الحقيقة هي ما يتكلم عنها التراث بأشكال عدة
تاريخ النشر : 2020-04-01
الحقيقة هي ما يتكلم عنها التراث بأشكال عدة


الحقيقة هي ما يتكلم عنها التراث بأشكال عدة

سعيد رمضان على

سواء كنا نتأمل بانبهار الرسومات في الكهوف، أو نستسلم بنشوة لجماليات التطريز في الأثواب التراثية التقليدية، أو نتفحص بدهشة النقش على الفخار الأثري، أو نتمعن في جرار النبيذ القديمة التي اكتشفت في أطلال قصر اثرى قديم بعكا، فالأمر ذاته دوما:  الروح الإنسانية المحبة للإبداع، والسلام،  تتجسد طاقاتها في الثقافات البشرية.

و الفن الفلسطيني، لا يختلف عن غيره من فنون المجتمعات الأخرى من حيث عمومية  المهارات والإنتاجات  الثقافية، فهناك تشابه واضح في الفنون بالحضارات القديمة  كالحصون  والقلاع  والرسم على الكهوف وصناعة الفخار، لكن بالنسبة للخصوصية فهو يظهر أكثر تميزا واختلافا بداية من الحضارة الكنعانية، بعدها سيظهر هذا التميز في فن الأزياء، حيث أخذت الزخرفة طريقها إلى الأزياء الشعبية بالتطريز، واستخدمت مع جانبها النفعي والجمالي كرموز تعبيرية ارتبطت بالعادات، والتقاليد، والمعتقدات، والمقدسات منذ عصر الأساطير، مما يؤكد تجذرها في الحياة الفلسطينية، واستمراريتها عبر مختلف الأجيال والعصور.

والمتأمل في فن التطريز الفلسطيني سيلاحظ أن الاعتبارات الجمالية ليست هي وحدها التي تتحكم في اختيارات الفلسطينية أثناء التطريز، وما على المرء إلا أن يقارن بين الأشكال على الأزياء الشعبية  للمرأة، لكي يري بوضوح أن الفلسطينية تتحرك في عالمين مختلفين: عالم فني يستلزم الدقة والجمال، وعالم خارجي عن الفن يستلزم البوح، وكلا العالمين امتزجا بشكل فريد في الثوب الشعبي، ونتلمس ذلك أيضا في اللوحات والجداريات التي أبدعها الفنان الفلسطيني، والواقع أن أبرز سمات الفن الفلسطيني الحديث عموما هو نزعته المطابقة للواقع الخارجي.

ثوب المرأة الشعبي

تجذر الفن الفلسطيني  في الحياة الفلسطينية، يظهر كأوضح ما يكون في الثوب الشعبي  الخاص بالمرأة، المطرز بوحداته الزخرفية، ونرى هذا الثوب في أغلب اللوحات الفلسطينية التي تجسد المرأة الفلسطينية رمز الأرض التاريخ والوطن، وقد تميز هذا باحتوائه على وحدات زخرفية تمثل كل وحدة  دلالة تاريخية لرمز كنعاني قديم، سواء أكان من رموز الآلهة الكنعانية القديمة أو اللغة الكنعانية، أو بعض المعتقدات والموروثات التي توارثها أهل فلسطين منذ أقدم العصور" وتتمثل هذه الوحدات الزخرفية بأشكال هندسية مثل النجمة الثمانية التي تعود في تاريخها إلى الحضارة الغسولية 4500 ق0 م  أو نباتية ( شجرية ـ زهرية ـ ورود ـ ) وكذلك الطيور، وهى أشكال تسمى ( العروق ) وقد اهتم بها الكنعانيون القدماء عندما ربطوا بينها وبين المواسم الزراعية الخاصة بهم، واعتبرت  (زهرة الحنون ) مثالا هاما لفترة الخصب والنماء في فصل الربيع، أما استخدام الطيور في فن التطريز فقد برع فيه الكنعانيون لما له دلالة على السلام الذي كان رمز الحياة القروية لدى الإنسان الكنعاني القديم.

