همجية الذباب وهمجية الإنسان، معارك طاحنة على من هو أكثر همجي بقلم:مروان صباح
تاريخ النشر : 2020-06-03
همجية الذباب وهمجية الإنسان، معارك طاحنة على من هو أكثر همجي بقلم:مروان صباح


مروان صباح / حدث في التاريخ مراراً أن يشارك الذباب في عمليات تنكيدية وإفسادية لحياة الطغاة ، وفي واقعة تخص ابو جعفر المنصور وعلى نحو غير مباشر وهذه فضيلة خاصة تُسجلّ لجليس مجلس الأول ، تحديداً بعد بنائه مدينة بغداد ، تسلطت ذبابة على خليفة المسلمين آنذاك في مجلسه ، لدرجة عجز في تدبر أمره معها أو الخلاص منها ، وبلحظة غضب سأل الخليفة من قال الله عز وجل فيهم ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ، ابو عبدالله ، جعفر بن محمد الصادق ) العالم والفلكي والكيميائي وفيلسوف والطبيب والفيزيائي ، لماذا خلق الله الذباب ، فما كان لجعفر سوى أن يجيبه على هذا النحو ، ( لكي يذل جبابرة الأرض ) ، لكن في مراجعة دقيقة ، سيكتشف المراجع بأن حالة الاضطراب التى تعتبر صفة أساسية في سلوك الذباب ، ليست بالعبثية أبداً ، بل البعوض بصفة عامةً يستمر في الحياة طالما معدته فارغة ، وبالتالي يعيش بشكل فوضوي وفي حالة من الاضطراب الدائم ، الذي يجعله يصنع بيده طريق موته ، لأن بالمفيد المختصر ، الدماء التى يمتصها البعوض على جوع كفيلة في إنهاء حياته ، إذن ، الطنين الذي يصدره ، هي محاولة أخيرة غير مفهومة للمظنون على أذنيه ، ربما تقول له إمنعني عن قاتلي وبالتالي جميع الضربات التى تأتي أغلبها في الهواء أو على جسد الضارب ، هي في جوهرها لصالح الذباب ، لأن الاضطراب النتاتج عن الجوع ، يجعله في حالة غضب شديد ويفقده التحكم بالسيطرة على إرادته ، وبالتالي الجوع يخلق اضطرابات عالية الذي بدورها تمنع هذه الكائنات من تنظيم ذاتهم في نظام كما هو الحال مع النحل ، وهذا أيضاً ينطبق تماماً على الفئات أو الشعوب التى صنفت بالتاريخ بالهمجية أو تلك التى يشار لها بمجموعة تتصرف بهمجية .

إذن ، هناك ارتباط همجي بين الذباب الصغير والإنسان ناقص العقل ، لأن باختصار الطرفين يفتقدا القدرة على التنظيم ، والهمجية تعني في اللغة العربية ( الانحطاط ) ، الفئات الشريرة والمتخلفة والتى يصدر منها كل شيء سيء ، ابتدأ من إزعاج الآخر ومروراً بالقتل ولا ينتهي الأمر بالكلمات النابية ، وطالما الذباب يمضي حياته بين الجوع والاضطراب ، فإن من المؤكد ، لا يتمتع لأي قدرات ذهنية التى تجعله يميز بين إسكات الجوع والشبع حتى الموت ، بل ما هو أخطر من ذلك ، هذه الحشرات الصغيرة ، تعتبر مسؤولة عن قتل ما يقارب المليون إنسان سنوياً ، لأنها تحمل طفيليات ناتجة عن سلوك بيئي همجي وليس لها علاج في كثير من الأحيان ، كملاريا والحمى ، بل تطور الذباب في الآونة الأخيرة ، وأصبح لديه فئة جديدة يطلق عليه ( التسي تسي ) يحمل طفيل يسمى بمرض النوم ، فالملدوغ يصاب بالكسل والنوم لفترات طويلة .

