الكابوس...؟! بقلم: حسين المناصرة
تاريخ النشر : 2020-04-05
الكابوس...؟!  بقلم: حسين المناصرة


الكابوس ...؟!

قصة قصيرة، بقلم: حسين المناصرة

ثلاثة أيام بلياليها، وأنا أركض في شوارع المدينة وأزقتها، بكل ما أوتيت من قوة وجبروت، حاملًا ذكريات عن جدي الرابع عشر، الذي عُرف عنه أنه أفضل عداء في التاريخ البشري، وأنه لم يركب يومًا فرسًا عربيًا، أو حمارًا إغريقيًا، أو بغلا مكسيكيًا...
كنت أركض، وأموّه الشوارع، وأنظر خلفي، وكلما رأيت خيالًا أو زولًا، زدت في الركض ظنًا مني، أنهم يتبعونني؛ ليعرفوا أين أنام؟! يراقبونني كي يأتوا إليّ وأنا في عزّ النوم!!
قد يجرونني بعد أن يدوسوا عليّ بأحذيتهم المتسخة، ويجعلونني ممسحة لكل الشوارع. وحجتهم في ذلك أنني تطاولت على سيد الزومبيات، وأنني أحتاج إلى كسر رأس أو قصف رقبة؛ حتى لا أكرر هذا التطاول الأجراميّ اللعين، وأصير عبدًا مملوكًا للوحوش الزاحفة، تنشق مزابل الأرض، فتنبتها قذرة ، بشعة، زومبيات!!
أسير الحيط الحيط، وأقول: ربي، سترك يا ستّار!!

***
توقف بجانب كتل من المكياجات، يعرضن أجسادهن على المارة، بأثمان بخسة؛ فحمد الله أنه في هذه اللحظة بالذات أثبت ولاءه وانتماءه لسيدهن الزومبيّ الرشيد، فالوقوف بجانب هؤلاء العاهرات، يعني انه صار قوادًا، وهذا يعني أنه لا يتدخل في السياسة الزومبية من قريب أو بعيد، وهذه شهادة حسن سيرة وسلامة سلوك ما بعدها شهادة !!
وإن سألوه: أين كنت في الوقت كذا، سيقول لهم في المكان كذا. وإن زادوا في السؤال، ماذا كنت تفعل في ذلك المكان؟ حينئذ سيجيبهم ضاحكًا بعين وقحة: وهل هذا السؤال يحتاج إلى إجابة يا سيدي؟! حينئذ سيُستحسن ردّه، وربما يُقبَّل رأسه، ويقال له : بارك الله فيك يا ابني، إنّ الله تواب رحيم!! فمن يشك في كونك ثائرًا أو يساريًا أو متمردًا على سلطات الأسياد التي دجنت كل الناس في الركض وراء كسرة الخبز.
عندما تكون واقفًا بجانب عاهرة في هذا الزمان.. فأنت في أمان؛ ويا لحظك العظيم النازل عليك من الجحيم في هذه اللحظة، وسكَّن الله سريرة هؤلاء البائعات للهوى لكل من هوى، وهو قد هوى!!
كنّ عظيمات وهنّ يسمحن لك بمجاورتهن، حتى يمر العسّاسون من هنا، وما أجملهم وهم يأخذون لك صورة معهن ضاحكات فاجرات !! قد يظنون أنك "مثلي"؟! أكثر من ممتاز!! لا تختلف عنهن كثيرًا، وهذا يعني -بكل تأكيد- أنّ ليلة القدر الزمبية قد فتحت لك، وزاد رصيدك عند عتباتهم، ووصفوك بأنك لا تهش ولا تنش، ويحسنون الظن بك ولك كثيرًا عندما يؤكدون لك أنك مثلك مثلهن... يا لرحمة هؤلاء العاريات البائسات، اللائي غدت تجارتهن بخسة، بعد أن انتشر " الإيدز"، وكلهن يحملن شهادات طبية مزورة، تشير إلى نظافتهن المطلقة...وكل ما يمارسنه بأمر الأسياد من الأجداد إلى الأحفاد!!
في وقفتي، هذه أستعيد نفسي، وأريح رجليّ من الركض ثلاثة أيام بلياليها، وكنت أنوي أن أكمل الركض لبقية الأسبوع ؛ لكنني حمدت الله تعالى كثيرًا، على وجودي في هذا الشارع المشبوه بكل الموبقات الرخيصة، الذي لا تلتفت إليه سلطاتهم على أنه مشبوه أمنيًا، وتعده من أفضل شوارع المدينة ولاء وإخلاصًا للعتبات حتى الثمالة!!
وبكل تأكيد أيضًا، فكل هؤلاء عديمات الأخلاق، يبعن اللحم، ويشتغلن أيضًا ببيع المعلومات عن أتباع ماركس ولينين، وبقية الثائرين... لكن كلّ من يشيع هذه الفواحش عنهن عقابه أن يقطع لسانه ، ويرمى أمام عينيه للقطط السمان، من أكل الألسنة والآذان!!

