في الذّكرى الأربعين لرحيل مؤسس جامعة الخليل سماحة الشّيخ محمّد علي الجعبريّ
تاريخ النشر : 2020-05-30
في الذّكرى الأربعين لرحيل مؤسس جامعة الخليل سماحة الشّيخ محمّد علي الجعبريّ


بقلم الدّكتور عماد البشتاوي

في الذّكرى الأربعين لرحيل مؤسس جامعة الخليل سماحة الشّيخ محمّد علي الجعبريّ

أربعون عاماً مرت على رحيل القائد الفلسطيني سماحة الشيخ محمد علي الجعبري  نستذكره ونعود إلى سيرته، ونضاله، ومشروعه التحرري، نستلهمها في ليلنا العربي والفلسطيني الحالك السواد، والغارق في مستنقع الانقسامات، والتفرقة، والمؤامرات الدولية. نعم نستلهم فكره وعزيمته في هذا المنعطف الحاد، والمصيري الذي نعيشه ويعيشه مشروعنا الوطني الفلسطيني الآن.

نحيي ذكراه هذه الأيّام - ونحن نقف على مشارف اليوبيل الذّهبيّ لجامعة الخليل- من قلب جامعة الخليل ... جامعة الشعب الفلسطينيّ، التي أرادها كذلك، منذ كانت فكرة تختمر في عقله، فعقد اللقاءات، وواجه التحدّيات الداخليّة والخارجيّة.

طرح سماحة الشّيخ الجعبريّ في البداية فكرة حملت بُعدًا مهمًّا، واسمًا رائعًا، موسومًا بــــــ (الجامعة العربيّة الفلسطينيّة)؛ فقد حمل هذا الاسم بُعدًا وَحْـدويًّا، عُـروبيًّا، فلسطينيًّا، فكراً جامعيًّا وجامعًا، وجمعيًا، طرح فكرة الجامعة الفلسطينيّة (الأم) وفروعها في جميع محافظات الوطن من نابلس ... إلى الخليل ... إلى غزّة ... إلى فلسطينيّي الدّاخل...  نعم، فلسطينيّـو الدّاخل الذين حمل همومهم، وقضاياهم التّعليميّة والدّيـنـيّة؛ حيث أظهرت التّـطوّرات –لاحقاً- صحّة رُؤاه ورؤيته منذ وقت مبكّر، لاسيّما فيما يتعـلّـق بدور الجماهير الفلسطينيّة ومكانتهم في الدّاخل، سواء من حيثُ الدّفاعُ عن الهـويّـة الوطنيّة والقوميّة، وهي القضايا التي نادى بها وعمل جاهدًا لتحقيقها، وناضل من أجلها بعـزيمةٍ قـويّةٍ، وإرادةٍ لا تعرف الكللَ ولا المللَ، والتي تعـرّض بسببها إلى انتقادات شتّى، تراجع بعـدها المنـتـقـدون بعد إدراكهم بقـصر نظـرهم أمام عُمق وبُعـد رُؤاه ورُؤيته.

لقد سمح الشّيخ الجعبريّ، بل وشجّع فلسطينيّي الدّاخل على الانتساب إلى الجامعة؛ لكي يخرجهم من دائرة الخِيار الواحد ... ألا وهو التّعليم في الجامعات الإسرائيـليّة وما يحمله ذلك من مخاطرَ في الحاضر والمستـقبل، ودعاهم إلى التواصل مع أبناء شعبهم، والانخراط في الجامعات الفلسطـيـنيّة لتأكيد الهويّة الفلسطينيّة ولَـمّ الشّمل، وهذه الفكرة أيضًا واجهت معارضةً شديدةً، ثـمّ غـدت مقبولة، بل ومطلبًا وطنيًّا لاحقاً.

ولنا الآن أنْ نتخيّل حجم التّحدّيات المتمثّلة في جامعة الدّول العربية، والأردن، ومنظّمة التّحرير، بالإضافة إلى إسرائيل التي واجهها الشّيخ الجعبريّ... وصموده الرّاسخ في وجه هؤلاء، ومن ثَـمّ نجاح فكرته في إقـامة الجامعة (الجامعات) الفلسطيـنيّة التي تُعدّ سدًّا منيعًا وحِصنًا حصينًا في الحفاظ على القضيّة الفلسطينيّة، كما أسهمت في صمود الشّعب الفلسطينيّ ورُقـيّه وتطوّره، بل إنّها كانت وما زالت رافدًا من روافد الانتفاضات والثّـورات الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بمختلف اتجاهاتها الفكريّة، ومشاربها الحِـزبيّة.

امتلك الشّيخ الجعبريّ تصوّرًا واضحًا ومحـدّدًا عن الجامعة التي ينـوي تأسيسها: (جامعة عربيّة فلسطينيّة الهـوى والهـويّة، أرادها جامعةً فلسطينيّةً بكلّ ما للكلمة من معنًى في إدارتها، والإشراف عليها ... في أساتذتها، وطلابها، ومناهجها، وتدريسها ...وفي تمويلها أيضًا.

