مُلك سليمان عليه السلام بين الحكمة والتجربة المعاشة بقلم:د.عبدالوهاب القرش
تاريخ النشر : 2020-05-28
مُلك سليمان عليه السلام بين الحكمة والتجربة المعاشة بقلم:د.عبدالوهاب القرش


 مُلك سليمان عليه السلام بين الحكمة والتجربة المعاشة

ما وجه رغبة نبي الله سليمان عليه السلام إلى ربه في الملك، وهو نبيّ من الأنبياء، وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الآخرة؟!!.. أما كان في النبوّة كفاية؟ أما كان في النبوة والعلم والقضاء غنى عن المُلك الذي لا ينبغي ولا يكون لأحد من بعد سليمان عليه السلام، حتى لا يُقرن أو يقارن به مُلك، مهما بلغ واتسع، فيبقى مُلكه عليه السلام الفريد المتفرِّد بين الممالك كلّها، حتى إذا استقللنا مُلكاً وقد عظم في أعين الناس نقول: هل هو مُلك سليمان؟! أو هل وصل سلطانُ فلان إلى ما وصل إليه مُلك سليمان عليه السلام الذي مَلَكَ شرق الأرض وغربها؟!

القرآن الكريم لا يعطينا جوابًا مباشرًا وصريحًا عن السؤال؛ ولكننا نستشفّه من عرض سليمان عليه السلام وطلبه للمُلك، يحكي رب العزة على لسان سليمان عليه السلام:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}(ص:35).

الحق نقول: في عريضة طلب سليمان عليه السلام سؤالان: (اغفر لي) و(هبْ لي). قَدَّم سليمان عليه السلام المغفرة ليعلن أنّه ليس طالب مُلكٍ دنيويّ، ولا يصحُّ ولا يليق به كنبيّ أن يطلب من الله ما لا ينسجم مع رضى الله جل في علاه أو مما قد يصرفه عن طاعته وعبادته والتعلُّق به، أي إنّه يسأل الله النجاة من غواية الدنيا والنفس والشيطان، وأنْ يعصمه من أن يكون من المتهالكين على الدنيا.

في سؤاله الثاني ، يسأل الله موهبة أو هبة لعلمه أنّ الله تعالى (وَهّاب) يهب لمن يشاء ويمنع مَنْ يشاء لمصلحة هو الأعلم بتقديرها، ولأنّه تعالى قادر على أن يهب أنبياءه مُلكًا لا نظير له في الممالك الدنيوية قاطبة منذ أن نشأت وحتى يوم يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

وبهذا يريد النبي سليمان عليه السلام -وهذا ما تفرضه طريقة تفكير الأنبياء الأكثر زُهدًا في متاع الحياة الدنيا- أن يُوظِّف المُلك العظيم في خدمة المَلِك الأعظم، وأن يضع نِعَم الله الجليلة في مواضعها السليمة، حيث احتياج الناس إليها، لا أنّه طالبُ حُكمٍ أو مُلكٍ للمُلكِ ذاته.. وحينما تكون أدوات التمكين واسعة وكافية وكاملة، تكون القدرة على الدعوة أمنع وأرفع وأوسع.

وهذا ما كان يَتطلّع إليه سليمان عليه السلام -كما يمكن استشفافه من طلبه-، فهو يريد الأرض كلّ الأرض خاضعة لله، طائعة له، عابدةً ومعبودة له، تؤدّي رسالتها الأُولى التي انتُدبت إليها الإنسانية في أوّل الخليقة بأن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض لا ليُفسد فيها أو يُسفكَ الدماء، وإنما ليُعمّرها ويُصلحها ويرتقي بها إلى أعلى درجات الكمال.

لنتأمّل ذلك من خلال دعوته ملكة سبأ " بلقيس " إلى توحيد الله تعالى:{أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}(النمل:31)، ومن خلال رفضه الهدية الثمينة والنفيسة المقدَّمة من قِبلها بديلاً عن إيمانها بالله والاستجابة لطلبه بالإسلام له، وبالمعنى المتداول اليوم رفض أن يساومها على دعوته بالمال، فهو فوق أن يفكّر بالثروة وقد آتاه الله خيرًا منها، قال تعالى على لسانه:{قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}(النمل:36)، إنّكم أنتم لا أنا الذي يفرح بالهدية العظيمة، لأنّكم دنيويّون تهمّكم قيمة الهدايا ونفاستها، أمّا أنا فربّاني لا اهتم لمادّي حتى وإن طلبت من الله مُلكًا عريضًا لا يُقاسُ به غيره مهما عظم، فإنّما طلبته لأتقرّب به إليه لا لأبتعد به عنه.

