الساعة الثانية صباحاً بقلم:عهود محمد الهلالات
تاريخ النشر : 2020-05-14
الساعة الثانية صباحاً

على قطارِ الراحلينَ كنتُ أسافرُ ، وقفتُ في محطةٍ يسودها أُناسٌ، نزلتُ متمعنةَ النظر بما حولي ، تغمرني شمسُ الربيعِ بدفئها تغطي جسدي كـ ليلٍ يضمُ الأرض ، هواءٌ خلاءٌ عراءٌ على يابسةٍ جرداءَ يداعبُ وجنتَي، أهرولُ ناظرةً لجمالِ المكان ، سكينةٌ وطمأنينةٌ لا يرتابها خوفٌ واضطرابٌ ، أصبحتُ أنشدُ تراتيلَ الفرحِ مستمتعةً مع خيرِ جليسٍ إنهُ لروحي أنيس ، صمت دقائقَ أليسَ أحدهمُ قادم ، خوفٌ أصابني فلسنا من هذا المكانِ ، يداي ترتعشُ ، وجسدي ينتفضُ ، بصوتٍ معتدلٍ قال صديقي :

من هنا؟  

أصبحتُ أرددُ فالتثبتي يا روحي ولأُقرّ قلباً وأطمئِن، أسرعتُ أختبئُ وراءَ أوراقِ الشجرِ ، وإذ بهِ شيخٌ كبير قد هرمَ ، وضعفَ بصرُهِ ، يمدُّ يدهُ للآخرين طالباً يد العونِ والمساعدةِ هدأت روحي حينها عندمَا رأيتُه، ما أَدهشني حقاً وجعلَني أَختلِسُ النظرَ إليهِ أنه في غَايةِ جمالِ الأَخلاقِ ، رونقٌ يسرُ الناظرينَ ، أفشى السَّلامَ مع ابتسامةٍ وجلَسَ ، اقتربتُ منهُ وجلستُ بجانبهِ وبعدَ حديثٍ طويلٍ إذ بهِ غيمةٌ سوداء تقطرُ دمعاً ، أصبحتُ أربتُ عليهِ كـ طفلٍ يبكي اشتياقاً لحضنِ أبيه ، تاركة لهُ الحديثَ ، منغمسةً في همومهِ أوحي إليه السرورَ والانشراحَ 

قال حينها : 

إن لي أبناءً احببتهم أعرضوا عني ، ولي أبناء لا يستطيعونَ أن يعينوا سوى أَنفسهم، ولي أبناء قد مَاتوا بسببي ، ولي أبناء يتأمرون علي حتى أصبحتُ على ما أنا عليه اليومَ ، قلتُ يا والدِي هل لك أن تأتي معِي فإنّ اللهَ أصبغَ علي نعمةً ، فقال يا ولَدي هذا المكانُ له ذكرياتٌ عزيزةٌ علي ترعرعَ أبنائي به وشَبّ سني في أطيافهِ ، أردتُ الجلوسَ معهُ أكثرَ ربّما أَحببتهُ ، حينها صرخَ صديقي هيا القطارَ على وشكِ الانطلاقِ ليس لدينا وقتً ، أَسرعنا لاحقينَ بهِ وعندما دخلتُ القطارَ انغمستُ في نومٍ عميقٍ ، بعد ساعاتٍ قليلةٍ وصلنَا لمقصدِنا نزلتُ من القِطارِ ، ورجعتُ إلى بيتي مفارقاً صديقي ، أصبحتِ الأيامُ تتسابقَ ما بين دراسةٍ وأهلٍ وأصدقاء وعملٍ ، أَحضرتُ كوبَ النسكافيه وأَردتُ أن أَقرأ كتاباً ، واشعلتُ الموسيقى كـ نارٍ انتشرت بالبيت ، ذهبتُ إلى غرفتي... كتبٌ باهتةٌ شاحبةٌ خافتةٌ ، عليها غبارٌ كـأن عاصفةً جادتَ بها بدأت أنظفها متأملاً عناوينها ، براقةً عيني بهما ، فتحتُ إحدى الحقائبِ ، ما هذا من أين أتى ؟ تتراجعَ وترتدُ ذاكرتي ، كفى، بالفعلِ تذكرتُ ، يا رباااه ... هذا ما أَعطاني إياهُ الرجلُ العجوزُ حين قال إياكَ أن تنساني.

