مثلث برمودا الجزء الثاني والعشرون بقلم:إبراهيم عطيان
تاريخ النشر : 2020-03-29
مثلث برمودا الجزء الثاني والعشرون بقلم:إبراهيم عطيان


الجزء الثاني والعشرون

دور عم مرزوق المكوجي ذاك الرجل البسيط في حماية البلاد لا يقل أهمية عن الدور الذي يقوم به جندي أو ضابط على الحدود،
لأن أمن البلاد يأتي أولاً من الداخل بين البسطاء والكادحين .....

والعمل المدني لا يقل أهمية عن العسكري في مواجهة المخاطر، والعامل في مصنعه أو الفلاح في حقله لا يقل أهمية عن المناضل على أطراف الوطن؛ فكلاهما جزء أصيل من المنظومة التي تدفع بالوطن إلى الأمام، وتعبر بسفينته إلى بر الأمان، وتحفظ له هيبته وكرامة شعبه .....
كما أن قاطرة التنمية والتقدم لا يمكن أن تسير إلا إذا وعى كل منا أهمية الدور الذي يقوم به، وأدرك الراعي ما تحتاجه الرعية
واحتوى القائد من هم تحت قيادته كما يفعل دائماً اللواء سليم .....
ذاك القائد الخبير الذي وصلت سيارته الأن إلى مبنى المخابرات فينظر إلى علم مصر الذي يعلو هذا البناء المهيب ..
بينما تحركه الرياح ليرفرف عالياً في سماء قاهرة المعز عاصمة أرض الكنانة، كأنها إشارة إلهية ونبوءة خير بقرب الانتصار .....

فدخل اللواء سليم إلى ردهة البناء المهيب الذي يبدو من الداخل كأنه خلية نحل يعمل أفرادها بلا توقف، وصوت حذائه يدك حصون الصمت الذي خيم على المكان، ثم دارت عيناه من خلف النظارة السوداء في كل الاتجاهات كصائد الليل دون أن يلفت إليه الأنظار؛ ليرى بنفسه علامات الحزن والأسف تعلو وجوه العاملين بلا استثناء، ومظاهر الأسى والأسف تخيم على أرجاء المكان؛ بسبب الحادث التي تعرضت له حدود البلاد قبل ساعات
قليلة .....

لكن الرجل المسن " عم عبده عامل البوفيه " لم تكفيه النظرات البائسة كي يعبر عن حزنه، فقد غلبته دموع الألم والحسرة الذي حاول قدر استطاعته إخفائها قبل مواجهة اللواء سليم الذي طلب فنجان القهوة من العسكري حمدي الملازم للباب بعدما أدى التحية للقائد وفتح له باب المكتب .....
خلي عم عبده يجيبلي القهوة يا حمدي .....
حمدي: أوامرك يا افندم .....
لكن فطنة اللواء سليم رجل الأمن المخضرم في هذا الوقت تحديداً لم تكن مطلوبة كي يعرف ما بداخل عم عبده ذاك الرجل البسيط الذي حضر لتوه يحمل القهوة ورأسه للأسفل، كأنما يراقب الفنجان الذي يحمله بيده المرتعشة .....
لكن ارتعاشة عم عبده ونظرته للأسفل لم تكن لذنب اقترفه ....

إنما هو في حقيقة الأمر يتجنب النظر في وجه اللواء سليم؛ حتى لا تفضحه عيناه الحمراوتين ....

فوضع فنجان القهوة واستدار سريعاً لكن اللواء لم يمهله بضع ثوان كي يغادر المكتب في سلام، فناداه بصوت منخفض:
انتظر يا عم عبده .....
مالك؟... شكلك حزين ليه النهارده؟ .....
أولادك كويسين؟ .....
أجاب عم عبده بتردد: مفيش حاجة يا سليم بيه ....
أنا كويس الحمد لله، وولادي كمان في نعمة .....
اللواء: طيب يا سيدي الحمد لله .....
غادر عم عبده مكتب اللواء وهو يتظاهر بالصلابة، لكن اللواء يعلم جيداً أن الحزن مازال يسكنه، فارتكز اللواء بمرفقية على سطح مكتبه وأخذ يحدق فيه لكنه لا يراه؛ فهو يفكر فيما يشعر به عم عبده، ثم أخذ يفكر بعمق ويحدث نفسه في صمت:
أعلم جيداً كم الأسى الذي يسكنك الأن بسبب تعرض البلاد لمثل هذه الأعمال الإرهابية .....
كما أعلم تمام العلم مدى حزن الشعب المصري على بلاده .....
فقد رأيته واضحاً جلياً في أعين الناس في الشوارع عند عودتي إلى هنا .....
كما رأيته بارزاً على وجوه الكثيرين في هذا البناء العظيم الذي لن يقف عاجزاً في مواجهة ما يحدث الأن .....
أعدك كما أعد جموع الشعب المصري الأصيل أننا لن نتركهم يهنئون بما حققوه، فساعة الحساب قد اقتربت .....