هذا؛ ومن خلال الصفات التي خلعها الله تعالى على سليمان عليه السلام قبل أن يهب له المُلك.. إنّه " أوّاب " والأوّاب الرجّاع وسريع الرجوع إلى الله تعالى يستغفره ويتوب إليه في كلّ غفلة، ويشكره ويذكره، ويستعين به ويتوكّل عليه.. وإنّه " مُحسن " والمُحسن الذي لا يصدرُ عنه إلّا الحُسن الذي لا يطعنُ فيه العقلاء، فهو يُحسن التصرُّف في ما أنعم الله تعالى به عليه فلا يضعه إلّا في المواضع التي تستدرّ رحمته ورضاه سبحانه وتعالى.. وإنّه عالم أي ذو علمٍ ينفي عنه جهل الجاهلين ويعرف قيمة النعمة فيشكرها بالعمل والخدمة وفي كلّ ما هو خير ونافع ونبيل ويرفع من مستوى الحياة ويُقرِّب من الله سبحانه وتعالى، وعلى ضوء علمه وإحسانه ومرجعيته الدائمة إلى الله، كيف يمكن أن نتصوّر طلبه مُلكًا لا يُضاهى؟

إنّه بلا أدنى شك حُكمٌ أو مُلكٌ يعيش فيه الناس الرخاء؛ لكنهم لا يبطرون أو يفسدون أو يطغون، ما داموا يرون أُسوتهم الحسنة نبيّهم عليه السلام يملكُ كلَّ شيء ولا يملكهُ شيء!! .. وهل الزُّهد في حقيقته وجوهره إلّا هذا؟!

  يُضاف إلى هذا وذاك أنّ من صفاتِ سليمان عليه السلام هو أنّه إنسان "شكور" كثير الشُّكر لله: يشكره بقلبه، إذ يذكر كلّ نعمة تخطر على باله وينسبها إلى الله المنعم المتفضِّل ، ويشكرها بعمله بأن يُوظِّفها في خدمة البلاد والعباد، ويشكرها بلسانه، وهذا ما نراه في أكثر من موضع ترد فيه النعمة، فيردفها عليه السلام بالشُّكر.

ونلاحظ  أن "شكور " كلمة مفردة تعطي معنى الجمع أي كان عليه السلام كثير الشكر لله: فقد شكر الله تعالى على نعمة المُلك بالمطلق، فقال:{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل:16)، ولنا أن نعلم بأنّ ذكر النعمة وخطورتها على القلب واعتبارها من الله هو بحد ذاته شكر. وشكرَ الله تعالى على ما آتاه في رسالته الثانية إلى " بلقيس "، فقال:{فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ}(النمل:26)، وهذا شكرٌ بالضمن لتقديره أنّ الله تعالى مَنَّ وأنعم عليه بما هو خيرٌ من أملاك الممالك والملوك.

وعندما أخبره الذي عنده علم من الكتاب إنّه قادر على أن يأتيه بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، شكر الله تعالى، فقال:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(النمل:40).

لم ينسب سليمان عليه السلام نعمة إلى نفسه قطّ (هذا من فضل ربِّي)، واسم الإشارة هنا بليغ في ردّ كلّ نعمة إلى صاحبها ووليها الذي أنعم بها وأغدقها عليه.

كذلك عندما سمع كلام أميرة أو ملكة النمل في خطابها لأتباعها أن يدخلوا مساكنهم لئلّا يُحطِّمنّهم سليمان عليه السلام وجنوده، قال عليه السلام:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل:19)، فهو عليه السلام إذا حضرت النعمة أو استحضرها شكرها مفردةً ، ثمّ إنّه يقرن شكره لله لا بالنعم الخاصّة به فقط، بل بالنعم التي أنعمها سبحانه وتعالى على والديه، إمّا بنعمته عليهما بأن رزقهما ولدًا نبيًّا، وإمّا بنعمة المُلك، وإمّا بتفضيل آل داود على كثير من المؤمنين، أو هذه كلّها.

