الموت ومرارة الفقد في الغربة بقلم: فايز أبوعيد
تاريخ النشر : 2020-06-02
الموت ومرارة الفقد في الغربة

فايز أبو عيد
"إذا كان الموت هو انعدام الوجود، بحيث تصير غائباً عن اللحظة والمكان، فإن المعنى المرادف لهذا الانعدام هو الغربة" تسوقنا هذه العبارة التي قالها أحد المثقفين العرب إلى المصاعب الجمة والحالة النفسية الرثة التي تعتري المغترب أو اللاجئ – الذي هجر عن دياره عنوة- عند فقده لعزيز، من أفراد عائلته أو أحد أصحابه وخلانه ومحبيه، دون أن يتمكن من القاء نظرة الوداع الأخيرة على من يحب ويشارك بمراسم دفنه، وقرأه الفاتحة على روحه.
صحيح أن الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة وهو مصير كل حيّ، إلاّ أن مشاعر الحزن والشعور بالفقد تكون قوية جداً في حال البعد والاغتراب، كما أنه يكشف وجهاً آخر للمعاناة التي يعيشها المغترب عن وطنه ولا يستطيع العودة إليه بفعل الظروف القاسية التي منعته وحرمته من أن تطأ قدماه أرض الوطن، حيث أن معاناته لا تنتهي بموته أو موت أحد أفراد عائلته أو أقربائه، بل تستمر إلى ما بعده! فبعض الناس حينما تفقدهم، لا تكون المشكلة حينها في وجع الفراق فقط، بل لإحساسك أنك فقدت أشياءً منك أنت، أشياء بداخلك لا تدرك ما هي، لدرجة أنك تعيش موجوعًا أكثر من شعورك بالوجع تجاه من فقدتهم أو رحلوا عنك.
إن مرارة الفقد في الغربة يضاعف الألم لدى الأبناء المكلومين الذين حرموا لقاء أحبتهم في الحياة نتيجة ظروف الحرب أو غيرها، ولم يتمكنوا من وداعهم عند الموت بالأخص عندما يكون المتوفى أحد الوالدين الذي أفنى زهرة شبابه في سبيل تربيتهم ليكونوا إلى جواره أخر العمر عند العجز أو الضعف، فألم الحرمان هذا لا يقل عن ألم الفقد والموت إن لم يكن أشد وأقسى.
رغم إيماننا يقيناً أن الموت هو الحقيقة الراسخة وأنه حق علينا ولا مفر منه، إلا أننا نشعر دائماً إنه يفاجئنا وكأننا لم نفكر فيه أبداً، أو أنه بعيد عنا ولا يمكن أن يمس أحبابنا، وعندما تقع الواقعة تبدو كل الأشياء لنا بلا معنى أو قيمة أمام واقع الموت ومرارته، ونشعر أننا فقدنا قطعة من القلب وفي خسارتها ضياع لشق كبير من المشاعر والأحاسيس التي يستشعر بها المرء طعم الحياة"، ويبدأ الوهن حينها ينال من عزيمتنا، ويعشعش الحزن في داخلنا ويتسلل ليسكن الجوارح فيذرف القلب دماً قبل أن تذرف العين دمعاً.
ولأنه لا شيء أصعب في الدنيا من الموت والفراق الأبدي، يبدأ الندم والألم والحزن يخيم على قلوبنا، والأفكار تغزو عقولنا مثيرة الكثير من الأسئلة التي لا تنتهي، لتنكأ الجرح وتنبش في طيات الماضي، فنلوم النفس على عدم وجودنا بالقرب ممن نحب وبعدنا عنهم، ونعيش على خزائن ذكرياتهم المتراكمة في مخيلتنا، وما يختزنه عقلنا الباطن من ذكريات الماضي وارهاصات واقعه المؤلم، حيث تبقى الذكريات التي لا تموت وجعاً وغصة داخل الإنسان، لذلك يلجئ الكثيرون للإبحار بين طيَّات الصور ، لاستعادة الذكريات التي خلت وعاشوها مع أحبتهم للترحم عليهم، والتغلب على أحزانهم.

وكأن لسان حالنا يقول إن الموت لا يقتصر على فكرة نهاية الحياة وخروج الروح من الجسد، بل هنالك ما يشبه الموت أو يوازيه كالمنفى واللجوء والهجران وإدمان القلق ولا يسعنا في نهاية الأمر ونحن نتحدث عن زاوية شخصية مؤلمة، وحدث وجداني جلل كالبركان الذي لا تُخمد ناره، إلا أن نردد ما قاله الشاعر العباس بن الأحنف:
يا وَيحَ هَذا الفِراقِ ما صَنَعا
بَدَّدَ شَملي وَكانَ مُجتَمِعا
مَن لَم يَذُق لَوعَةَ الفِراقِ فَلَم يُلفَ
حَزيناً وَما رَأى جَزَعا وَكلُّ شَيءٍ سِوى
مُفارَقِة الأَحبابِ مُستَصَغَرٌ وَإِن فَجَعا