هل نجحت الثورات المضادة بوأد ثورات الربيع العربي؟ بقلم:د معتز محمد زين
تاريخ النشر : 2020-06-02
هل نجحت الثورات المضادة بوأد ثورات الربيع العربي

ربما يصاب الكثير من المثقفين والنخب الفكرية في العالم العربي فضلا عن عموم الناس - وفئة الشباب بشكل خاص - بخيبة أمل قد تصل إلى حد اليأس من إمكانية احداث تغيير بنيوي جذري في الطبقة السياسية وفي أسلوب الحكم وتداول السلطة والتخلص من ثقافة الاستبداد التي تتحكم بمعظم الطبقة الحاكمة في عالمنا العربي ، وذلك بعد نجاح الثورات المضادة المدعومة من قبل حكومات وظيفية تخدم قوى غربية بالالتفاف على الثورات الشعبية والاستحواذ عليها وتسخير كوادرها وقطف ثمارها واختطاف إنجازاتها من أجل إعادة انتاج طبقة سياسية بذات العقلية السابقة وتعمل لصالح ذات الجهات متجاهلة طموحات شعوبها ومتجاوزة عمقها الحضاري والايديولوجي والذي يشكل قارب الانتقال الحتمي نحو استعادة الألق والمجد والروح الحضارية لهذه الامة التي طال رقادها وكثر أعداؤها.. نعم لقد تسلل قسرا إلى داخل كل الطامحين في التغيير الإيجابي شيء من الإحباط واليأس تحت وقع الضربات القوية المتتالية التي تعرضت لها رغبات الشعوب وطموحاتها ، لكن نظرة أكثر عمقا للمسألة قد يوضح الصورة ويبين ما وراء الحدث ويعيد الأمل إلى النفوس المرهقة .. فالوقائع الميدانية والاحداث الاجتماعية الضخمة هي في الحقيقة مجرد واجهة للتفاعلات الفكرية والتراكمات الثقافية والصراعات الاجتماعية النفسية التي تتشكل وتكبروتنمو عميقا في جسد المجتمع لتشكل مع الزمن ذاكرته ومرجعيته وشرارة انفجاره في اللحظة التاريخية المناسبة .. ذلك أن العمق الحقيقي لأي تغيير سياسي واجتماعي على الأرض هو تغيير سابق في الفكر الجمعي والثقافة الاجتماعية والمزاج العام للمجتمع يجعله أكثر استعدادا لقبول التغيير وأكثر اندفاعا لدفع ثمنه ، وهذا ما حصل وعلى أعمق المستويات في العالم العربي نتيجة الثورات التي عمت معظم بلدانه .. بالعادة يحصل التغيير على الأرض تاليا للتغيير الثقافي والفكري ، فالثورة الفكرية والثقافية تنتج ثورة اجتماعية ، والفكرة تمهد للحركة وتعبد الطريق أمام التغيير ، لكن ، وبوجود أنظمة استبدادية مزمنة تحاصر الفكرة وتراقبها وتخنقها قبل أن تكبر ويصبح لها امتدادات اجتماعية لا بد من ثورة - غالبا ما تكون فوضوية وعنيفة – تدمر الكيان الاستبدادي الصلب الذي يقف عائقا أمام أي حركة تنموية تطويرية ، وتفسح المجال بعد فترة لنمو الأفكار وتمددها والبحث عن بيئة ملائمة لجعلها منهج عمل وواقعا معاش ..  

لقد نجحت الموجة الأولى لثورات الربيع العربي في ضرب البنية الثقافية والقواعد الفكرية للاستبداد والطغيان في عالمنا العربي وتغيير الفكر الجمعي والمزاج العام الذي تعايش طويلا مع الاستبداد والظلم حتى بات يقبله كقدر لا مهرب منه .. ومع أن تلك الثورات قد فشلت حتى اللحظة في تغيير ثقافة الطبقة الحاكمة أو اقتلاعها بفعل الثورات المضادة والتي جندت لنجاحها مقدرات مالية وعسكرية وإعلامية ضخمة ، إلا أن الموجة التالية – والقادمة لا محالة تحت مسميات مختلفة ومبررات متعددة – والتي سيكون الفكر الجمعي الجديد والمزاج العام الذي أفرزته ثورات الربيع العربي المحرك الرئيسي لها ستنجح في اقتلاع الطبقة الحاكمة ونسف ثقافة الاستبداد من جذورها ..    

