هذا هو الإسلام بقلم:د.تيسير رجب التميمي
تاريخ النشر : 2020-05-31
هذا هو الإسلام  بقلم:د.تيسير رجب التميمي


هذا هو الإسلام

((( ... واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ... )))

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

الحمد لله الذي تمت بنعمته الصالحات ، الحمد لله أن بلَّغنا رمضان وليلة القدر ، الحمد لله الذي أكرمنا بصلاة العيد في المساجد ، الحمد لله أن عادت بيوت الله مفتوحة لنا في الجُمع والجماعات ، ثم الحمد له سبحانه أن منَّ علينا بمواسم عديدة للخير بعد رمضان ، فلْنشكره سبحانه بالاستمرار في العبادة والطاعة في كل الأيام ، فهذه هي السعادة الحقيقية للمؤمن : المواظبة على الصالحات في رمضان وفي غيره ، فمن يعبد رمضان فإن رمضان أيام معدودة انقضت ، ومن كان يعبد الله فإنه رب الشهور كلها ، وينبغي أن يُعْبَدَ فيها كلها ؛ فعبادته واجبة تنتهي بانتهاء العمر ، وموصول بعضها ببعض ، قال تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } الحجر 99 ، فالتوقف عنها بعد رمضان نقض للعهد مع الله وعمل مبتور لا أصل له ، فمن عرف الله خافه في كل وقت وإلا كان رمضان سجناً له يتحرر منه فرحاً إلى المعاصي ، فالأصل اجتهاد المؤمن في الصالحات لتصبح سجية له ترافقه طيلة حياته ، فلنواصل العبادات بعد رمضان في أزمانها وأماكنها :

1- فعبادة الصوم موصولة بصيام ستة أيام من شوال ، قال صلى الله عليه وسلم { من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر } رواه مسلم ، ويستحب صومها لكل مسلم سواء اعتاد صيامها أم لا ، وسواء صام رمضان أم لا ، وهي موصولة أيضاً بقضاء رمضان ، فمن أفطر أياماً منه قضى عدتها , وإن فاته صوم رمضان كله قضاه جميعاً لقوله تعالى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } البقرة 184 .

يرى معظم العلماء أن وقت قضاء رمضان موسّع ، فقوله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مطلق في قضاء الصوم وليس فيه ذكر لتفريق القضاء أو تتابعه ، وليس فيه أمر بالقضاء على الفور أو التراخي ، لكنه مقيد بألاَّ يفوت وقت قضائه بدخول رمضان القادم , لقول عائشة رضي الله عنها { كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان } رواه البخاري لانشغالها بشؤونه صلى الله عليه وسلم . لكنني أرى أن تأخير القضاء خلافاً للأولى ، فالمسارعة إلى إسقاط الواجب مستحبة ، والأفضل القضاء عقب العيد لما في التأخير من سلبيات . فالأصل المبادرة إلى قضاء الفوائت من صوم وصلاة , ومن أخر قضاء رمضان لعذر فانقضى أجله فلا شيء عليه ، أما إن أخره لغير عذر فإنه يأثم بذلك .

وصوم التطوع موصول أيضاً طيلة أيام السنة ، ومن أعظمه أجراً : صوم أيام الإثنين والخميس من كل أسبوع ، والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري ، والتسع الأوائل من شهر ذي الحجة وآكدها وأعظمها يوم عرفة ، ثم يوم عاشوراء العاشر من الشهر المحرم .

2- والتعبد في شهر رمضان بمناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه يمكن أن يوصل بعد رمضان بالاستمرار في تلاوة آياته آناء الليل وأطراف النهار ، فقراءته في الصلاة ركن تبطل بدونه قال تعالى { أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } الإسراء 78 ، وأقله قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة ، أما قراءته في غير الصلاة فمن العبادات المندوبة المقربة من ربنا عز وجلّ فيستحب الإكثار من تلاوته ، قال صلى الله عليه وسلم { اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه } رواه مسلم .

فلنحرص على قراءة ما تيسر من القرآن الكريم فإن هذه العبادة تمنح المسلم رصيداً متزايداً من الثواب ، ومعيناً لا ينضب من الحسنات ، فإن قراءة الحرف الواحد بعشر حسنات ، قال صلى الله عليه وسلم { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة , والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } رواه الترمذي .