واستغرب الشّيخ الجعبريّ من أولئك الذين عارضوا الفكرة، وعدوّها مقـدّمة للانفصال الفلسطينيّ، قائلاً: (إنّ الشّعب الفلسطينيّ هو أكثر الشّعوب العربيّة طلبًا للاتّـحاد والوَحدة، وشجبًا ومعارضةً لأيّ نوع من الانفصال، ولا نستطيع أن نفهمَ كيف يربط البعض الانفصال بإقـامة جامعة، هدفها نشر العلم والمعرفة، وصقل الشّخصيّة، وإعـداد رجال المستقبل، إنّ الجامعة في أيّ بلد هي مركز إشعاع وتطوير حضاريّ، ومركز رفد للمجتمع بالكفاءات في مختـلف المجالات العلميّة اللازمة لتطـويره وتحديثه).

لم يستحوذ مكان الجامعة العربيّة الفلسطينيّة المقترحة على فكر الشّيخ الجعبريّ وباله، بل إنّـه اقترح أن تكون الجامعة في أماكنَ متعـدّدةٍ في الضّفّة الغـربيّة حتّى لا تشعر أيّ مدينة أو منطقة بالظّلم، فمثلاً كلّـيّـة الشّريعة في الخليل... كلّـيّـة الزّراعة في طولكرم ... كلّـيّـة الآداب في نابلس... كلّـيّـة العــلوم والاقتصاد في بيرزيت، مع تطوير مستشفى المقاصد في القدس، وتحويله إلى كلّـيّـة للطّـبّ.

وتأكيدًا على جـدّيته وصدق نواياه، فقد أعـدّ الشّيخ الجعبريّ مدينة الخليل لاحتضان إحدى كلّـيّـات الجامعة المقترحة، فأنشأ مركز الدّراسات الإسلاميّة بمستوى كلّـيّـة جامعـيّة عام 1971، وبعد فشل فكرة إنشاء جامعةٍ فلسطـينيّةٍ مشتركةٍ لكلّ الفلسطينيّين، لجأت كلّ منطقة إلى إنشاء جامعة فيها... في نابلس ... في رام الله ... في طولكرم ... في الخليل.

ومع إدراك الشّيخ الجعبريّ العميق للأوضاع النّـفسيّة والاقـتصاديّة والاجـتماعـيّة والأمنيّة للأهل والأبـناء في غربـتهم طلبًا للعـلم خارج الوطن، عدّ إنشاء الجامعة الفلسطيـنيّة بات أكثرَ إلحاحًا وحاجةً من أيّ وقت آخر، من أجل التّخفيف من مشكلات آلاف الطّلبة الذين يودّون الدّراسة خارج الوطن (فلسطين) ماديًّا ومعنويًّا، لعلّ من أبرزها الإجراءات الأمنيّة من قِـبـل الاحتلال الإسرائـيليّ، إضافةً إلى إجراءات التّسجـيل في الجامعات الأجنبيّة، وما يستتبع ذلك من إجراءات بيروقراطيّة وأمنيّة مُعـقّـدة، كما أنّ إنشاء الجامعة سيوفّر على الطّلاب وأولياء أمورهم المبالغ الهائـلة التي يُـنـفـقـونها في الخارج.

وعلى الرّغم من الأهـمّيّة الكبرى للبُعد الأكاديميّ والتّعليميّ للجامعة الفلسطينيّة بالنّسبة إلى الشّيخ الجعبريّ، إلا أنّ ذلك لم يكن بـمعـزل عن البُعـد السّياسيّ والوطنيّ؛ فالشّعـب الفلسطينيّ الرّازح تحت الاحتلال يـتـوجّب عليه بناء مؤسّساته؛ وصولاً إلى تحقيق هدفه الأسمى المـتـمـثّـل بالتّـحـرّر والاستـقـلال الوطنيّ.

لم تكن فكرة تأسيس جامعةٍ فلسطينيةٍ تحت الاحتلال هي التّـحـدّيَ الوحيـد والمواجهة الوحيدة ما بين الشّيخ الجعبريّ والأطراف الأخرى، فقد خاض حربًا في موضوع الانتخابات البـلـديّـة عام 1972 والذي رفضته الأردن ومنظّمة التّـحـرير الفلسطينيّة، ثم عادوا أدراجهـم وآمـنُـوا بها، بل وعدّت مشروعًـا وطـنـيًّـا عندما أُجريَت عام 1976، مع أنّ أيًّـا من الظّـروف لم يـتغـيّـر؛ حيث تمّـت الانتخابات تحت الاحتلال أيضًا.

وكذلك حين طرح الشّيخ الجعبريّ فكرة إنشاء دولة فلسطينيّة مستـقـلّة في الضّفّة الغـربـيّـة وقطاع غزّة، ووضعها تحت إشراف دَوْليّ لمـدّة خمس سنوات، ثـمّ يـقـرّر الشّعب الفلسطـينيّ مصيره بنفسه، وكان ذلك بعد حرب حزيران 1967 مباشرة.

كلّـيّـة الحقوق والعلوم السّياسيّـة- جامعة الخليل