الثوب في الفن التشكيلي الفلسطيني

استخدمت الزخرفة في الفن الفلسطيني المعاصر في مختلف المراحل، من تجارب الرواد والأوائل مرورا بتجارب جيل الستينات حتى الجيل الحالي، فقد شكلت التجارب الفنية المعنية باستخدام الزخرفة، وعلى اختلاف أساليبها وتقنياتها-اتجاهًا من أكثر اتجاهات الفن الفلسطيني المعاصر إشكالية؛ فقد تنوع الإنجاز كتعبير؛ فكشف عن التباين في الرؤية، وهذا لا يعني أن إشكالية التعبير تكمن في هذا العنصر الجمالي الفولكلوري؛ بل في طريقة المعالجة، وفي الموقف والرؤية، والقدرة التشكيلية والتعبيرية والأهداف التي ينشدها الفنان الفلسطيني، وقد استطاع البعض أن يشحن الزخرفة بطاقات تعبيرية لا حدود لها؛ وقام بعضهم بتوظيفها توظيفًا رمزيًا؛ أي بما يتلاءم مع المحتوى الذي يستدعي شكله، والعلاقة، بالتأكيد، علاقة جدلية" و تجربة الفنان عبد الرحمن المزين  أظهرت لنا  التراث  القديم بكل جلاله، ويظل يتصاعد به إلى تأكيد راسخ ومدهش للحقائق الأساسية التي عاش معها الإنسان الفلسطيني عبر مئات السنين، مؤكداً أن الحقيقة هي ما يتكلم عنها التراث بأشكال عدة. "وكنتيجة لدراسته الفولكلور الفلسطيني دراسة جمالية تاريخية، حقق رغبته في ربط الحاضر بالماضي لتأكيد الهوية الفلسطينية تاريخيًا، وقد وصل في بحثه إلى الزخارف التي استخدمها الكنعانيون؛ فقام بتصويرها وتسجيلها وعبر موضوعات متنوعة مستقاة من متغيرات الحياة الفلسطينية من النكبة إلى الثورة، وجداريته (عنات والانتفاضة) بلغ عددها (42) لوحة" مستوحية من الآلهة عنات، آلهة الحب والخصب المتجسدة بالمرأة الفلسطينية، وكانت الموضوع الرئيسي للجدارية. وتنوعت الأفكار والمضامين بتنوع الرموز الزخرفية واستخداماتها المختلفة في تجربة الفنان سليمان منصور، أحد جيل الرواد، "ولوحته الشهيرة (جمل المحامل) تعتبر أيقونة في تاريخ الفن، وهو من الفنانين الذين صدروا ثقافة وتراث وقضية فلسطين إلى العالم، وما يميزه هو قدرته على شحن الزخارف بطاقات تعبيرية كرد فعل وجداني مباشر، إنه يندفع بطريقة رائعة خلال المناطق الأثيرة الفلسطينية، قابضا على روح التراث والتاريخ الفلسطيني وجوهره.

أما لوحات الفنان كامل المغنى فتحمل "دعوة للحفاظ على التراث والهوية، وتظهر الشخصية والأشكال بلوحاته على نسق لونى متقارب، ومتناغم مؤكدا على الوحدة العضوية، كرمز لتاريخ وتراث ومصير مشترك" لوحاته الفنية معنية بتلمس معين الموروث الشعبي الفلسطيني، ومحاكاة دروب النضال الوطني في حمولاته الاجتماعية والإنسانية، موصولة بالبساطة الشكلية والإحساس العفوي.

تجاوزت الزخرفة في الفن الفلسطيني المعاصر القيم التسجيلية؛ وذلك حين عمل الفنانون على توظيفها توظيفاً تعبيريا ورمزياً يخدم مختلف المضامين التي طرحوها، وتمثل تجربة الفنانة أيرينا ناجى القادمة من روسيا، لأب ضابط في سلاح البحرية الروسية، والمُقيمة في مدينة غزة منذ العام 1994 رفقة زوجها الفنان  الفلسطيني التشكيلي ماهر ناجى ، إحدى التجارب التي أعطت للتراث الفلسطيني أهمية خاصة في كل ما أنجزته من أعمال، إنها فنانة توحي بالتراث الفلسطيني الوطني، مدركة أنه الحماية من عوامل التشرذم والتفتت والانحلال، لذلك فهي تسعى  لبعث التراث من خلال إظهار أجمل ما فيه، في  لوحات يغلب عليها اللون الأخضر لون النمو و الثراء الخلقي، وقد  استطاعت أن تصل إلى معالجة جديدة حققت لها الأبعاد التعبيرية والرمزية؛ فالزخرفة في لوحاتها عنصراً تعبيرياً نراه في مساحات الأرض والأشجار والحصاد وسنابل القمح والتجمع العائلي، ودوما ترسم فلسطينيات بالثوب المطرز سواء  في العرس الفلسطيني، أو قطف العنب، أو مشهد للعائلة أمام كانون النار، لقد أعطت أرينا لعالمها الفني ما هو شاعري؛ حين عالجت أعمالها معالجة لونية غنائية؛ وبذلك أظهرت محتوى الحنين وعشق الوطن والتوحد بجمالياته.