***
اقتربت مني إحداهن، في العشرينيات من عمرها، تبدو أكثرهن جمالًا، وتشير ملامحها إلى أنها مجبرة على ممارسة هذا الفحش الظاهر للعيان، ربما بسبب كون أحد أجدادها كان معارضًا لأجداد الزومبيات، أو أنّ جدها القريب حمل السلاح في وجه سلطة الضرائب غير الرحيمة في أيام "سفر برلك"، وفرّ إلى البراري، ثم لا يعرف له قبر، وانتقموا منه بإحضار حفيدته إلى هذا الشارع المهان في السر لا العلن، وربما هي من تتقن التمثيل، لتتأكد من حسن نيتي، وإخلاصي لأصحاب الشأن والسيادة، ولا يكون تأكيدها لحسن سريرتي إلا بأخذي إلى جدار خلفي، وعرضها للبضاعة بثمن بخس أو بالمجان، حينها سينكشف أمري؛ رافضًا عرضها الخبيث، ويا ويلي إن أخبرتْ عني أسيادها!! قد أركض شهرًا كاملاً، وربما مئة عام.

***
- صباح الخير...
- أهلًا بأجمل الجميلات..
- الناس في الصباح، تذهب إلى أرزاقها، وأنت تريد أن تصرف أموالك في الصباح الباكر في المنكر؟!
- رزقتي هنا.. ؟!
- كيف.. قواد؟!
- لا، مثلي!!
بصقت في وجهي بصقة مشبعة بخمرة المساء، وما أن رأيت الأخريات متوجهات نحوي؛ ليعرفن سبب البصقة؛ حتى انسحبت من المكان، آمنًا مطمئنًا، مدركًا أنني عالجت مكرها بمكري !!
لم يعودوا يطلبون رأسي، ومؤكدًا لنفسي أن ما حدث قبل ثلاثة أيام في المركز الأمني، لم يعد يعنيني!! أصلًا، أنا كنت مراجعًا في موضوع تسليم وثيقة الولاء، ولم أسلمها لهم، فكيف سيعرفون أنني فلان ابن فلان ابن علان؟!.. ولكنهم ربما صوروني بكاميراتهم الخفية .. هذه سهلة، سأقص شعري، وأحلق لحيتي التي لم أحلقها منذ عشرة أيام، وأغير ملابسي... هنا لن يعرفني أحد، وسألبس نظارة شمسية في الشمسن ونظارة طبية كاذبة في الفيء، وهكذا لن يعرفوني... ويستحسن أن أفتح أزرة قميصي إلى الأسفل، وأن أضع في رقبتي سنسالًا في آخره قلبان أحمران، وفي يدي إسوارة حمراء ... كأنه احتفال بعيد الحب الأحمر لا عيد الموت الأصفر!!
لا، لن أضع في أذني حلقًا مثل المخنثين؛ هكذا أزوّدها في التخفي، يمكن أن أعوض الحلق ببنطال ضيق قليلًا، ووجهي أدهنه بالأشقر، سيساعد على اقتراب شخصيتي من شخصياتهن في الشكل العام.. ولن أضع على صدري بلونتين ... يستحسن أن أضع البلونتين عندما أذهب إليهم؛ لتسليمهم وثيقة الولاء، حيث لن يعرفوني بعد كل هذه التغييرات.. الشيطان الأزرق حينها لن يعرفني، حتى أنا لم أعد أعرف نفسي...
إذا نفذت كل هذه التفاصيل في التنكر.، فأنا آمن!!.. ومع ذلك الحقّ كله عليّ، لماذا أتدخل فيما لا يعنيني؟!... كان ينبغي لي أن أضبط أعصابي، وأترك الأمور تجري في مجاريها، كما أرادتها إرادة أسيادنا العظيمة، الحريصة على مصالحنا من ولادتنا إلى موتنا، غير مارين بالحياة!!

