لا صوت يعلو فوق صوت كورونا
تاريخ النشر : 2020-03-28
لا صوت يعلو فوق صوت كورونا


كتب رياض عطاري
وزير الزراعة الفلسطيني
"لا صوت يعلو فوق صوت كورونا"

التاريخ قبل كورونا , ليس كما بعده , وهذا ما تؤكده مقولة "أن التاريخ لا يسير بخط مستقيم ", فلكل مرحلة رموزها ,أبطالها , قادتها واختراعاتها , فبعد الحرب العالمية الثانية, أعيد تشكيل النظام العالمي من جديد , وفقاً لقانون شريعة الغاب , حيث فرضت الدول المنتصرة بالحرب, شروطها على الدول المهزومة , وأعيد توزيع الثروات وفقاً لهذه المعادلة , وانقسم العالم من جديد, وفقا لسياسة المصالح , وفي هذه المرحلة تشكلت منظومة القيم الجديدة, للتحكم بمقدرات الشعوب , بين معسكرين متصادمين , يعملان وفقاً لنظرية الرأسمالية والشيوعية , وفي الحالتين تم تسخير مقدرات الشعوب , للتسابق في صناعة أدوات القوة والإرهاب للإنسانية , بدلاً من تعزيز مفهوم التنمية الاجتماعية بكل أبعادها , وتسابق المعسكران في اختراعات إبادة البشرية , "تحت شعار حمايتها من خطر الأخر" , ومع استمرار العجلة, تغيرت المفاهيم في توصيف الاصطفاف, ولكنها بقيت بالنتيجة موحدة في التسابق على احتواء مقدرات الشعوب خلال حقبة من الزمن .
في عصر كورونا وفي زمن قياسي لا يتعدى شهور , أعيد تشكيل موازين القوة قبل أن تبدأ المعركة , وبدون تخطيط واتفاق مسبق , فرضت كورونا بدون إنذار معلن , حالة الطوارئ في كل أنحاء العالم , وأصبح الجميع خاضعاً لها , وبدأت حالة المخاض بين الدول , بالفرار عن بعضها , و ظهرت منظومة القيم الجديدة داخل الدولة نفسها , فتعزز السلوك الأناني في حماية الذات , على المستوى الجماعي والفردي ,فالمصاب بالدولة متهم يجب احتجازه , والمصاب بالأسرة وجب التبليغ عنه , تغيرت العادات السلوكية التي استمرت عبر الزمن , وتغيرت سلوكيات العلاقة مع الجماعة والأفراد , وبهذا تشكلت الأنماط السلوكية الاجتماعية الجديدة داخل الأسرة وخارجها , تغيرت منظومة القيم ,لإعادة التحكم في مسار البشرية, بشكل مناقض لكل ما رسمته مراكز التخطيط , التي أمضت وانفقت الكثير من الوقت والمال , حيث أعيد تقسم العالم إلى معسكريين , الأول كورونا والثاني دول العالم مجتمعة , وبلحظة فارقة , أصبحت كورونا القوة العظمى, التي وحدت كل الأعداء ضدها , وأحدثت انقلابا عالميا , وأبطلت كل معايير القوه للدول التي كانت تسمى بالدول العظمى , والتي أنفقت أرقاماً مالية لا يستطيع عقلي أن يضع تقديراً لها , في سبيل بناء أدوات السيطرة , فأدوات السيطرة قبل زمن كورونا كانت ترتكز على مجموعة من المرتكزات , ومنها "امتلاك الأسلحة , القوة الاقتصادية والمالية , الأيديولوجيا , النفوذ الدولي , القانون , القيم ,القدرات التعليمية والعلمية وغير ذلك " .
كورونا استطاعت بعدة أيام او أكثر قليلاً . اختصار الزمن وحسم نتائج المعركة دون اتفاق , وأعادت تعريف مفهوم السيطرة , وأسقطت كل مؤشرات القياس لها , فمفهوم السيطرة والقوة , أصيب بالعجز , لأن نظرية الانتصار بالحرب تغيرت, بالانتقال المفاجئ من مفهوم الهجوم إلى الدفاع , فكل الدول اليوم تحاصر نفسها, لمحاربة عدوها الساكن في أعماقها , وبذلك لم يعد مفعول القوة العسكرية, للانتصار في الحرب قائماً , لأن كل ترسانتها العسكرية معطلة , فهي لا تسطيع إطلاق النار على نفسها , كما أن نظرية الحماية الذاتية التقليدية , انقلبت من مفهوم الاختباء بالملاجئ المقاومة لأسلحة الدمار الشامل , التي دفعت الشعوب الفقيرة ثمنها , إلى مفهوم الاختباء وراء قطعة قماش ( كمامة ) لا يصل سعرها ثمن فوطة, لمسح الغبار عن جزء صغيير من ترسانتها العسكرية , و أصبحت العديد من دول العالم التي تمتلك صناعة الصواريخ عابرة القارات ,عاجزة عن صناعة عصا صغيرة( (swap عابرة للأنوف .
