أسوار الماضي بقلم:إبراهيم عطيان
تاريخ النشر : 2020-05-16
أسوار الماضي بقلم:إبراهيم عطيان


إبراهيم عطيان يكتب: أسوار الماضي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان منسدحاً على سريره وعيناه تتفحص سقف الغرفة فانتفض فجأة عندما هاتفته ذات مساء وهو يفكر في نوع الهدية التي يمكن أن يقدمها لها في ذكرى ميلادها بعد يومين،
- ألو انت فين؟
- أنا في البيت بفكر هجيبلك إيه هدية عيد ميلادك ..
- لا مفيش داعي للهدية ..
- ليه مفيش داعي؟
هو انتي قررتي نوفر فلوس الهدايا عشان نقدر نتجوز؟
- مش بالظبط ..
- أمال عشان إيه؟
- عشان مش هتشوفني تاني .
- يعني ايه مش هشوفك تاني؟
- يعني أنا اتخطبت ومتحاولش تتصل على تليفوني بعد كده.
- أنتي بتهزري صح؟
- لأ طبعاً مش بهزر، أنا فعلاً اتخطبت وقريب هنكتب الكتاب ونسافر ..
- كتب كتاب وسفر كمان؟!
والعريس ده ظهر فجأة كده، ولا موجود من زمان وأنا كنت استبن؟!
- لو سمحت بلاش الكلام ده؛ عشان مفيش منه فايدة .
- لأ مهو أنا لازم أشوفك دلوقتي ..
عايز أفهم ايه اللي حصل ...
- أوك ..
يبقى بعد نص ساعة في نفس المكان ومتتأخرش ..
سلام ...
ارتفعت حرارة جسمه وبدأ يتعرق رغم أن الجو لطيف جداً في هذا اليوم.
وارتدى ملابسه في لحظات ثم خرج مسرعاً نحو المصعد،
لكن المصعد كان بانتظار القادمين في الطابق العاشر ولم يستطع المسكين أن يصبر بضع ثوانٍ، فاندفع نحو السلم يتخطى الطوابق السبعة كأنما يطارده وحش مفترس، ثم استقل سيارة أجرة من أمام مسكنه وهو يرتجف من الداخل ويُمنِّي النفس كي تهدأ بأن ما يحدث قد يكون كذبة أبريل ..

لكن أجواء أبريل لم تكن بتلك البرودة من قبل.
وكان اللقاء في تلك المرة أكثر برودة من شتاء القطب الشمالي،
وكلمات الفتاة بالكاد تخرج على قدر السؤال، أما عن الشاب المزهول فرغم زحام المشاعر بداخلة لكنه لم يستطع أن يعبر بشيء منها أمام جمود الفتاة والتغير المفاجئ الذي طرأ عليها بين عشية وضحاها ..
الفضول يكاد يفتك بالشاب المسكين، لكن كبريائه وقف حائلاً أمام كمِّ الأسئلة والاستفسارات التي يزدحم بها عقله، فهنئها غير مجبور وهو في أشد حاجته إلى المواساة، ثم طلب منها أن تتذكر تلك اللحظات جيداً؛ فربما قريباً أو بعيداً تأتي بها الأيام إلى نفس المكان، وتمر الذكريات أمام عينيها فكيف سيكون حالها؟ ..
وقال: يوماً ما ستذكريني في نفس المكان الذي طالما جمع بيننا،
وإن لم تأتِ إلى هنا يوماً، فسيكون الشتاء كفيلاً بذلك عندما تجلسين وحيدة في سكون الليل الطويل خلف ستار من الضوء الخافت، والصمت من حولك يشهد سيمفونية مخيفة تعزفها أصوات الرياح، ستحتضنين سيقانك وذراعيك يطوقان ركبتيك،
ثم تفتحين أدراج الزمان ببطء وتخرجين منها ذكريات الماضي، وتنفضين عنها غبار الزمان المتراكم ثم تقلبين صفحات باتت صفراء متهالكة لا يمكن ترميمها.
ترى ماذا ستفعلين حينها؟
أخبريني بربك فقد نال مني الفضول:
- هل ستعلو وجهك الجميل ابتسامة رضا؟
- هل سيغمرك شعور العظمة وفخر المنتصر؟
- أم يطويك الحزن ويقتص لي منك الندم؟
لكن الفتاة مضت في طريقها نحو الباب، ولم تعبأ بتلك العبارات وأبت أن تنظر للخلف حيث الذكريات وسنوات الحب الضائع أو تفكر في القادم، وتركت المسكين ينظر حوله حيث التفاصيل البسيطة والأبواب والأركان وثنائيات العشاق على الطاولات والأنوار الهادئة، وأحاديث الغرام والهمس المتبادل،

وها هي تلك الليلة الباردة التي تحدث عنها الشاب من قبل تأتي على حين غرة عندما أخذت الفتاة تفكر فوق سريرها وقد أسندت رأسها إلى ركبتيها، وعيناها نحو النافذة ترقب أوراق الشجر في حديقة المنزل ترقص سعادة وهي تستقبل زخات المطر بعد أشهر من الغياب، وكانت الفتاة تتأمل الهدوء التام من حولها والرياح العاتية، لكن حرارة اللقاء بين قطرات الماء وأوراق الشجر عادت بها بضع سنوات إلى الوراء حيث الماضي الجميل، وحطمت الذكريات حواجز الصمت واقتحمت أسواراً ظلت تشيدها الفتاة من حولها لسنوات؛ كي تحميها من التفكير في الماضي، لكن الزمان قد عبث بأقفال الزنزانة التي وضعت بها نفسها؛ حتى لا يصل إليها شيء من الماضي، فوجدت روحها ترتجف في
العراء عندما تحطمت الحصون، وحلت الذكريات مكانها لتظل الفتاة حبيسة بين جدران الماضي لا شيء يؤنسها أو يخلصها من دموع الندم التي انهمرت بعدما اشتد بها الألم، وجلست وحيدة تتذكر أشياء جميلة قد غادرت ..