***
عندما دخلت إلى المركز الزومبي، وواجهت غرفة القائد الزومبي العام، الذي تُسلَّم إليه وثائق الولاء المطلق والطاعة المخلدة، بعد وفاة أصحابها، فقد كنت متوفيًا في حادث سير رهيب، عندما كنت عائدًا من مركز التدريب على الولاء والطاعة، لقضاء إجازة نهاية الأسبوع، وحضور عرس أخي الأكبر، الذي أنهى هو الآخر دورة ولائه وطاعته، فسمح له أن يتزوج، بدون أن يموت!! كان ينبغي عليّ أن أسرع في تسليم هذه الوثيقة في صباح يوم السبت، قبل أن يحكم عليّ بالسجن للهروب من تأدية مراسيم الولاء والطاعة جماعة، وهي عادة تبدأ بثلاث سنوات سجن، لا تحسب من أي ولاء أو أية طاعة، وإن كان فيها فضل لكل الذين يخدمون الأسياد، ويقضونها في السجون ولاءً وطاعة، بدلًا من ساحات التدريب، التي لا يذل فيها المتدربون فحسب، وإنما يهانون بالأحذية، خاصة الذين يتخرجون من الجامعات أمثالي!!
كانت المرأة عجوزًا، تتوكأ على العصا، وتحت أرجلها بركة من الماء، وربما من الدموع المثكولة لها ولغيرها؛ فهي تبكي بكاءً حارًا، ودموعها تنداح، كأنها نهران جاريان!! وكان ذو الرتب الزومبية الكثيرة، يمتطي طاولة بنية ضخمة، وجهه عابس، ولا يظهر فمه من شنبه الكث؛ كأنه صومعة داكنة بلا رأس !!
- ابني لم يتأخر عن الولاء والطاعة، كان يرافقني في المشفى، كنت بين الموت والحياة ولاء وطاعة، حرام أن يسجن ست سنوات ؛ لأنه غاب ستة أيام بدون إذن، وقدم لكم التقارير الطبية؛ فكان عاصيًا متمردًا ، بلا ولاء ولا طاعة... أيعقل هذا الحكم يا سيدي؟!!
- بالتقارير أو بدونها، القانون قانون، من يتأخر يومًا، يسجن سنة، وابنك تأخر ستة أيام، سيسجن ست سنوات!!
- وأين الرحمة؟!...ومن يعيلني؟!
- الرحمة عند الخالق، وليست عندنا ...عندنا القانون يطبق على الجميع!!
اهتز بدني، كأنني غبت عن الوعي، لا أعرف إلى هذه اللحظة كيف جرؤت على أن أقول ما قلت، حالة عجيبة سيطرت عليّ، وضع المرأة وبكاؤها أخلا بتوازني، ربما قلت : طز في الزومبيات!! لا يرحمون، ولا يريدون أن تنزل رحمة ربهم على عباده !! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...
- الله أكبر يا سيدي الزومبي، هذه أم مثل أمك، ترجوك أن تسامح ابنها الذي رافقها لينقذها من الموت، فبدلاً من مكافأته تسجنونه !! والله ما صارت .. من مئة سنة، وأنتم تقولون : التدريب على الطاعة والولاء من أجل تحرير " الواق واق"، و"الواق واق" ما تحررت، والزومبيات النقيضة هناك "خِرِّي مِرِّي".. والآن صار غياب ابن "الختيارة" في ستة أيام كارثة تستحق السجن ست سنين ...!!
لم أسمع كلامه في أثناء حديثي، لكنني عندما أنهيت كلامي، سمعته يصرخ:
- يا خليف.. يا خليف!!
كهرٍ بريّ شاب، لم تعد تهمه غير حياته الميتة، قفزت هاربًا متموجًا، لا أريد أن أنتظر أن تصلني رصاصاتهم، فترديني قتيلًا، وإن كان الرصاص أفضل وأرحم من أن أقع بين أيديهم؛ لأرى نجوم الظهر في عتمات التعذيب والمرمطة... ثلاثة أيام بلياليها وأنا أركض في شوارع المدينة وأزقتها، وها أنا قد غيرت شكلي؛ فلم يظهر مني إلا ما أعرفه أنا فقط عن شخصيتي السابقة، صرت شبه رجل، وهذا ما يسعد زومبياتنا المتأكدة من الولاءات والطاعات وحسن السير... والقناعة الفاسدة كنز لا يفنى...!!

