أحدّوثة وطن بقلم: فرح فيصل الشيخ
تاريخ النشر : 2020-03-26
لِكُل مِنَ أحدوثةُ الخاصة،  لا أحد يستطيع ألولوج لها فهي قابعة بمنتصف مُهجِنا، على ضِفاف جُبيل يعتلي مدينتي الحزينة أبرُك على مقعد تهالك ونخر السوس خشبه البالي أثر مرور الأيام عليه،  ألقيت نظرة على شجرة الزيتون الصامدة رغم كل ماحدث، وعلى زهرة الياسمين المتدلية عن سور ذَلك المنزل الدِمشقي العتيق، على بائعِ الذُرة الذي مازال يمتهن مهنةُ على الرُغم من خُلو الشارع من العُشاق أو من العائِلات التي تنتشر بِالشوارع كُل نهاية أسبوع، على وجوه الناس الباهتة على الرغم من فَرحة البقاء، إلا أنه بقاء مُبكِ لروحَهم الثكلى، على سيارات الأُجرة التي تَجوب الطُرقات رغم ظَنك الحياة، وقلة أعداد من يركبونها فغلاء البنزين رفع من الأُجرة، الأمر الذي أدى لشُح ركوبها وازدياد الطلب على (السِرفيس)، هُنا حيث استمرار الحياة رغم أصوات مدافع الهاون التي تعزف أوتارها كُل صباحً على مسامِعنا، هُنا حيثُ قناديل الكاز أصبحت رفيقة ليالينا الطويلة، هُنا تُزهر أزهار النانِرج بعبق دِماء الشُهداء،  هُنا تُروى الأرض من دُموع الأمهات فَيتحول نهرُ الدم ذو الرائحةِ الزكية إلى نهر دموع تفوح منها رائحة الوَهن.
إنها الحرب ياسادة من جعلت من حياتنا مستنقعٌ للقتل، وبؤرة للفساد، جعلت من أحلامنا سرابًا يتلاشى كُلما إقتربنا منه، هُنا حيث أم فقدت وحيدها بعد عقدٌ ونصف من الإنتظار، وهُنا من شاخ قلبه حزنًا على رفيقته أثر سُقوط قذيفةً تبصُم أثرها بذكرى زواجهم،  وهُنا بقايا أُنثى تجلس على نِصف مقعد مكسور بشبه حديقةٌ تحملُ ذِكرى إعترافه لها، وبقايا حُب حفر قروح فراقه بين جُدران فؤادها.

وهُنا حيث أنا، أنا والليل وذِكراها...
أستذكر دموعها المُنسابة على وجنتيها الحَمراوتين أثر البرد الذي تلحفَ أجسادنا، وصرخة روحها المُنهارة أثر نخره لجسدها المُهلك، عيناها المجوفتين أثر البُكاء وشُعيراتها النحاسية المتبقية، ثغرها الباسم رغم ظنك ما نعيش، قابعة بين يدي تتلوى ألم السقم، ألم الجوى،  ألم صراع البقاء الذي تخوضه كل يوم، أثر نهشه لجسدها الملكوم، أي أُنثى تِلك القابعة خلف قُضبان الأسى، تبستم فترى بمبسمِها راحة السنين الأنِفة، ثُم مالبِثت أن تختفي لِترى بؤس السنين الحالِكة،  كيف لي أن أُخرجها من لُجة الأسى الذي تعيش، كيف لي أن أخفف عنها برد التشرد وجوع الأيام هذه،  كيف لي أن أُخفف عنها ألم السرطان الذي إنتشر بجسدي قبل جسدها.
دمعةٌ تسترقُ النظر لمدينتي الحزينة، وخيبة الأمل بمقبل الأيام ترنو لناظري، صوت المدفعية تُخبرني بأن وقت منع التجول قد حان، وعلي العودة مرة أخرى لمخبئي قبل أن يُنسف جسدي بمكانه، قرأت الفاتحة على روح ملاكي ، ثُم حملت حقيبتي على الحان "زامور" حضر التجول التي تصم الآذان هرولت عائدًا لمخبئي لاعنٌ في أساريري هذه الحرب ووجعها المرسوم على حيطان شامي العتيقة.

بقلم: فرح فيصل الشيخ