فلسفة التباعد الاجتماعي في زمن كورونا بقلم: محمد عبد الكريم يوسف
تاريخ النشر : 2020-05-22
فلسفة التباعد الاجتماعي في زمن كورونا

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

تفرض الأوبئة علينا ثقافتها فنضطر للبقاء في المنزل ونطبق التباعد الاجتماعي  ونعيد تقييم الأشياء التي حولنا والعلاقات الاجتماعية ونعايرها من جديد ونعود بها للحالة الأولى تماما كما نجري المعايرة للأجهزة والمكنات الهندسية والطبية . 

وما الحجر بأشكاله المختلفة إلا فترة استراحة تمكننا من الاقلاع من جديد بروح جديدة ومعارف جديدة وأليات جديدة . 

لقد كانت الأشهر القليلة الماضية صعبة للغاية بالنسبة لمعظم الناس على ظهر الكوكب في جميع أنحاء العالم .  وقد تسبب فيروس كوفيد -19 بحالة غير مسبوقة من الخوف والهستيريا الجماعية والقلق تجاه ما يخبئه المستقبل لنا من أحداث وتطورات خاصة وأن المعلومات عن المرض فليلة ولا يمكن التنبؤ بسلوكه ولم يتم اكتشاف علاجات مناسبة له حتى الساعة . لقد فقد الكثيرون أحباءهم وما زال الناس يفقدون المزيد من الأحباب ، وعلق كثيرون في المطارات والنقاط الحدودية لا يستطيعون العبور أو العودة كما تم اقتياد الكثير من الوافدين بغض النظر عن مراكزهم الاجتماعية إلى مراكز الحجر الصحي . لقد فرض فيروس كوفيد-19 تغيير الأولويات لدى الناس في غير مكان من هذا العالم . 

وفي نهاية المطاف ، نحن نمتلك الأمل والإيمان بقدرتنا على تجاوز الصعاب . قد يكون اليوم في غاية السوء ولكن الغد يحمل إلينا الأخبار المفرحة بكل تأكيد فالعلماء مجتهدون في البحث عن حلول رغم المعوقات المادية . اليوم سيء لكن الغد هو يوم جديد وشمس جديدة وأمل جديد . وعندما يكون الإنسان عازبا يعيش بمفرده في بيت مستقل يكون التباعد الاجتماعي عقوبة شاقة ويكون عليه في هذه الحالة أن يعيش لوحده وأن يشاهد التلفاز وأن يتأمل وأن يتحدث مع نفسه . الانطوائي هو الشخص الوحيد الذي لا يتأثر بالتباعد الاجتماعي الذي يفرضه فيروس كورونا كوفيد -19 أما الأشخاص الاجتماعيون فيعانون الكثير من جراء التباعد الاجتماعي. 

يشعر المنفتحون بالإحباط بسبب التباعد الاجتماعي لأنهم يعيشون ظروف الانطوائيين كاملة نظرا لغياب التواصل الوجاهي والذهاب للعمل والالتقاء بالأصدقاء المعتادين . وقد بدا للعيان أن معظمنا عالق في البيت خلال الأسابيع القليلة الماضية ويبدو أن هذا الاحتجاز الطوعي في المنزل سوف يستمر طويلا في المدى المنظور .  

قد يبدو التباعد الاجتماعي من العوائق التي تثير الاحباط ولكنه في ذات الوقت فرصة جديدة ليكتشف الإنسان نفسه ويعيد ترتيب أولوياته في عصر السرعة والتكنولوجيا ، فإذا كان الإنسان يعيش وسط عائلته يمكنه أن يكتشف أفراد الأسرة عن قرب أكثر ويمكنه التعرف على ميول وشؤون وشجون أطفاله التي لم يكن يعرفها من قبل . قد تكون اعادة اكتشاف الذات من الجوانب المشرقة للتباعد الاجتماعي إذ يمكن أن يتعرف الإنسان على نفسه أكثر وأن يعيد ترتيب ذاته وأن يمارس الرياضة وأن يحقق شغفه في بعض الأشياء وأن يعيد التواصل الداخلي والخارجي على نطاق الأسرة .    