الأغنى في يقيني ، ففي المجتمعات التى يتنوع فيها الفقر ، يوجد أنماط شريرة متعددة ، وهي مفاجأة حقاً ، إذ ما نظر المرء إلى أصل كلمات النابية التى تستخدمها هذه الفئات ، سيكتشف كيف تُبنى الهمجية الشريرة ، ابتداءً من الكلمة حتى المنطق والسلوك ، فالأغلبية تعتمد هذه الأيام على شتائم محصورة بين الجنس والفضلات ، على سبيل المثال وليس الحصر ابداً ، ( إذهب يا ابن الوسخة أو يا ابن العاهرة ، وقائمة المسبات طويلة لا يتسع هذا العمود بصراحة لاستيعاب جميعها ، رغم في الماضي كانت المسبات لها علاقة في الدين ، كالجحيم والنار وغيرهما ، فقد استبدال الناس مفردات شتائمهم مع مرور الوقت ، وهذا التغير له علاقة بالتغيرات التى حصلت مع الثورة الصناعية وفقدان الكنيسة حكم السلطة في أوروبا ، لكنها في النهاية الهدف واحد ، هو إثارة مشاعر الآخر ، وبالتالي تكشف الشتائم الجنسية ، على سبيل المثال عن تناقض عميق ، لأن من المفترض للشتائم الجنسية بين البالغين سناً ، أن تكون شيء ممتع ، لكن ايضاً إذا نظر المراقب إلى الجنس بشكل أوسع ، سيجد بأنه في كثير من الأوقات لا يكون ممتعاً ، لأنه يحمل أحداث مخزية ، مثل الاغتصاب والتحرش والإنجاب غير شرعي وسفاح المحارم والتحرش بالأطفال ، وطالما الجنس ليس دائماً ممتعاً ، إذن ، ليس غريباً أن يُبتكر منه شتائم ثقيلة تثير الحساسيات.

أيضاً ليس غريباً ، والتالي يتعبر أكثر تعقيداً ، لأنه مغلف بقوة المال ويصنف باللذة الحسية ، وهذا يكشف عن أمر أخر ، بأن الهمجية ايضاً طبقية بما تعنيه الطبقية من معنى ، تماماً كطبقية اللغة ، فهناك من هو همجي بالكلمات وآخر في التربية وكثير في الأكل أو الملابس أو طريقة اقتنائه للمقتنيات أو إختياره للكلمات النابية من قاموس غارق في المصطلحات الجنسية والقُمامية وبالتالي ، قد يكون الإنسان متعلم ، لكنه همجي في الجنس أو لا يرى في المرأة سوى الجسد ، بل الأفراح ايضاً طبقية ، ففي العصور البدائية ، كانت الناس يقرعون الطبول في الأفراح بشكل همجي ، انطلاقاً من اعتقاد خاطئ ، هو تعظيم الفرح على حساب إزعاج الآخرين ، ومع حداثة المجتمعات انتقلت همجية الماضي إلى الحاضر لكنها تطورت من الشوارع إلى القاعات ، فأغلب الأفراح تحمل في تركيبتها مبالغات فظة حتى الكيد الأخير ، أو هناك ايضاً ، طبقة تنفق على صورة واحدة ملايين الدولارات من أجل اقتنائها ، في حين تستطيع بقيمتها إنشاء مشاريع تشغيلية للفقراء ، فيصبح لهم دخل شهري من خلال حياة إنتاجية والتى تسمح لهم بالانخراط في المجتمع بطريقة سليمة ، بل هذه الطبقة يتعاملون مع المال بطريقة عشوائية كدلالة عن همجية دفينة ، لأن كيف يمكن للمرء تفسير إصرارهم على تزويد طائراتهم الخاصة بوقود زيت الذُرة لمجرد أنه يصنف بالأنقى ، في المقابل ، إرتفعت كلفة غذاء الفقراء أضعاف عما كانت عليه سابقاً وذلك بسبب المكارم التى لا ترحل كما قال الحُطيئة ، الشاعر العربي عندما هجا أحد وجهاء بني تميم ، فالبيت الشعري إياه ، كما هو معروف ، يعتبر أعلى هجاء عرفته العرب ، قال ( دع المكارم لا ترحل لبُغيتها / وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ) إذن ، جوهر الهجاء يشير بأن الحكاية لا تقتصر على الأكل والملبس ، وهذا كله ، لا يمكن له أن يلد نظاماً متحضراً ، وبالتالي الهمجية في خاتمة المطاف ، نابعة من عجز الفرد أو الجماعة على تنظيم أنفسهم في نظام عادل . والسلام
كاتب عربي