ثم تنبه اللواء السليم ورفع رأسه لأعلى، وكف عن التفكير عندما دخل عم عبده بعد مدة قصيرة؛ ليرفع فنجان القهوة الفارغ من أمامه .....
ثم سأله: سيادتك محتاج حاجة تانية يا سليم بيه؟ ...
وضع اللواء على المكتب قلماً كان بيده ثم قال:
لا يا عبده شكراً .....
قولي يا عبده: أنت زعلان عشان حال البلد؟ .....
قال عبده وهو يشعر بالمرارة والأسى لما تتعرض لها البلاد:
ومين في البلد مش زعلان يا سليم بيه؟! .....
فقال اللواء سليم: متخافش يا راجل يا عجوز .....
مش عايزك تسمع الكلام اللي بيتقال في الفضائيات ....
ابتهج عم عبده وبدت على وجهه الدهشة ثم قال:
يعني يا افندم الكلام ده مش صحيح؟.....

ولادنا بخير؟ .....
نظر اللواء إليه ثم قال: نفسي أفرحك وأقولك مش صحيح .....
لكن أقدر أقولك اطمئن يا عم عبده، ومتخافش على مصر .....
الفضائيات الغربية والعربية والـ ( CNN و BBC ) كلهم قالوا قبل كده ان تلاتة إرهابيين دخلوا البلد من كام أسبوع ....
وقالوا ان الهجوم اللي حصل النهارده على نفس النقطة كان انتقام بعد الخساير اللي تعرضوا لها في المرة الأولى .....
كل ده ممكن يكون صحيح .....
لكن انت تعرف اللي هما مش ممكن يكونوا عارفينه.....
دهش عم عبده مما يسمع ثم قال:
مش فاهم سعادتك تقصد ايه .....
ضحك اللواء ثم قام وأمسك بتلابيب عم عبده وهزه بلطف، ثم ربت على كتفه وقال: الناس دي متعرفش قوة الشعب المصري ......
لكن انت عارفها كويس .....
وعارف ان صبرنا طويل، لكن نَفَسْنا أطول ومش ممكن نقع .....
مش كده برضو؟ .....
فهز عم عبده رأسه ثم انصرف وهو يجفف دموعه، وقد هدأ روعه قليلاً، واطمأنت سريرته بعض الشيء ....

وبينما هو يفتح الباب للخروج كاد أن يصطدم بـ الضابط علاء
الذي يستأذن بالدخول لملاقاة اللواء سليم ......
لكن العجيب في الأمر هو شعور علاء المغاير لباقي زملائه الذين شاهدناهم من قبل! .....
فقد ارتسمت على وجهه البسمة وبدت عليه علامات الرضا والسرور رغم انتشار أخبار هجوم مجموعة إرهابية على نقطة ارتكاز لقوات حرس الحدود، واستشهاد خمسة أفراد
من القوة .....

بادر علاء بتهنئة اللواء سليم على نجاح الخطة! .....
حيث تناولت وكالات الأنباء العالمية والإقليمية الحادث الإرهابي وبالتالي سوف ينتقل إلى الجماعات الإرهابية الموجودة في سيناء .....
وهذه بعض التقارير التي بثتها قنوات إخبارية ونشرتها صحف عالمية .....
لكن شعور علاء لم يكن سعادة خالصة كما يبدو .
وانما اختلط به الكثير من الشعور بالدهشة والعجب! .... وذلك ما دعاه لسؤال اللواء سليم عن سبب اهتمامه الغير طبيعي بانتشار خبر الهجوم وحرصه الشديد على معرفة ردود الأفعال الدولية! .....
فتبسم اللواء رغم انتشار الأخبار السيئة في البلاد وهو يقول: لقد حان الوقت الأن كي أخبرك بما لا يعلمه إلا القليل ...
لم يكن هذا الاعتداء سوى خدعة! .....
فيرد علاء: ازاي خدعة؟ .....
أنا مش فاهم سعادتك تقصد إيه بالظبط !! .....
أزال اللواء عن عينيه نظارته ووضعها على المكتب ثم قال:

ولادنا بخير ومفيش هجوم إرهابي من الأساس! ....

