سلامة المواطن وحاجته الغذائيه في الميزان بقلم: جودت مناع
تاريخ النشر : 2020-03-29
سلامة المواطن وحاجته الغذائيه في الميزان بقلم: جودت مناع


سلامة المواطن وحاجته الغذائية في الميزان

دأبت الجيوش على فرض إجراءات قاسية على أراض لتقييد حرية مواطنيها خلال الحرب، لكنها لم تتوقع فرض الإجراءات ذاتها على شعوبها لدواع مغايرة.

وللحالة الثانية دوافعها؛ الأولى قلق رسمي على سلامة الشعب، والثانية الحاجة الغذائية المتزامنة مع توقف عجلة الاقتصاد الوطني.

وفي كلنا الحالتين يحتكم السلوك الإنساني لقرارات حكومية صعبة تحاول بها خلق توازن بين عنصرين لا يمكن التضحية ب على حساب الآخر.

حظر التجول في فلسطين المحتلة الذي لم يرد في مصطلحات الحكومة الفلسطينية نظرا لأن طبيعة الصراع مع إسرائيل والتحدي والتضحية بأغلى كانتا سببا لتقويض الحظر ما أدى إلى استبعاد هذا المصطلح.

فالتجربة الفلسطينية على مدى اكثر من سبعة عقود لم يجربها شعب آخر حتى تلك القيود التي تفرضها الجيوش على شعوبها في هذه الأيام لمواجهة فايروس كورونا.

لقد كان لخرق حظر التجول تحت وطأة قمع سلطة الاحتلال الإسرائيلي ثمنا باهظا ألا وهو الحياة ليس لطلب الغذاء وإنما للحفاظ على الكرامة الفلسطينية التي تستمد عزها وفخارها من أمة أنجبت خير الأنبياء والرسل.

وفي حالتنا اليوم حيث يقض الوباء مضاجع الأمم دون معرفة بما يخفيه المستقبل من ألم وحزن يصيب شعوب الأرض دون استثناء أو أي اعتبار الدين والعرق واللون

خلال ثمانينات القرن الماضي وما بعدها، عشت كبقية أبناء الشعب الفلسطينى الذي ترك وحيدا في مواجهة قوة احتلال عاتية تحت وطأة أقسى العقوبات كحظر التجول والإعدام والاعتقال والحصار الشمولي.

ذلك كان كفيلا بتبني التحدي لتفكيك الحظر والحصار وتداعياته.

ولم تكن القدرات المالية ولا التقنية متوفرة آنذاك كما هي اليوم. مجموعات من الشباب الوطنيين تداعوا تنظيميا لإغاثة المواطنين بعدالة وشفافية.. للفقراء والأغنياء على حد سواء إبان حظر التجول الذي فرض لخمسين يوما في إحدى المرات. سلة غذائية تحتوي على أبسط الاحتياجات كالشاي والسكروالملح والمعلبات. أهمها حليب الاطفال واحتياجاتهم الأخرى.

القيمة النقدية لمواد التموين بدعم من رأس المال الوطني.

وكان ثمن آخر للتضحيات الجسام التي نفذها صناع المجهود الوطني الأبطال.بعضهم استشهد أو أصيب أو أسر.

حالة اليوم تختلف عن واقع لا زالت إسرائيل تعمل به في إطار أجندتها العدوانية على الشعب الفلسطيني. 

فأبناء قواتنا الأمنية في فلسطين أو الأردن أو أي دولة عربية وغيرها يطبقون قرارات الحكومة للحفاظ على سلامة الناس وإبعاد خطر الوباء القاتل عنهم. بذلك يحافظون على وجودنا.

أما نحن الشعب الفلسطيني نختلف عن بقية شعوب الأرض بمعاناتنا وآلامنا وعشقنا لأرضنا ولأننا نعيش حياة جلها كفاح لتحرير الوطن من الغزاة الصهاينة الذين أقاموا المستعمرون الإسرائيلية على أرضنا. ويتسلحون هذه الأيام برعب كورونا عندما عرضوا صفقة عنصرية غريبة بإطلاق سراح جنودهم الأسرى في قطاع غزة مقابل الدواء وليس إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين برغم الدعات الدولية بإطلاق سراحهم حفاظا على حياتهم من عدوة فايروس كورونا.

لذلك في أعناقنا أمانتين؛ الأولى سلامتنا الشخصية وسلامة أبنا ئنا وأمهاتنا وآبائنا وأجدانا. أما الثانية هي حاجة الوطن لتحريره ببقائنا.

هل هناك أسمى من تكليف كهذا الذي فقدنا لأجله أعز أبنائنا!

بين الأمس والغد مستقبل واعد ننتظره منذ عام ١٩٤٨. كيف لنا أن نعجل باستحضاره قبل الأوان في ضوء التطورات المعاصرة على المستويين البشري والتقني.