3- وإن اختص رمضان بعبادة القيام وهي صلاة التراويح ، فقيام الليل في غيره عبادة لا تنقطع ، قال صلى الله عليه وسلم { عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وإن قيام الليل قُرْبَةٌ إلى الله ومَنْهاةٌ عن الإثم وتكفيرٌ للسيئات ومَطْرَدَةٌ للداء عن الجسد } رواه الترمذي . فالقيام هو الصلاة ليلاً قبل النوم ، ومن ثماره تربية إرادة المؤمن على تحمل المسؤوليات ، فقد هيأ الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم لحمل أعباء الرسالة فقال له { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } المزمل 1-5 ، ويمكن للمؤمن أن يتهجَّد لقوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } الإسراء 79 ، والتهجد هو الصلاة ليلاً بعد الاستيقاظ من النوم ، فقد وصف الله عز وجل عباده المتهجدين بقوله تعالى { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 15-18 .

4- وصلة الأرحام لا تختص برمضان ، بل هي مقارنة للعمر كله ، فبدء صلة الرحم بفعل المعروف مع الأقارب سُنّةٌ ، إلا أن قطعه عنهم بعد حصوله ذنب كبير ، وتكون القطيعة بهجرانهم أو بالإساءة إليهم أو بترك الإحسان ، فمن قطع الصلة والرعاية عنهم فهو قاطع لرحمه { فإن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا رب قال فهو لك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرأوا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } رواه البخاري .

وقد توعد الله تعالى قاطع الرحم ، قال صلى الله عليه وسلم { لا يدخل الجنة قاطع } أي قاطع رحم رواه البخاري ، فلنحرص على صلة الأرحام فإنها تعمق المودة والمحبة ، وهي من العلاقات الواجبة في المجتمع الإسلامي ، وتميزه عن غيره من المجتمعات سواء في الماضي والحاضر ، واستكمالاً لمعاني الصلة فحق الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى والجرحى أن نزورهم ونتفقدهم ، وألاَّ ننسى من ذلك الأرامل والثكالى واليتامى والمساكين ، قال صلى الله عليه وسلم { الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار } رواه البخاري ، وإن كان هؤلاء أحوج ما يكونون إلى ذلك في رمضان وفي أيام العيد ، فإنهم ينتظرون دوام هذه الصلة أيضاً بقية العام .

5- والصدقة دليل على صحة إيمان العبد وبرهان على صدقه وقوة يقينه وحسن ظنه بربه ، وهي من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم { إن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن ، تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً } رواه البيهقي ، والصدقة سبب في غفران الذنوب والخطايا ومحو السيئات ، قال صلى الله عليه وسلم { الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } رواه الترمذي ، فبذل المال لمن يستحقه إن ارتبط بنية التقرب إلى الله تعالى فهو صدقة مندوبة ؛ لأن فيها نفعاً للفقير وعوناً للضعيف وإغاثة للملهوف ؛ ومساعدة للعاجز وتقوية له على أداء فرائض الله تعالى بتأمين حاجاته وحفظ حياته .

6- وعبادة الاعتكاف موصولة بارتياد المساجد ، فإن المكث فيها بنية العبادة هو اعتكاف وعمل صالح ، فمن تعلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه استحق ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ، قال صلى الله عليه وسلم { سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ... ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه } رواه مسلم ، فالمؤمن قلبه متعلق بالمسجد وحب الجلوس فيه والتردد إليه في جميع أوقات الصلاة بحيث لا يصلي صلاة إلا فيه ، ويخرج منه منتظراً صلاة أخرى ليصليها فيه ، فهو ملازم للمسجد بقلبه وروحه ، قال تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا َتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } النور 36-37 ، وعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن { انتظار الصلاة بعد الصلاة هو الرباط } رواه مسلم ، فالجالس في المسجد ينتظر الصلاة كالقائم على الثغور في المناطق التي يقاتل فيها المسلمون .

فلْنعد إلى مساجدنا التي حرمنا الصلاة فيها لأكثر من شهرين ، ومن خير المساجد التي ينبغي أن نكثر التردد إليها في هذا الوقت العصيب المسجد الأقصى المبارك والحرم الإبراهيمي الشريف ، فعلينا المداومة على عمارتهما بالزيارة والحضور فيهما ، والمواظبة على الصلاة فيهما ، فهما يتعرضان لمخاطر التهويد ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد ، مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي } رواه البخاري .