.

ووفق استطلاع أوراد السابق قال 58 في المئة من النساء إن الأعباء المنزلية الملقاة على عاتقهن قد زادت، فيما قال 40 في المئة من الرجال أن أعباءهم المنزلية قد زادت، وإن 41 في المئة من النساء صرحن بأن واجبات العناية بالأطفال زادت، مقارنة مع 32 في المئة من الرجال.

تردي الأوضاع الاقتصادية:

للعديد من الشرائح الاجتماعية، التي تعاني من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية بفعل تردي أوضاعها الاقتصادية والمعيشية، ما يشكل تهديدا وجوديا لها، ويجعل وباء كورونا وما يحدثه من تحولات مفاجئة غولاً يهدد أو قد يطيح بفئات المجتمع الهشة، التي قد تصبح ضحية التهميش في ضوء التركيز على مواجهة الوباء من دون الالتفات إليها وتمكينها من التصدي له، لنجد أنفسنا أمام جملة من القضايا المعقدة والمركبة في المجتمع الفلسطيني.

تداعيات الجائحة على أداء المنظمات الأهلية في قطاع غزة:

مما لا شك فيه أن هذه الجائحة تشكل تحدياً جديداً في الواقع الفلسطيني، الذي اعتاد كما أسلفنا، على مواجهة الأزمات والكوارث، من خلال التضامن والتكافل الاجتماعي، وهو ما يستدعي من المنظمات الأهلية الفلسطينية، التي طالما كانت سباقة في تمكين المجتمع الفلسطيني في مواجهة الكوارث، من اتخاذ جملة من التدابير الهادفة إلى حماية المجتمع الفلسطيني من الانهيار في مواجهة هذه الجائحة، أهمها:

1-     اتخاذ زمام المبادرة في تمكين المجتمع الفلسطيني من الصمود في مواجهة تداعيات الجائحة على المستوى الاجتماعي، خصوصاً وأنها، أي المنظمات الأهلية، شكلت على مدار السنوات الماضية إحدى الساحات المهمة في تشكيل العلاقات الفلسطينية على مستوى الأفراد من خلال الورش والندوات واللقاءات التدريبية، التي كانت تعقدها في إطار برامجها ومشاريعها الرامية إلي بلورة هوية جمعية للشعب الفلسطيني، وجمع الشتات الفلسطيني من مختلف أماكن تجمعه في الضفة الغربية وقطاع غزة، والأراضي المحتلة 1948، والشتات الفلسطيني، في إطار محاولتها إعادة رسم الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني، وكانت سباقة في استخدام التقنيات الإليكترونية في هذا الإطار.

2-    يفرض الواقع الجديد تحديا خاصا على المنظمات الأهلية في إطار العلاقات والتفاعلات الاجتماعية على مستوى المجتمع المحلي الواحد، خصوصا في قطاع غزة، الذي يفتقر للعديد من القدرات الرقمية، ما يستوجب إعادة التموضع وفق رؤية خلّاقة وابداعية في حماية النسيج الاجتماعي الفلسطيني من التفتت في ضوء ما تفرضه جائحة كورونا من تحديات.

3-     ضرورة استجابة المنظمات الأهلية للتحديات، التي يفرضها هذا الوباء، بما يعني سرعة التحرك باتجاه تبني برامج ومشاريع هدفها تعزيز ثقافة الوقاية من ناحية لدى أفراد المجتمع، وانتهاج جملة من التدخلات الإنسانية العاجلة لحماية المجتمع، وضمان سلامته، ومواجهة الآثار السلبية المترتبة على الإجراءات والتدابير الاحترازية، ما سيلقي بظلاله على هذه المنظمات المنوط بها لعب جملة من الأدوار المركبة في مواجهة هذا الوباء.

4-    العمل على إعداد خطة طوارئ اقتصادية تتكفل بتوفير الحاجات الإنسانية والأساسية للمواطنين، بخاصة الفئات المهمشة وهو ما يعني أن تأخذ السلطة دورها الاجتماعي وتتحمل توفير تلك الحاجات للمواطن، خصوصا وأن الفقر في المجتمع الفلسطيني متعدد الأبعاد، إذ لا يقتصر على الفقر الاجتماعي، بل هناك ما يمكن تسميته الفقر الصحي، حيث لا يجب أن ننسى ما عاناه المجتمع الغزي وما يزال بسبب استنزاف موارده الصحية خلال قرابة عامين على مسيرات العودة واستمرار الحصار منذ سنوات طويلة.

5-    تكييف البرامج والمشاريع بما يتلاءم مع تداعيات الجائحة، إذ حولت العديد من المنظمات الأهلية برامجها ومشاريعها بما يحاكي واقع الجائحة، وبدأت في هذا الإطار في تكييف خدماتها للفئات المتضررة من تلك التداعيات، فعملت على التنسيق مع الجهات الحكومية فيما يتعلق بمراكز الحجر، وتوفير الخدمات اللوجستية لها، ومن ناحية أخرى بدأت المنظمات الأهلية في طرح خطط الطوارئ في التعامل مع الجائحة، وذلك على رغم قلة فرص التمويل المتاحة أمامها، مع إدراكها بأنها أمام مهمة تكاد تكون مستحيلة في مواجهة وباء عالمي، وبحاجة إلى جهوزية واستعداد من كل الجوانب، منظمات أهلية وحكومة ومواطنين.

أعد هذه الورقة د. طلال أبو ركبة ضمن مشروع "توجهات منظمات المجتمع المدني الفلسطينية لمواجهة التحديات المستقبلية" بالشراكة مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية FES

المعلومات والآراء الواردة في هذه الورقة خاصة بالمؤلف (المؤلفين) ولا تعكس بالضرورة الرأي الرسمي لشبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية ومؤسسة فريدريش إيبرت – فلسطين FES.