العمال وأزمة المجتمع الفلسطيني بقلم:ناجح شاهين
تاريخ النشر : 2020-04-03
العمال وأزمة المجتمع الفلسطيني بقلم:ناجح شاهين


العمال وأزمة المجتمع الفلسطيني
ناجح شاهين
فجأة انتهت الشرور كلها من العالم. اختفى الجوع والسرطان والجلطات والجريمة والاحتلال ولم يبق من عدو يتربص بالناس هنا وهناك إلا فيروس كورونا. في هذا السياق امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي باللوم والعتب والتقريع تجاه العمال الذين يكسبون قوت يومهم من العمل في "إسرائيل". دعونا نتفحص مدى مسؤولية العمال عن هذه الوقائع ومدى واقعية مطالبتهم بالتوقف عن العمل بعيداً عن الأوهام والتخيلات.
كان بإمكان السلطة الفلسطينية نظرياً أن توجه تعليماتها إلى عمال "الداخل" بالامتناع عن العمل. بل نزعم أنه كان بإمكانها نظرياً أن تمنعهم فعلياً من ذلك. ونستطيع أن نمضي أبعد من ذلك قليلاً ونقول إنه كان بإمكانها أن تغلق الضفة فور اكتشاف الحالة الأولى للسياح الطليان، لكنها انتظرت حتى وقوع الإصابات في فندق في بيت لحم. على الرغم من ذلك يمكن القول إن السلطة الفلسطينية سارعت بالفعل إلى اتخاذ أشد الإجراءات المتاحة، مما استدعى أن تتلقى الثناء من منظمة الصحة العالمية.
لكن لا يخفى على أحد أن الاقتصاد الفلسطيني لم يتأثر جدياً باجراءات السلطة. وباستثناء قطاع المطاعم والمواصلات فإن الحياة الاقتصادية تسير على نحو طبيعي. هناك قطاعات الخدمات والاتصالات والمصارف التي لا علاقة لها بالفتح أو الإغلاق. ربما العكس هو الصحيح: الناس "تستهلك" إنترنت وكهرباء ومياه...الخ في أوقات الإغلاق أكثر مما تفعل في أوقات العمل. أما قطاع التعليم الضخم فإنه قطاع غير منتج بطبيعة الحال. ويبدو عموماً أن قطاع الزراعة المحدود ومثله قطاع الصناعة لم يتأثرا بالإغلاق وواصلا عملهما كالمعتاد تقريباً.
بتبسيط مخل نسأل ونجيب: ما هي القطاعات المدرة للدخل في مناطق السلطة؟ نقصد ما هي القطاعات الأساس التي تضخ المال، إن جاز هذا القول، في السوق المحلي؟ إنها أربعة واضحة لا شية فيها: السلطة ذاتها، ووكالة الغوث، والمنظمات غير الحكومية، وأخيراً عمال الداخل. باقي الأنشطة تعيش بالطبع على هذه الأموال سواء أكانت شركات ااتصال أو مطاعم أو مواصلات العامة...الخ
بنفس "شعبوي" يلقي باللائمة على أول "مارق طريق" تتم عملية واسعة لشيطنة العمال الذين لا يهتمون بصحتهم أو صحة أبنائهم أو صحة المجتمع...الخ يتم بالطبع التغاضي عن البنية السياسية/الاقتصادية القائمة منذ احتلال 67 والمتواصلة بعد أوسلو والتي تضع العمال في مكانة مرموقة من حيث قدرتهم على ضخ المال في شرايين السوق المحلي. فجأة يبدو وكأن العمال يتحركون بإرادتهم الفردية الحرة خارج نطاق التاريخ والسياسية والاقتصاد ويجلبون علينا المرض والخراب دون أن يكون لذلك من سبب إلا أنانيتهم المفرطة التي تفتقر إلى الوعي والأخلاق على السواء. فجأة ننسى أن محلات الملابس والمطاعم والمواصلات والكهرباء والاتصالات والتعليم ...الخ تعيش بمقدار كبير على الشواكل التي يحضرها هؤلاء العمال. ننسى الان أن السلطة في غزة وفي رام الله كانت قد أقرت عن طيب خاطر افتتاح أكبر عدد ممكن من المناطق الصناعية على الحدود مع "إسرائيل" من أجل أن يشتغل فيها العمال الفلسطينيون ويعودوا لنا بالمال الثمين الضروري لاستمرا دوران عجلة الاقتصاد المحلي.
يبلغ متوسط الدخل الذي يتحقق من خلال العمل في إسرائيل حوالي 1200 مليون شيكل شهرياً. وليس خافياً الأثر الذي يمكن أن يعنيه غياب هذا الدخل في مجتمع ينتظر الراتب شهرياً ويبدأ في إطلاق الإشاعات حول "نزول" الرواتب أو عدم نزولها بعد يوم واحد من بداية الشهر الجديد. من جهة أخرى تبلغ ميزانية السلطة السنوية أربعة مليارات دولار علمأ أن نسبة الرواتب من هذه الميزانية لا تزيد على 130 مليون دولار شهرياً أو ما يقارب 500 مليون شيكل. هناك أيضاً الدخل المتحقق من رواتب المنظمات غير الحكومية التي يبلغ عددها حوالي 3600 منظمة، وتخلق ما يقرب من 40 ألف فرصة عمل، وتتلقى أموالاً تصل إلى مليار وستماية مليون دولار سنوياً. وتسهم الزراعة التي تتراجع باستمرار بدخل مقداره 250 مليون دولار سنوياً بما يجعلها مساوية لدخل العمال في شهر واحد. أما قطاع الصناعة فيسهم بمقدار يقترب من مليار ونصف. وهكذا يتضح أن عمال "إسرائيل" يمكن أن يكونوا القطاع الأهم في ضخ السيولة إلى شرايين الاقتصاد الفلسطيني.