يمكن الاستفادة من التباعد الاجتماعي الذي أحدثه كورونا بما يلي: 

تخصيص وقت للرعاية الذاتية

في الحالة العامة وقبل فيروس كورونا كان الإنسان يعيش بسرعة كبيرة ووتيرة متصاعدة ولا يجد لنفسه وقتا لمراجعة الذات . يستيقظ في السادسة صباحا ويكون في مكتبه أو مكان عمله في الساعة السابعة والنصف ويعود للبيت في الساعة الثالثة والنصف ، ثم ينام نصف ساعة ويعود لعمله المسائي الخاص ليستمر حتى الساعة العاشرة ليلا ليعود للبيت مرة أخرى . هذا هو السياق العام لمواطني الشرق الأوسط في شريحتهم الواسعة . يعيشون حالة من الانشغال الدائم ولا يجدون وقتا يخصصونه للذات أو العائلة أو الترفيه أو الرحلات . وليس لدى أحد من هؤلاء المواطنين فرصة لتغيير الروتين بسبب الضغط الاقتصادي السائد في المنطقة . إن إعادة ترتيب الإنسان لحياتية واعتنائه بذاته  ضروري في الأوقات الحرجة والصعبة وإلا لن يستمر الإنسان إلى مالا نهاية في نفس الإيقاع اليومي الممل . إننا قلقون بشأن ما يخبئه المستقبل لنا من غرائب وعجائب ومن المهم التركيز على الأشياء التي يمكننا التحكم بها مهما كانت تافهة والعمل على تطويرها بما يحقق لنا الاستمرار في الحياة .

يمكن للمرء أن ينغمس في نشاطات عديدة  مثل التدرب على الطهي والطبخ والبقاء في حالة جيدة وممارسة بعض الهوايات المفيدة مثل القراءة وحل الكلمات المتقاطعة وكتابة المذكرات وصيانة البيت والأجهزة العاطلة داخله واللعب مع الأطفال وأفراد العائلة وعمل كل ما يمكننا من رفع معنوياتنا عاليا والبقاء في حالة إيجابية . يمكن للمرء أن يغير ملابسه أكثر من مرة حتى لو لم يخرج من البيت . هناك الكثير من الأشياء الصغيرة التي تجعل يومنا بهيجا وجيدا وايجابيا . 

الخروج إلى الطبيعة : 

يمكن الخروج للطبيعة القريبة أو حديقة المنزل أو القرية بما يراعي قوانين التباعد الاجتماعي وبما لا ينتهك حظر التجوال في المنطقة التي يعيش بها الإنسان . الطبيعة لها تأثير شاف من الأمراض والتعرض لأشعة الشمس دواء واستنشاق الهواء النقي رياضة  والاستماع لصوت الطبيعة ينعش الروح ويزيل أدران النفس والمشي حافي القدمين على شاطئ البحر يقلل من القلق.  الخروج للطبيعة واستنشاق الهواء النقي والتأمل من الرياضات الرائعة في زمن التباعد الاجتماعي الذي فرضه كورونا . يمكن أيضا أن تتعاون العائلة مجتمعة في تحضير غداء في الطبيعة الخلابة . على الإنسان في زمن كورونا أن يخطط للذهاب إلى الطبيعة والاستماع للموسيقى الجيدة وممارسة التأمل في هذا الكون واعادة ترتيب البيت الداخلي ما أمكن إلى ذلك سبيلا . إن اختيارنا لما نقرأ من معلومات أو قصائد أو أشعار يؤثر على مزاجنا العام ورؤيتنا للحياة  فالأغاني الحزينة والقصص الحزينة تغرق أرواحنا في الحزن الشديد وتسترجع المواقف الحزينة في النفس أما الأغاني الفرحة الراقصة وقصص تطوير الذات وخلاصات الكتب الهامة فإنها تدفع بنا نحو الحبور والتفاؤل والإيجابية . 

تعلم تطوير مهارات جديدة : 

هناك العديد من كتب التطوير الذاتي والخلاصات التي يمكن للمرء أن ينغمس فيها وأن يبدأ بقراءاتها وفهمها وتأمل الرسائل الفكرية التي تحتويها .  التباعد الاجتماعي فرصة جيدة لتطوير مهارات القراءة . نحن نعيش في عالم سريع يعج بالمعلومات المتجددة ولا يمتلك معظم الناس الفرصة والوقت الكافيين لتقيم المعلومات والاستفادة منها بالشكل الجيد. معظم الناس لديهم الكثير من وقت الفراغ المتاح ومن الحكمة استخدام الوقت لاكتساب المعرفة التي يمكن أن تساعدك على البقاء على قيد الحياة بعد الوباء.

