أثــر الإحســان في الصيـــام بقلم: د.عبدالوهاب القرش
تاريخ النشر : 2020-05-11
أثــر الإحســان في الصيـــام بقلم: د.عبدالوهاب القرش


أثــر الإحســان في الصيـــام

الإحسان هو الإتقان، أو بلغة اليوم هى الجودة، وهى أداء العمل بإحكام، قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(النمل:88). يقول النبى صلى الله عليه وسلم:" إن الله كتب الإحسان على كل شىء"(رواه مسلم)،حتى فى العبادات ومنها الصيام.

فإذا ما أحسن الإنسان في أداء هذه الفريضة وحقق هذه الغاية من الصيام فإن الله عز وجل قد تكفل بنفسه بإثابته، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: كلُّ عملِ ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أَجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فلْيقلْ: إني امرؤٌ صائم والذي نفسي بيده لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه"(رواه بن ماجه).

ويكون الصيام حينئذ سبباً في إجابة الدعاء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمامُ العادل، والصائمُ حتى يفطر، ودعوةُ المظلوم، يرفعها الله دون الغَمام يوم القيامة وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعزَّتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين"(رواه ابن ماجه)

كما يكون شفيعاً له عند ربه يوم القيامة؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أَيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل، فشفِّعني فيه، فيُشفَّعان"(رواه أحمد).

ويكون أيضًا سببًا في دخول الجنة؛ فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مُرني بعملٍ يُدخلني الجنة، قال: عليك بالصوم، فإنه لا عِدْل له، ثم أتيته الثانية فقال لي: عليك بالصيام"(رواه أحمد).

وإذا كانت التقوى هي الغاية التي حددها الله من وراء هذا التشريع – كما هي الغاية من التشريعات الإسلامية الأخرى-، فإن أي إخلال بهذا الغاية الشريفة يذهب بقيمة العمل؛ ومن ثم كان أول مراتب الإحسان في هذه الفريضة هو ترك المحرمات التي تتنافى تنافيا كليا مع غايتها وأهدافها، ومن هذه المحرمات الغيبة والنميمة، وقول الزور، والفحش في الحديث والجهل.

فمما جاء في الغيبة والنميمة ما روي عن عبيد - مولى رسول الله - أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش - أرَاهُ قال: بالهاجرة - فأعرض عنه - أو: سكت عنه - فقال: يا نبي الله، إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان. فقال: ادعهما. فجاءتا، قال: فجيء بقدح -أو عُسّ- فقال لإحداهما: " قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح. فقال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس"(تفسير بن كثير).

فهاتان المرأتان حققتا الصيام الشكلي وهو الإمساك عن الطعام والشراب، وما أيسر هذا الإمساك، ولكنهما لم تتطهر أرواحهما، ولم تصوما عن أعراض الناس ولحومهم، ومن ثم كانتا مثالا لهذا النوع المردود من العبادة.

ومما ورد من الأحاديث يؤكد خطورة هذا الصنيع أيضا، ما روي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه – قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"(رواه البخاري).

ثم يتلو ذلك من مراتب الإحسان الترفع عن المشاحنات والبغضاء، حتى ولو كان الإنسان محقا؛ فمثل هذه العبادة الروحية التي يتلبس بها العبد ينبغي أن تشغله بذكر الله، وتسمو بروحه عن المشاحنات التي لا طائل من ورائها؛ ولذا كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ"(رواه أحمد)، يا لها من كلمة (إني صائم)، إنها ذات بريق خاص، ينفعل به كل مسلم ذاق حلاوة الصيام، فيفهم منها أنه في عبادة روحية لله عز وجل، يجب أن يترفع بها عن مثل هذه الدنايا والسفاسف، فتسبح روحه في فلك علوي، وترفرف في آفاق رحبة، متشوفة إلى مدد السماء، في اتصال دائم بالشعور بمعية الله جل وعلا. يا له من شعور يأخذ بمجامع الروح إلى فيض من نور الله عز وجل، لو أنه ركز في قلب كل منا.

ثم يترقى المسلم في مراتب الإحسان بعدما يشعر بحلاوة هذه العبادة، ولذة ابتغاء الأجر من الله، وانتظار ثوابه في الدار الآخرة، فيعمل على أن يكثر من صيام التطوع ليكون في هذه العبادة التي تهذب لسانه وقلبه وطبعه وتربط روحه بالله، يتشبه فيها بملائكة الرحمن جل وعلا (الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون) فلا يأكل ولا يشرب ويكبح جماح غريزته بعضا من الوقت. ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَن صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض"(رواه الطبراني) ويقول صلى الله عليه وسلم: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهبن وَحَرَ الصدر"(رواه أحمد). وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شهرُ الصبر وثلاثةُ أيام من كل شهر صومُ الدهر"(رواه النسائي).

ثم يترقى في الإحسان ويتزود من الصيام حسب طاقته، واستعداده النفسي والبدني؛ فيصوم الأيام التي بينت السنة فضيلة صيامها مثل:صيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وصيام ستة أيام من شوال،وصيام الاثنين والخميس.

وليس من الإحسان في شيء أن يصوم الإنسان الدهر كله، فهذه مغالاة ينهى عنها الإسلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وبين أن أفضل الصيام –إذا أراد الإنسان أين يبلغ الكمال في التطوع- هو صيام سيدنا داود (، إذا كان يصوم يوما ويفطر يوما، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له  : "صُم يوماً ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك قال: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصيام عند الله صوم داود ( كان يصوم يوماً ويفطر يوماً".(رواه مسلم)

فيجب على الإنسان أن يراعي حق بدنه، وحق زوجه، وحق ضيفه، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الصيام أنه لا صام ولا أفطر، بمعنى أنه امتنع عن الطعام والشراب مخالفا التوجيهات النبوية فلا أجر له، فعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلاناً لا يفطر نهاراً الدهرَ إلا ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: لا صام ولا أفطر"(رواه بن حبان).

وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم سماحة هذا التشريع وكيفية الإحسان فيه، وأوصى بعضهم بعضا به، فعندما لاحظ أحدهم بعض الميل من أخيه عن هذا الطريق الواضح المستقيم، أرشده وأخذ بيده إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي جُحَيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنكِ ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كل، قال: فإني صائم قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأَعطِ كلَّ ذي حق حقَّه. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"(رواه البخاري).