لا أريد التقليل من الجهود الوطنية البطولية التي تتمخض عن العصف الذهني لقيادتنا وأبنائنا في مهنة الطب والمهن المساندة كالإعلام ووزارات الصناعة والتجارة والتموين والبلديات ولا ننسى تضحيات أبنائنا في الأمن الوطني، الساهرون على أمننا وسلامتنا.

ولكن يمكن تحقيق نجاح أوسع للجهود الرامية لمحاصرة الوباء بمزيد من التخطيط والاستعانة بذوي القدرات والمهارات الإعلامية والتقنية من مؤسسات المجتمع المدني وباستخدام معلومات رقمية المفترضة في سجلات الوزارات باختلاف وظائفها.

ولتسهيل مفهوم الاقتراح، ذات يوم تلوثت مياه الشرب في منطقة واسعة من مدينة لندن. وفي صباح اليوم التالي وجدت عند مدخل شقتي حاويات مياه بلاستيكية وزعها المجلس البلدي في تلك المنطقة مستندا إلى معلومات رقمية من إحصاءات رسمية للسكان وعددهم في كل بيت ما خلص إلى نتيجة توزيع عادلة وبدون إرباك أو تأخير.

مثال آخر: شركة ضخمة لتوزيع المواد الغذائيه دون ذكر اسمها تملك موقعا بحجم قرية؛ مبان ومكاتب ومخازن بمتطلباتها لحفظ الأغذية وأسطول من الشاحنات بأحجام مختلقة مهمتها نقل طلبات المستشفيات والفنادق والأسواق الكبيرة وأيضا البقالات الصغيرة في مدن تلك الدولة.

لقد طلبت الشركة من إدارتنا  التي كنت مسؤولا بها تقديم مقترحات لتطوير خدماتها فاقترحنا خطة حملة إعلامية مبنية على أدوات تقنية استطعنا بها تحديد نقاط البيع المتعاقدة مع الشركة والنقاط الأخرى التي لم تتعاقد بعد على خارطة الكترونية لكل مدينة وبذلك نجحنا في تحديد كل المواقع المستهدفة على الخارطة وإدارتها من قبل خبراء في مكاتبهم والسيطرة على الناقلات بأجهزة JBS لتتبع حركة الشاحنات.

ولتعزيز مثل هذه الاقتراحات في مواجهة كورونا، يمكن لذوي الاختصاص في حقل الإعلام صياغة استراتيجية لحملة إعلامية متعددة الأهداف والوسائط يعالجون بها الفئات المتنوعة ذات العلاقة المباشرة بتنظيم حركة السوق والصحة والنقل وأهمها تقويم السلوك الشرائي لدى المواطنين الذي بدأ الاستجابة المتطلبات الأمنية وغيرها.

وإذا ما بلور الأخصائيون استراتيجيتهم، ستظهر نتائج إيجابية تحد من الغش والاستغلال التجاري لدى البعض وتوفر الغذاء والدواء لكل أسرة وتقلص حجم الهوة بين متطلبات الأمن والتحدي الغريزي الإنساني أو الاستقواء الوظيفي لدى البعض منا.

ولأجل تحقيق الغايات، لا بد من وسائل ووسائط إعلامية متعددة تستجيب للغايات التي تتبناها الحملة الإعلامية لا أن تتعارض معها وأو تحيد عن وظائفها المحددة لها.

وبمعنى أدق توسيع قاعدة المؤسسات الإعلامية وتوجيهها والأدوات الذي يمكن بها استيعاب الخطاب التعبوي للحملة تجاه فئات ذات صلة يتزايد عددها يوما بعد يوم نظرا للفترة الزمنية المفترضة لبقاء وتفشي فايروس كورونا.

هذه الاقتراحات يمكن الأخذ بها في فلسطين المحتلة بل ويمكن تسخير افكارها في اكثر من دولة عربية أو جميعها ولا يضير منظموها انضمام كوادر إعلامية وتقنية عربية للاطلاع بتنفيذ الحملة وتطويرها بما يتناسب ومتغيرات الظروف الحالية بشموليتها على الأرض.

وبذلك نتمكن من الخروج بقرارات تركن إلى تنفيذ استنتاجات علمية بتطبيقها ميدانيا بطمأنينة تضمن توازنا في تقييم حاجة المواطن للسلامة والغذاء في آن.
جودت مناع

كاتب صحفي خبير بالشؤون السياسية والاستراتيجية، حائز على عدد من الجوائز أهمها جائزتي جاك هيجينز ويورشاير تي ڤي ببريطانيا، ومحاضر الإعلام سابقا في خمس جامعات وصحفي في مؤسسات عالمية.