ضرس العقل الوطني بقلم: زياد محمد حسن " مخيمر"
تاريخ النشر : 2020-05-30
ضرس العقل الوطني ..
______

اجتاحني الألم بقسوة ، ألم الضرس كالمطرقة يضرب نافوخي بصلافة
ويزداد حدة كلما تناولت رشفة ماء أو تعاملت مع الألم بعناد فالتهمت لقمة ساذجة
وصلت إلى عيادة الطبيب الذي نظر إلى وجهي بلطف وقال :
_كل شئ سيكون على ما يرام .
سمع أنيناً خفيفاً فأكمل _ أنت ما زلت فتى ، وبوسعك أن تتحمل التعب قليلا ً .
قلت وأكاد أبكي _ إنها مهمة صعبة يا دكتور ، أعلم ذلك ، لا أطلب منك سوى بعض الرأفة .

استخدم بعض الروافع لتحريك الضرس وزعزعته من مكانه ثم تناول إبرة المخدر وهو يقول
_ دعنا نختصر الوقت ، ساعدني وافتح فمك !
اخترقت الإبرة اللثة المجاورة لضرس العقل كأنها سم ثعبان ، أحسست بالغثيان قليلا ً ثم صاحبني شعور بالبلادة وهو يمسك قطعة مثل المفك ويحشرها إلى الداخل ، بينما صوته يردد
_ لقد وصل التسوس إلى أماكن لا يمكن حشوها أو اصلاحها .

تحركت قليلاً بعد مضمضة مثيرة و كأنني أتشابك مع مصارع مفتول العضلات وبعد كل ضربة قاضية أردد
_ يقول المثل يا دكتور أصعب وجع وجع الضرس وأكبر هم هم العرس .

ابتسم وهو يفتح فمه فظهر صف أسنانه في حالة يرثى لها وكأنه قد تناول خروفا ً على العشاء بينما يكسو صف أسنانه العلوى طبقات من الجير أقرب إلى شكل الطحالب ، منذ أسبوع وانا أترنح من الوعكة وها أنا الآن أقع في يد طبيب خفيف العقل ..

ارتفع الدكتور فوق المقعد ، مدّ يديه ، شدَّ جسده ، جف لسانه وهو يعض بكل قوة ، وكأنه يحرك مقود سيارته ذات اليمين وذات الشمال كي يستطيع ضرسي أن يفتح له طريقا ً أوسع من حاجته ، التأوه يزداد ، الاختناق ، آه يا قلبي , فمي مثل ساقية يدور حولها الماء لا أستطيع أن أبلعه ولا أن أبصقه ، أخ آه ، ترنحت قليلا ً
_ مر ساعة يا دكتور ، انخلع حظي اليوم .
قمت من مكاني لبعض الراحة ،اقتربت من المرآة وأنا أنظر إلى تقاطيعي المهدّمة - آه متى ستنتهي أيها المجرم .

عدت للجلوس على المقعد ، هّزني بسعادة وهو يتمتم _ اصبر لقد تجاوزنا الصعب ، اشكر الله أن الضرس في عظام الفك لا يحتاج إلى شق اللثة .
_ آه شق اللثة أتعني ما تقول .
راقت له الفكرة وهو يقول _ لا أعتقد ذلك لقد بدأ يتحرك الضرس الآن .
بعد نصف ساعة أخرى ، انطلقت قهقهة انجاز ساحر من بين شفتيه وهو يقول

_ لقد خلعت أحدهما .
_ إن خلعه أصعب من خلع الحكومة الرشيدة .
_ ربما كانت سيئاتك .
قلت منزعجا ً _ لابد أن أغادر الآن وسنكمل في الغد .
ضحك معتمدا ً على ساعديه _ أنا لا أعمل في التهريب ، هذه مهمة لابد أن تنتهي اليوم .
_ انتهى عمري يا دكتور .

بعد نصف ساعة أخرى كان قد خلع الطاحونة الثانية ، استدرت ناحية الباب ، أطلقت لقدمي العنان بينما طال الوقوف في انتظار سيارة ، لا يوجد سيارة في غزة الآن ، الحصار مستمر ،لا وقود , لاكهرباء ، البرد يصيبني بقشعريرة قاتلة ، هل أمشي للمنزل ؟ كم ثروة من الألم تمشي دون أن يشعر بها أحد ، اغماءة طفيفة ، دوخان ، ارهاق ، لابد أن أتحرك كأنني مقلي على الزيت ، ساعة تلو أخرى حتى قلع ضرس العقل ،" ربنا يقلع عينيه" وصلت المنزل ، ألقيت جسدي على السرير بعد أن تناولت كمية هائلة من الأدوية والمسكنات ، مر أسبوع ، لا شيء يتجدد ، فمي منفوخ مثل كرة مطاطية ، خدي مستدير مثل الليرة القديمة ، الصداع يخترق الوقت ، نشرات الأخبار تداهم عقلي الباطن ، رن الهاتف ، صوت أمي يردد_ كيف أنت َ يا أحمد الآن ؟
_ مبشوط الحمد لله .
_ لا زلت تصنع الحجج يا ولدي حتى لا تأتي لتزور والديك .
_ آه يمّا آه
_ أنت َ مخادع قصير النظر ألا تعلم أن أمك مريضة وبحاجة إلى زيارة .
_ آه يابا آه .

أتأوه ، المسكن لا يعمل ، لا يؤثر ، الموت رائع حين يؤثر ، المقاومة أحيانا ً حصاد لا يؤثر ، نهاية الصعوبات أن تكون على الأقل سليم ، أنا خميس أنا جمعة ، نسيت اسمي ،أنا أهذي ، عقلي يدور ، طوابق من القرميد فوق رأسي ، أووه هذه دموع التماسيح يا أمي ، هو نفس الوقود الذي لم يرحمني ، أصبحت جرة غاز منهكة بحاجة إلى التعبئة .

بعد مدّة ذهبت إلى طبيب آخر ، ربت الحظ على كتفي عندما قال
_ يبدو أن الطبيب المعالج قد نسي أن يخلع الجذر المتبقي .
تصببت عرقا ً فضوليا ً ، فتحت فمي دورتين متتاليتين ، بينما استدعى الطبيب تلك الإضاءة على أسناني ليرى بإحكام ، في هذا الوقت بالضبط انقطعت الكهرباء وعدت خاضعا ً للوساوس التي تتقدم خطوة خطوة نحو المنزل ، هو نفس التسوس الوطني الذي قادني إلى قافلة الهموم مرة أخرى ، كلاهما بحاجة إلى خلع .
_________________________