ثم بدأ في الحديث حول ذلك، وأنها لم تكن سوى خطة حتى نتمكن من تمرير خبر هروب بعض الإرهابيين ودخولهم البلاد عبر الحدود .....
وبالتالي سوف يبحثون عن مأوى وملاذ في أحضان أعوانهم في سيناء وبالطبع سوف ترحب خلية سيناء بهم .....
وهذا بالضبط ما نريده .....
علاء: أنا كده فهمت، لكن هناك سؤال تاني بيشغلني:
هل الخلية المتواجدة في سيناء تعرفهم بالفعل ولا لأ؟ .....
فتبسم اللواء ثم قال: مالك يا علاء؟ .....
أنت قلقان ليه؟ .....
كل حاجة معمول حسابها من زمان، وهم بالفعل يعرفوهم،
أنت مش فاكر أننا نشرنا صوراً لهم قبل كده بعد ما تم القبض عليهم، وحذرنا من احتمال نجاتهم من الانفجار بعد رصد أفراد بنفس الشبه في منطقة الانفجار بعد عدة أسابيع؟! .....
وبحسب معلوماتنا المؤكدة أقدر أقولك إن الصور والمعلومات وصلت بالفعل لخلية سيناء، لذلك هما مش ممكن يترددوا في استقبالهم .....

علاء ينظر لرئيسه اللواء سليم وفي نفسه سؤال أخر
لكنه لا يستطيع طرحه!! .....
اللواء سليم رجل الأمن الذي يتميز بذكاء اجتماعي شديد يمكنه من قراءة ما يدور بنفسيات الآخرين ينظر في عين علاء ثم يقول:

سؤالك التالي يا علاء؟ .....
يتلعثم علاء ثم يقول بصوت تكسوه نبرة التردد:
لا لا... مفيش سؤال ولا حاجة يا افندم .....
اللواء سليم: لماذا أخبرتني بذلك الأن وأخفيته من قبل؟ .....
انتفض علاء ثم نظر إلى اللواء سليم في دهشة دون أن يبدي أي رد فعل على سؤال اللواء! .....
فتبسم اللواء ثم قال: مالك يا علاء ساكت ليه كده؟ .....
مش هو ده السؤال اللي نفسك تسأله دلوقتي؟ .....
أنا هقولك اللي عايز تعرفه عشان ترتاح .....
أنا أخفيت عنك حقيقة الهجوم عشان تتعامل مع الحدث بدون أي تأثير نفسي .....
لأني عايز أتأكد من مصداقية الخبر عند أي شخص سمعه .....
حتى لو كان الشخص ده انت يا علاء .....
لأن علمك بالحقيقة ممكن جداً يؤثر على تحليلك للموقف بشكل جيد وقراءتك لردود الفعل .....
وانت طبعاً عارف ان شغلنا محتاج تركيز عالي وذهن صافي .....
صحيح حكاية الذهن الصافي دي صعبة شوية؛ لأن مفيش ذهن خالي من المشاكل، وكلنا عندنا مشاكلنا الخاصة، لكن بقدر الإمكان بنفصل شغلنا عن البيت والعكس .....
علاء: طبعاً يا افندم فاهم سعادتك ومقدر خطورة العملية .....
ثم طلب علاء من رئيسه الإذن بالخروج لاستكمال عمله ومتابعة ما يجري فكان له ما أراد، وطالبه اللواء سليم باليقظة والحرص الشديد على رصد كل ما يخص العملية
.....

وبينما يغادر علاء مكتب اللواء سليم في طريقه إلى مكتبه
يقابله ياسين في ردهة الطابق حاملاً بعض الأوراق والسجلات الخاصة بالمهمة، كي يقوم بعرضها على رئيسه وبصحبته الدكتور ماجد فألقى التحية عليهما، ثم اقترب من ماجد قليلاً وهمس:
يا ترى الفرح امتى يا عريس؟ .....
عايزين نفرح بأه .....
التفت ماجد يميناً إلى ياسين مبتسماً ثم قال:
إن شاء قريب جداً هنفرح كلنا ثم واصل السير .....
فتبسم ياسين وقال: طمنِّي يا ماجد الله يخليك .....
أنت متأكد إن الفرح قريب ؟ .....
أنا مش عايز تأجيل .....
شايف الناس حواليك شكلهم عامل إزاي؟! .....
الحزن مالي قلوبهم وحالتهم زفت ..... عايزين نفرحهم بأه الله يرضى عليك .....