وأخذت الزخرفة عدة أبعاد في تجربة الفنان عماد أبو أشتيه فحين استخدمها في الزي الشعبي؛ أراد الهوية الفلسطينية لعناصره الإنسانية، وخاصة المرأة، فالشخصية المحورية في لوحاته هي الأرض، سواء كانت الأرض المجسدة في الحلم، أو الأرض المنتهكة الموجودة في الواقع، و تظهر في بعض لوحاته مظاهر الدمار، إنه يحارب على طريقته كثائر لتحرير وطنه، وهنا البطولة للحياة، مقابل الموت، والانحياز يكون للجمال لا الوحشية، وغالبا ما يشير إلى الجذور الأصيلة للشعب الفلسطيني؛ إلا أن الاستخدام المتميز للفنان « عماد أبو اشتيه » يكمن في تصويره الزخارف إلي جانب المدن والحقول والطيور والعمل على أنسنتها، بحيث نحس بأنها تشارك في الفعل الثوري، وعلى صعيد آخر؛ تبدو الزخرفة  تشكل الخلفية الحضارية التي تحمي إنسان الحاضر والمستقبل، وتربطه إلى أرضه وتراث أجداده.

والفنان فايز الحسنى الذى قابلته عدة مرات  في معارض الفنون بغزة، هو عضو مؤسس لجمعية الفنانين التشكيليين في قطاع غزة، ومدير عام مركز رواسي فلسطين للثقافة والفنون، يوظف في أعماله أسلوبا بصريا يقوم في أساسه على الاستغراق في المكان، باعتباره فضاء يتفجر فيه الصراع الذي يضمر بأن الحياة تقوم في عمقها على الجدل الدائم أبدا بين الوجود وعدم الوجود، صدام قائم أبدا في تاريخ الإنسانية ، ويستمر بالتدحرج عبر الزمان ليصل إلي فلسطين الحاضر، ليجسمه فايز الحسني بريشته الجمالية، وفى أعماله  تتصدر فلسطين المشهد، مانحا لها الطابع الأمومي، مرتدية دائما  زي معبر عن التراث الفلسطيني، وكثيرا ما تظهر القدس في لوحاته، ومن حولها المدن الفلسطينية، برموزها العربية الأكثر قدما، ولوحاته مفتوحة على تفاصيل عناصرها المنسوجة، من جعبة الزخرفة العربية في ظلالها الهندسية والنباتية، ومن جماليات التطريز الفلسطيني متنوع النقوش، لاسيما المتوالدة في الأثواب الفلسطينية التراثية، والغارقة بجماليات الوصف وتجانس الأشكال والملونات.


عتبة خروج

الزيّ التراثي الفلسطيني ينقل بدقّة وصدق التاريخ الفلسطيني، ومختلف أشكال التفاعلات الثقافيّة التي مسّت الشخصيَّة الفلسطينية الثقافيَّة، إنه فن شعبي يمارس، ويضيف ويجدد، ويتوارث، ويتنوع بسبب التمايز الجغرافي، وهذا ينطبق أيضا على الأزياء  في الدول المجاورة لفلسطين( الأردن-  سيناء بمصر- سوريا) حيث تتشابه كثيراً مع الأزياء الفلسطينية للتلامس الجغرافي، مع فروقات في المسميات، وبعض أنواع التطريز، وقد بلغ التشابه حدا أن نسبت بعض المواقع  أثواب لغير بلدها الأصلي، كنسبة احد الأثواب الأردنية لسوريا وكذا الفلسطينية، لكن رغم التشابه الأساسي، توجد اختلافات في التفاصيل، فالعناصر الفنية  تؤدى بنفسها  إلي خلق أساليب فردية تحددها البيئة والعادات والظروف التاريخية بكل منطقة، واذا كان الفلكلور السيناوي مرتبط بالصحراء المترامية الأطراف، بما فيها من سهول وجبال ووديان، فالفلكلور الفلسطيني هو فلكور زراعي، لا يرتبط بحياة المراعي، بل مجتمع مستقر زراعي، وان كانت العوامل في فلسطين تركت تأثير أكبر على الثوب الشعبي والفن التشكيلي، وتحول التطريز ليكون العنصر الأكثر جذرية في الفن الفلسطيني، والثوب المطرز بفلسطين نموذج للتناغم الكلاسيكي  ممتزجا بالعنصر الثوري، إن المرأة الفلسطينية جعلت من التطريز فنها الأثير والأكثر تعبيرا عنها وعن مجتمعها، وقد دفعت بهذا الفن إلي صور أكثر نقاء وحققت تناغماً  متحركاً، وكأن الحركة الحية التي فيه  تعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني، و المرأة الفلسطينية- كالفنان التشكيلي- توثق أحداث فلسطين على أثوابها، من حيث أنواع وأشكال التطريز من أشجار الزيتون وطائر العنقاء الذي ينبعث من تحت الرماد ويمثل الكبرياء، ويجد المزاج القومي الفلسطيني التعبير عن نفسه في هذا المجال، فأغلب اللوحات التشكيلية والجداريات، والاحتفالات القومية والمهرجانات، يجد الثوب التراثي لنفسه مكاناً فيها، إن القوة التي تبرز بمثل هذا النفاذ، تكمن فيها دائما الروح الإنسانية الخلاقة.

----------