 لقد نجحت قوى الاستبداد والطغيان في إخماد ثورة الشعب الساعية إلى تبديل نظام الحكم – وليس الحكام فقط – والالتفاف على إنجازاتها

 الميدانية ، لكنها دون شك لم – ولن - تنجح في اخماد الثورة الفكرية والثقافية والاجتماعية التي أفرزتها الثورة الميدانية وثبتتها في أعماق الشعوب ووجدانها فغيرت نظرة الشعوب لحكامها وكشفت مقدار ضعفهم وخوفهم من غضب الشعوب واحتقانها .. ولعل من أهم افرازات الربيع العربي الفكرية والثقافية والاجتماعية تغيير نظرة الشعوب للحاكم من فاعل وقادر ومسيطر ومتحكم بزمام الشعوب ومحدد لمصائرها لدرجة تجعله قرين الاله أو أدنى بقليل من ذلك ، إلى خادم للشعب خائف من غضبه طالب لرضاه ساع لتحقيق آماله لدرجة تجعله موظفا يرعى مصالح من اختاره حاكما ويراعي خصوصيات شعبه ويحترم ثقافته وحضارته .

يقول الدكتور محمد مختار الشنقيطي : " إن تحكم هواجس الخوف من الفتنة في الثقافة السياسية الإسلامية منذ صفقة عام الجماعة إلى نهاية الدولة العثمانية يوشك أن يتلاشى بفعل ثورات الربيع العربي ، وتحل محله ظاهرة نفسية وثقافية جديدة هي الوقوف في وجه الظلم السياسي ومقاومته سلما أو حربا " . 

إن الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية منذ قرون تقوم على الإذعان لإرادة الطغاة والمستبدين والظلمة الذين وصلوا للحكم دون إرادة شعبية حفاظا على وحدة الأمة وكيانها وخوفا من الفتنة والفوضى المحتملة والتي يلوح بها المستبدون دوما كبديل عن سيطرتهم .. هذه الثقافة التي لها جذور تاريخية وفقهية كانت عاملا حاسما بتدجين الشعوب ودفعها نحو الخنوع والقبول بكل أشكال القهر والظلم وتبرير كل جرائم وتجاوزات وطغيان الطبقة الحاكمة .. وقد نجحت ثورات الربيع العربي بضرب قواعد هذه الثقافة و هز أركانها وإضعاف سطوتها على العقل الجمعي العربي والإسلامي وهذا هو الإنجاز الابرز لهذه الثورات والذي سيؤسس لمراحل قادمة – لا تتجاوز بضعة عقود - أقرب إلى طموحات الشعوب وأبعد عن ثقافة الاستبداد والاستعباد  .. إن زوال قدسية الحاكم والتوقف عن اعتباره صاحب القرار الوحيد والسلطة المطلقة والعقدة التي تجتمع عندها كل مؤسسات الدولة والتي يؤدي حلها إلى تدمير الدولة والمجتمع والدخول في نفق الفوضى والتوحش والمجهول ، يعتبر الخطوة الصحيحة الأولى بالانتقال نحو نظام سياسي عادل يستلهم قوانينه العصرية من روح الحضارة الإسلامية القائمة على الشورى والعدالة والمساواة والحرية المنضبطة ..

وإن سرعة وصول هذه الثورات لأهدافها في التحرر والتقدم والتطور منوط بقدرة النخب الثقافية والفكرية والدينية على صياغة نظريات فكرية وسلوكيات اجتماعية وطروحات فقهية وثقافة جمعية تكرس ما أفرزته حركة المجتمعات العربية في زمن الثورات من نبذ الاستبداد ورفض الطغيان والنظر إلى الحاكم كموظف لفترة محددة له صلاحيات مقيدة بالقانون ويخضع للمساءلة والاستبعاد بطرق قانونية عند اللزوم ، واعتبار الجيش أداة لحماية الشعب من الاعتداءات الخارجية والداخلية وحماية القانون من تسخيره لخدمة الحاكم ، وليس أداة لتدمير البلاد وقتل المواطنين وتجاوز القانون حماية للحاكم من غضب شعبه ... ومن أجل هذا الهدف لا بد من الاستفادة من كل الوسائل الحديثة المتاحة لنشر هذا الوعي وتثبيته في وجدان الشعوب منعا من السماح لقوى التخلف والاستبداد التي نجحت بوأد الثورات الميدانية بالالتفاف مرة أخرى على حالة الوعي تلك وتدجينها من جديد بما يضمن استمرار الاستبداد والظلم لقرون أخرى .. 

إن تغير المزاج الشعبي العام بفعل ثورات الربيع العربي هي فرصة تاريخية نادرة تحتاج لمن يقتنصها ويكرسها لنهضة الامة من جديد .. ولو نجحت النخب الفكرية والثقافية والدينية في التأسيس لصياغة بنى ثقافية اجتماعية وسياسية جديدة تستبدل العلاقة الاستبدادية القسرية بين الحاكم والمحكوم بعلاقة قانونية تعاقدية تقوم على اعتبار الحاكم موظفا لفترة محددة غير مطلق الصلاحية ويخضع لجهاز رقابي يتابع تحركاته وأداءه ويقيم إنجازاته ويحاسبه أو يعزله عند الضرورة  فإن هذا بحد ذاته انتصار استراتيجي للربيع العربي ومفصلا مهما من مفاصل التاريخ العربي والإسلامي ستقطف الأجيال المقبلة ثماره لا محالة.