والملاحظ إشراكه أُمّه مع أبيه في إشارة إلى صلاح الأُم أيضًا، وأنّه تلقّى في طفولته تربية صالحة من أبوين صالحين.. كما أنّه يطلب إضافة إلى ذلك أن يلهمه الله الشكر على كلّ حال وفي كلّ حال، يسأله تعالى أن يعمل صالحًا يرضاه عزّوجلّ، وهذا هو المراد من قول الله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}(سبأ:13)، أي إنّه يقول بما مؤدّاه: يا ربّ، طلبتُ إليك مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وقد أجبتني إلى ما طلبت.. يا ربّ، أتمم عليَّ نعمتك بأن يكون هذا المُلك مسخّرًا لك وفي عبادتك وطاعتك وخدمة الناس، ثمّ يختم بأن يسأل الله جلّ جلاله أن يدخله في عباده الصالحين العادلين، لا في زُمرة الملوك والسلاطين الظالمين الجائرين.

بحسب المصطلح الوارد في بعض الأحاديث والروايات، فإنّ سليمان عليه السلام يُحسن مجاورة النِّعم.يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أحسِنوا جِوارَ نِعَمِ اللهِ جلَّ وعلا، لا تُنفِّرُوها؛ فإنَّه قلَّ ما زالَتْ عن قَومٍ فعادَتْ إليهم "(أخرجه أبو يعلي) وورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " أحسنوا مجاورة نِّعم الله، لا تُملّوها ولا تُنفِّروها، فإنّها لقلّ ما نفرت من قوم فعادت إليهم ".

ومعلومٌ أنّ النِّعم تزداد بالشكر، قال تعالى في سُنّة من سُننه وقانون لطيف من قوانينه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم:7)، يقول صلى الله عليه وسلم:"لا يرزق الله -عز وجل- عبدا الشكر فيحرمه الزيادة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم}(الشكر لأبي الدنيا)

وسليمان عليه السلام باعتبار علمه، وتربيته في بيت نبوّةٍ ومُلكٍ يكثر فيه الشكر، وتُستحضر دائمًا دعوة آل داود للعمل شكرًا، يعلم أنّ كلّ ما هو فيه من الله ولا فضلَ له فيه أبدًا.. وهذا هو حقُّ الشكر..لقد أوحى الله تعالى لموسى عليه السلام: "يا موسى، أشكرني حقّ شكري. فقال: يا ربّ، كيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكرٍ أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليَّ؟! فقال: يا موسى، شكرتني حقّ شكري حين علمت أنّ ذلك منِّي "..؟ وبهذا لا يكون سليمان عليه السلام استحقّ المُلك فقط، بل استحقّ الزيادة أيضًا.. وبشهادة القرآن عرف سيدنا سليمان عليه السلام إنّه حاكمٌ عادلٌ ومُحسنٌ أيضًا .

وفي هذا إشعار لكلّ الملوك والأُمراء والرؤساء وأصحاب السلطة والسلطان، أنّ المُلكَ مسؤولية وأمانة ونعمة، لابدّ أن تُشكر حقّ شكرها بالإنعام إلى الناس، وقضاء حوائجهم، وتحسين معاشهم، واستتباب أمنهم.

لم يكن النبي سيدنا سليمان عليه السلام الوحيد الذي سأل الله فأعطاه، صحيح أنّ المُلك الذي طلبه - ولم يطلبه لذاته ولملذّاته- عريض لا أعرضَ في الممالك كلّها منه، بل كلّنا يسأل الله فيعطيه من كلّ شيء فيه مصلحة، قال تعالى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم:34)، وقال جلّ جلاله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}(لقمان:20)، وقال سبحانه وتعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}(الأعراف:74).. فنحن ملوكٌ أيضًا ولكن لا نشعر، والله المُنعم على سليمان عليه السلام هو نفسه المُنعم على الإنسان؛ ولكن {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

إنّ الفرق بين نبي الله سليمان عليه السلام كإنسان أنعم الله عليه فشكر نعمته كما ينبغي الشكر، وبين أي إنسان آخر غير شكور، هو مشكلة الغفلة عن النعمة والجهل بقدرها وقيمتها وتمام شكرها وعدم الإحسان لصُحبتها أو مجاورتها، وعدم تسخيرها في خدمة الناس، والأدهى من ذلك هو الغفلة ونسيان المنعم المتفضل بها..

{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

د.عبدالوهاب القرش