كورونا غيرت معايير موازين القوى , فأصبحت أية دولة فقيرة, لديها مئة مصاب مثلاً , مؤهلة لأن تكون دولة نووية , تهدد السلم العالمي , بلا تكلفة مالية , وأن تهدد أكبر دول العالم امتلاكا لأسلحة الدمار الشامل , فصفقات امتلاك القوة , أصبحت تشارك بها الدول الفقيرة , كما الدول الغنية , فهي قادرة على تغيير كل الاتفاقيات الدولية التي لم تكن يوماً , طرفاً بها , إلا من زاوية , إخاضعها للقوى المسيطرة بالعالم , كما لم يعد هناك قيمة في عهد كورونا, إلى أهمية امتلاك عدداً من الدول, للقوة القانونية والسياسية, للتحكم بالقرار السياسي في أهم هيئة دولية ’ لأن كورونا أغلقت كل قاعات اتخاذ القرار, على المستوى الدولي, فمن يمتلك اليوم كرت الفيتو في مجلس الأمن, كمن يمتلك ورقة نقد مالية , لدولة لم تعد قائمة , لأن كورونا , اصبحت تمتلك حق الفيتوا لوحدها , لحظر عقد اجتماع لأكثر من خمسة أشخاص , وهذا ما أفقد هذه الدول ممارسة ساديتها على الدول الفقيرة , وبهذا أرادت كورونا أن تعيد اصطفاف العالم من جديد عبر تكريس المساواة بقوة الوباء الذي لم يعد امتلاكه حكراً على أحد .
كورونا أعادت صياغة مفهوم العدالة الاجتماعية , وانصاع الجميع لها , وكرست المساوة بين البشر , أكثر مما وحدتها الأيديولوجيا والقانون , فهي أزالت كل الفوارق الطبقية , وأصبح الكل ضعيفاً أمامها , لأنه يمتلك نفس السلاح في الدفاع عن النفس , فالأثرياء فقدوا قدرتهم واحتكارهم, للتمتع بأموالهم المسروقة من الفقراء عبر الزمن , ولم يعودوا قادرين للوصول إلى أفخم الفنادق والملاهي والمطاعم, التي بناها الفقراء بعرقهم , ولا ركوب الطائرات التي اعتاد العمال , أن ينظفوا سلالمها صباحا ومساءً , لم تعد المستشفيات حكراً لهم , فالمال لم يعد وسيلة للإقامة بأجمل الفنادق , بل الإصابة بالوباء هو الوسيلة, فبفضلها حقق الفقراء حلم إبليس بالجنة , وبهذا تكون كورونا قد أزاحت سلطة المال ,وأعادت تكريس سلطة الإنسانية , فكل الأسواق المالية تحطمت وانزوى الساسة في غرف مغلقة كالمنبوذين.
في أوج سلطة الشيوعيين والعلمانيين , لم يتمكنوا من إغلاق مسجد أو كنيسة, في حين أن رجال الدين في عهد كورونا , أصدروا فتاوى لإغلاقها , فتوقف الطوفان في الكعبة , والحجيج في كنسية المهد , والصلاة في كنيسة القديس بطرس في روما , وفي مقابل ذلك عجز رجال الدين في زمن ما قبل كورونا أن يغلقو مسرحاً أو دار أوبرا , فقامت كورونا بمهمتهم .
كورونا غيرت مفهوم الوعي, وأعادت للإنسان إنسانيته من جديد, بعد أن سحقتها عجلة الاستغلال , فكل ما يجري اليوم يمثل حالة انشغال للحفاظ على الإنسانية , فالإنسان اليوم يمثل المثلث متساوي الأضلاع ,فهو القوة التي تهدد العالم , وهو بنفس الوقت عامل النجاة , و الهدف الذي يقاتل العالم من أجله , فكل مقدرات العالم تنهار بسببه , وكل التكنولوجيا عاجزة اليوم , عن استبدال دوره , فاليوم كل شوارع العواصم تخلو من المارة , وتتعطل كل عجلة الإنتاج في سبيل حمايته .
كورونا ألغت كل الفروق العلمية , وأحرجت مهنة الطب ولو مؤقتاً , فلم يعد شرطاً أن تنفق آلاف الدولارات لتكون طبيباً , فكل إنسان هو طبيب في هذه الحرب, فالإنسان اليوم يحتاج, فقط لقرار ذاتي لحماية وعلاج نفسه بدون طبيب , و دون تكاليف مالية .
كورونا اليوم هي العدو الأكبر للعالم , كما يصورها محتكرو القوة , الذين اعتادوا على ممارساتها , فهل نرفع لها القبعات , لأنها اعادت تكافئ موازين القوى بين شعوب الأرض, وأزالت كل الفوارق الطبقية والعرقية والدينية بينها , وجعلت الفارق بين إنسان وآخر, بكونه مصاب أم لا , لقد حسمت كورونا شروط الانتصار بالمعركة الدائرة في كل شبر من العالم , فلم يعد امتلاك الصواريخ, أداة الحسم لتحقيق الانتصار, وإنما شروط الحسم, سيحققها أصحاب الياقات البيضاء , الذين لا يملكون سوى أدوات البحث والقلوب الرحيمة , ومن سيمتلك لقاح علاج كورونا هو من سيمتلك حقيبة الأزرار النووية لحماية البشرية , بعد أن منحتنا كورونا لحظات هزيمة المنظومة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية , وأعادت للإنسانية مكانتها .
كورونا هي الاسم الأول الذي انتصر على كل الأسماء , دون دعاية أو ترويج باهظ الثمن , فهي اليوم ربما وصلت لكل بيت, لتعلن أن "كل البشر سواسية" فلا مناعة للأثرياء دون الفقراء , ولا ضرورة لنهب ثروات الشعوب , لبناء ترسانة الأسلحة , التي صممت لإبادة البشرية , وعجزت عن إبادة فايروس, لا يرى بالعين المجردة , فهل تستحق كورونا جائزة نوبل للسلام في العام 2020 بعد أن أبطلت مفعول كل أسلحة الدمار الشامل وهيأت فرصة للسلام العالمي , فهل ستستفيد البشرية من الدرس بعد أن يقرع الجرس ؟
انتهى