همت روحي بالرجوعِ إليه ولكن عُدتُ منذُ أيامٍ قليلةٍ، ما بي أَبكي هل تذكرتُ والدي الذي ماتَ قبل سنين ، لربما زاد شوقي لهُ حينَ رأيتُ حنانَ ذلك العجوزِ ، تركتُ كتابي متجهةً للنوم ِ، وإذ بي أَستيقظُ الساعةَ الثانيةِ صباحاً يا الله هل أحلم به ماذا دهاني ، هل أَصابهُ مكروهٌ ، اتصلتُ برفيقِ دربي لنعودَ لهُ فلستُ مطمئناً ، جهزت حقائبي وبعدَ عناءٍ في حجزِ تذاكر القِطارِ ، عدتُ إِلى نفسِ المحطةِ، نزلتُ أَشتمُ عطرهُ رائحةَ القيصومِ والشيح ، وأرى الكرمةَ والزيتون ، بدأتُ بالبحثِ عنهُ أسألُ هذا وذاكَ ، لعلي أُصبتُ بالجنونِ ، التفتُ يميناً ويساراً خلفي وأمامي ، قد كان هنا يجلسُ أين ذهبَ ، من رآهُ ما كان اسمهُ ما كان اباهُ ، هل تغيرَ المكان! العديد من الأَسئلةِ، أَكملتُ البحثَ حتى صادفتُ أُناساً لم أَرَهم من قبلِ ، ترددتُ أن أَسألهم وأُصبتُ في حيرةٍ شديدة .

لكنني رأيتُ لِساني ينطِق : 

هل رأيتم عجوزاً يجلس هنا؟ وبعدَ وقتٍ طويلٍ لوصفي لهُ ، قال أحدهم : نحنُ أبناؤُه ، تغيرت ملَامحي أصبحتُ أكثرَ قسوةً ذات نبرةٍ وعرة ، لربما عسراً ليسَ يسرا ، لماذا هجرتموهُ ؟  

انطلقتُ بالأَسئلةِ كـ حصانٍ يسعى لهدفهِ ، قال : ما كنا سنتركهُ ولكننا جُبرنَنا على ذلك ، أَحببناهُ وعشقنَاهُ ، وما لنا سواهُ ، لكنّ الحياةَ كانت ضِدنا.. عثراتٌ وسلمٌ طويلٌ يصعبُ اجتيازهُ والعديد من الظروفِ القاسيةِ ، حتى جاء يوم ٌأُصيبَ فيهِ وعدنا لهُ، ولن تصيبنا السكينةُ والارتياح والراحةُ ، حتى نأتي بالخوفِ والإرهاقِ والتعبِ لمن آذاه ثم نادى مناديٍ بين الناسِ هلموا إلى يبوسِ، فقلتُ من يبوس ؟  

قالوا القدس، الشيخُ الكبير ذو الجمالِ المفرط ، علمتُ حينها أنهمُ العربُ ، وأنني المحايدُ ، وأنهُ أُصيبَ من الصهيونِ عندما سلبوهُ حريتهُ وقتلوا شبابهِ وسفكوا دماء أحبابهِ ثم هبطتُ على ركبتي مؤمناً بأن الله سيمنحهُ النصرَ من جديد ، وبدأتُ أَجهشُ بالبكاءِ مرافقاً للدعاءِ حتى همَّت روحي بالخروجِ من جسدي ، وصمتُ وهو الصمتُ الأبدي.

عهود محمد الهلالات / الأردن