***
أعطيته وثيقة "الولاء والطاعة "..
- تفضل سيدي، هذه وثيقة الولاء والطاعة، لقريبي المتوفى قبل ثلاثة أيام، الله يرحمه.
- لماذا تأخرتم في إحضارها؟
- فقط ثلاثة أيام، يا سيدي ؛ لأننا انشغلنا بالعزاء.
- هات بطاقتك المدنية!! يا خليف...
- حاضر سيدي!!
- خذ الوثيقة، وهذه البطاقة... حوله إلى السجن مدة ثلاث سنوات !!
- لكن....
- اخرسْ.
مشيت مع خليف، وكأنّ نجوم الظهر بدأت تظهر لي..
- سيدي خليف...
- ...
- أنا أسجن عن قريبي الميت..
- طبعًا، أنت !!
- ليش، بدلاً عن قريبي !! ثلاث سنوات، جراء هروب ثلاثة أيام ...
- نعم.
- الحمد لله !!
حمدت الله كثيرًا، وكدت أصلي ركعتين في الساحة الزومبية العامة أمام السجن الكبير، لكنني كتمت أنفاسي، التي ساورتني بتذكر سبب هروبي، جمدتها في داخلي، فهم لم يعرفوا حكايتي مع تلك العجوز وبرميل النفايات ، قبل ثلاثة أيام... لو عرفوا لربما حظيت بالإعدام... حتى الإعدام سيكون سهلًا ورحيمًا لو كان سريعًا!! لكنه لا بدّ أن يكون بعد تعذيب وشبح، وخلع وكسر...!!
- على أي شيء تحمد الله!!
- على أنني سأتصدق بثلاث سنين قضاء وقدراً عن قريبي الذي مات في الحادث المشؤوم؛ راجيًا من الله أن يغفر له، ويسكنه فسيح جنانه!!
- أكيد تتمسخر؟!
- أعوذ بالله، السلطات الزومبية ومؤسساتها المبجلة ...على راسي ... وأنت، يا سيدي خليف، الله يحفظك ويسعدك ويرزقك من كل الثمرات ... ما قصرت معي، أكدت لي الحكم الذي صدر علي!! ثلاث سنوات... طمنتني!!
- أكيد عامل جرايم أخرى...؟!
- أعوذ بالله، كنت أحسب السجن أكثر من ثلاث سنين!!
- ادخل السجن آمنًا.
- ربي، إنّ السجن أحبّ إليّ مما في سرّي، في بئر ما لها قرار!!

***
كان السجن رحبًا، ممتلئًا بالسجناء العاقين لأسيادهم الزومبيين، غير المتفانين في ديمومة الولاء والطاعة بين نفس ونفس... شهيق وزفير!! وقد فرحت فيه لشيئين:
الأول: أن مدة الحكم ثلاث سنين.. لا ثلاثة مؤبدات، وهذا يعني أنّ مدة سجني ستكون ألف يوم فقط؛ أي أنني سأعفى من القضاء في السجن خمسة وتسعين يومًا.. يعني ثلاثة أشهر تقريبًا.
الثاني: أنّ مهندس الديكور، كان قد خرج قبل أسبوع من السجن، وأنا خريج هندسة ديكور في الجامعة العامرية، فصرت أحد مدربي السجن في هندسة الديكور، وأسكن في غرفة نظيفة مع المدربين المسجونين لأسباب عديدة، كلها تصب في وعاء التقصير في الولاء والطاعة بطرق شتى!!
أما فرحتي الكبرى التي لن أقولها لأحد ؛ فهي أنهم لم يعرفوا من أنا، بعد تلك الحادثة التي ركضت فيها ثلاثة أيام بلياليها في شوارع المدينة المنخورة وأزقتها المنتنة!!

***
كان ريقه ناشفًا متيبسًا... وكانت سقطته عن السرير مؤلمة لكوعه الأيمن... بحث عن باب الحمام... كان مفتوحاً..!!
في الصباح الباكر... ولولت سيدة البيت...!!
كانت رائحة بوله في زاوية الغرفة.. تنبعث من الملابس المبللة!!