يتوهم المواطن العادي أن لدينا قطاعات اقتصادية تقوم بإنتاج القيمة، ويقع الكثير من الناس فريسة الوهم بأن قطاعات مثل الإنشاءات والمعمار والكهرباء والاتصالات والانترنت والتعليم والصحة هي قطاعات تدر دخلاً. لكن قسوة الوقائع الاقتصادية تخالف ذلك تماماً. فحتى القطاعات الصغيرة المنتجة في بلادنا من قبيل الزراعة والصناعات الصغيرة المحدودة لا يمكن لها أن تعيش بدون السيولة التي يتم ضخها في السوق بفعل أموال السلطة ووكالة الغوث والمنظمات غير الحكومية وعمال "إسرائيل". باختصار هنا مربط الفرس في الدخل "الفاعل" في الاقتصاد ككل. هنا يقع جوهر "الإنتاج" الفلسطيني الذي يسمح بدوران عجلة الحياة وبقاء القطاعات كلها على قيد الحياة.
بعد هذا الذي قلناه يمكن أن "نفهم" و"نتفهم" لماذا كانت السلطة حاسمة في موضوع الحد من الحركة داخل الضفة بما يشمل إيقاف عمل المؤسسات التعليمية كلها، وكذلك إيقاف عمل الموظفين الحكوميين تقريباً، وإغلاق المقاهي والمطاعم والعديد من الأنشطة المحلية، بينما بدا على رئيس الحكومة ومساعديه الحيرة والتردد والتذبذب في الموقف من العمال. هنا في الضفة يمكن إيقاف معظم النشاطات دون أية خسارة تذكر، خصوصاً أن قطاع الزراعة، والصناعة يمكن أن يستمرا في العمل بمعظم طاقتهما الإنتاجية. أما منع العمال من الخروج إلى إسرائيل فإنه يعني ببساطة حرمان الاقتصاد من أكبر مصدر للسيولة على الإطلاق. ولعل من المفيد أن نذكر أن السلطة قد خصصت عشرين مليون دولار لدعم العمال الذين "حرمتهم" الظروف الراهنة من العمل. لكن هذا الرقم بالذات يكشف عن المحال الذي يتصل بخطورة الاستغناء عن دخل عمال "إسرائيل" ناهيك عن القدرة على تعويضهم. ولعلنا لا نذيع سراً إن قلنا إن غياب هذا الدخل الذي قد يناهز ربع الدخل الإجمالي الفلسطيني قد يهز المؤسسات الاقتصادية المختلفة بما فيها الشركات التي تجني ذهباً من دخل هؤلاء العمال من قبيل قطاعات الاستيراد والخدمات والاتصالات.
لعل ما قلناه أعلاه على الرغم من اختصاره الكبير المقصود –ذلك أننا أردنا أن نقدم إضاءة سريعة لا أكثر- أن يكشف المسافة بين الوهم "الشعبي" حول أهمية عمل العمال، وبين الضرورة الواقعية الحاسمة لعملهم إن يكن على المستوى الفردي أو الجمعي. ربما تتحمل "البلد" بخسارة فادحة تماماً انقطاع العمال عن أعمالهم مدة شهر على سبيل المثال. ولكن امتداد "أزمة" كورونا بضعة أشهر مع المحافظة على هذا الالتزام ستعني دماراً واسعاً في الاقتصاد والمجتمع على السواء.
لقد تشكل الاقتصاد الفلسطيني منذ 67 على قاعدة مساهمة عمال الداخل بقسط وافر في الدخل الفلسطيني. وهذا الواقع لم يتغير عليه أي شيء تقريباً بعد نشوء السلطة في التسعينيات من القرن الماضي. ولعل من اللافت بالفعل أن مساهمة قطاعات الزراعة والصناعة في الناتج المحلي قد تدنت منذ أوسلو بوتيرة مضطردة تقريباً. وهو ما عزز الاتكاء على عمالة هؤلاء العمال بدلاً من تخفيضه.
لا يتبنه المواطن الذي يتلقى راتبه من السلطة أو من المنظمات الأهلية أو المصارف...الخ إلى أهمية الدور الذي يضطلع به العمال في الأمن الاقتصادي لأسرهم وللمجتمع وللاقتصاد الوطني كله. لكن الأرقام التي عرضناها توضح أن القطاعات الاقتصادية كلها ومن يرتزق منها ستتأثر بشدة في حال انقطع الدخل الذي يأتي عن طريق العمال. إن المزارع والصنايعي وصاحب المصنع والورشة وعمالهم جميعاً سيتأثرون على نحو واضح بغياب الشواكل التي يحصل عليها العمال، وذلك دون أن نشير إلى القطاعات التي لا تنتج شيئاً وتحقق أعلى الأرباح ويتقاضى موظفوها أعلى الرواتب من قبيل شركات المحمول والإنترنت.
من هنا ينبغي التفكير العميق والواقعي والعملي في مواجهة قضية تعرض العمال لأخطار المرض ودورهم في نقله إلى المجتمع في الضفة بغرض مساعدتهم في حماية صحتهم وصحة المجتمع بدون الهياج "الشعبوي" الذي يضرب شمالاً ويميناً ليطالب مرة بجلوس العمال في بيوتهم ومرة ببقائهم في إسرائيل ومرة بحجزهم...الخ ولعل فكرة الحجر على الرغم من أهميتها واتزانها تبدو معقدة وصعبة للغاية عندما يدور الحديث عن عامل لن يتلقى أجره إذا لم يذهب للعمل بينما يتوقع منه أن يمضي أسبوعين على الأقل في الاعتكاف المنزلي أو غيره.