التباعد الاجتماعي وقت جيد لتطوير مهارات جديدة حياتية ومهنية . يمكن أن تساعد المهارات الجديدة على التأقلم مع الحياة الجديدة بعد الوباء . وهناك العديد من الدورات التدريبية المجانية على الإنترنت التي تتيح التعلم والاختبار على الشبكة . المهم في الأمر هو أن يكافح المرء الركود في الحياة وأن يعمل على تطوير ذاته ومن حوله. 

التصرفات اللطيفة : 

نحن نمر جميعا بظروف عصيبة إذ يعاني الكثير من الناس من تعكر المزاج والعصبية . إن التصرف اللطيف أثناء الأزمات يجعل الإنسان يشعر بالراحة ويشعر الآخرين بالراحة أيضا .يجب أن لا يقوم الإنسان بأي تصرف أو سلوك يعرضه للخطر . ويمكن أن يمارس المرء الأعمال الخيرية والتبرع للمحتاجين ويمكن القيام ببعض التصرفات المحببة مثل التواصل مع الأحبة بالهاتف أو عن طريق الإنترنت والشبكات الذكية . يمكن أن تحدث مكالمة ما فرقا كبيرا في حياة شخص وقد تعدل من مزاجه وتحوله من إنسان بائس إلى إنسان  في غاية التفاؤل . 

التأمل : 

التأمل في جوهره هو فن التحكم بالنفس والسيطرة عليها والتأمل بالغ الأهمية أثناء الأزمات والأوبئة. يمكن للمرء أن يبدأ التأمل في أي وقت من الأوقات ويمكن البدء بالتدرب على التأمل في حال كان الإنسان قليل المعرفة به عن طريق متابعة دروس التأمل على الانترنت . التأمل يزيد من الصلابة الذهنية في الأوقات الحرجة التي نمر بها جميعا ويساعد في تركيز التفكير على المسائل المهمة  كما يعزز القيم الإيجابية لدى الأفراد.  

النشاط والحيوية : 

البقاء في حالة من النشاط مفيد لصحتنا الجسدية والعقلية وقد تكون النشاطات البدنية من أهم النشاطات التي يمارسها الإنسان وقت الأزمات لأنها تفرغ طاقات الغضب ويمكن تشجيع أفراد العائلة للانخراط في هذا النشاط واجراء المباريات والمسابقات لخرق الروتين القاتل للانتظار في البيت . 

وضع خطة لتحقيق الأهداف : 

يجب أن نفكر في الحياة  بعد انتهاء الوباء و التباعد الاجتماعي بين الأفراد  ويجب أن نضع خطة لتحقيق الأشياء وتنفيذ الأهداف التي يرغب الإنسان في تحقيقها . تساعد الخطط في التركيز على الإيجابيات والابتعاد عن السلبيات . يمكن أن يتأمل الإنسان طرقا متعددة لتحقيق الأهداف وتحديد المحفزات التي تمكنه من الوصول للهدف المطلوب .  

الشكر والامتنان :

الأزمات والشدائد والأوبئة اختبار كبير لإنسانية الإنسان  وسموه. صحيح أن هذه الأوقات شديدة وعصيبة وقد تكون الأسوأ في تاريخ الإنسان إلا أن القلب الشكور والامتنان من الرياضات الهامة التي يمكن أن يمارسها الإنسان ليحدث التغيير . لقد تعرض الكثير من الأنبياء والصالحين للشدائد والأوقات العصيبة مثل أيوب ولوط ويوسف ويسوع ومحمد عليهم السلام  ورغم ذلك تجاوزوها بالتصميم والتركيز على الايجابيات والبعد عن السلبيات والشكر على كل النعم التي تحصل للإنسان رغم قساوة الظروف . يمكن الاحتفاظ بدفتر يوميات تدون فيه الأحداث وأن يمارس الشكر والامتنان على كل ما يمر به الإنسان والتركيز على الإيجابيات ونسيان السلبيات قدر الإمكان .