رغيف خبز مغمّس بالدم ... مشاهدات في زمن الكورونا بقلم: منجد صالح
تاريخ النشر : 2020-03-25
رغيف خبز مغمّس بالدم ... مشاهدات في زمن الكورونا بقلم: منجد صالح


رغيف خبز مغمّس بالدم ... مشاهدات في زمن الكورونا

ظهر أن الفئة المستهدفة أولا بالعدوى بفيروس كورونا هم ممّن احتكّوا أو تواصلوا، بحكم عملهم، قوت يومهم وعائلاتهم، مع الأفواج السياحية الاجنبية القادمة من الخارج. والفئة الثانية هي المواطنون الذين قدموا من الخارج، من بلدان يسود فيها الفيروس دون هوادة وخاصة الدول الاوروبية وبالتحديد دول أوروبا الغربية. يُضاف الى هاتين الفئتين من خالطوهم من الاهل والاصدقاء والمحبين والمُهنئين والغافلين، "ويا غافل إلك الله".

وفي الأيام الاخيرة ظهرت فئة مُستهدفة ثالثة. هذه الفئة المكافحة التي يجري "أشاوسها" وراء لقمة عيش  أطفالهم وعائلاتهم، تتعرض الى معضلة مركّبة يصعب حلّها أو إيجاد مخرج معقول مقبول كريم مشّرف لها. أقصد بهذه الفئة مجاميع العمال الفسطينيين العاملين في الداخل الفلسطيني المحتل منذ 1948، اي في إسرائيل، بالإضافة الى العمّال العاملين في المستوطنات.

فهذه الفئة،  كبيرة العدد نسبيّا في المجتمع الفلسطيني، ينطبق عليها المثل الشعبي الفلسطيني القائل: "مثل إلّي بالع الموس على الحدين"، فلا هم بخير "لا مع ستّي ولا مع سيدي".

فهم يؤدّون عملهم في ظروف صعبة حتى في الظروف العاديّة، يتحرّكون من بيوتهم الساعة الرابعة صباحا مع بوادر اولى خيوط الفجر الأولى، ويُنقلون في حافلات إسرائيلية "خاصة" بهم، معزولين عن أي تماس مع المسافرين الإسرائيليين في حافلاتهم. يصلون الى الحواجز العسكرية الإسرائيلية، المُتمترسة أمام فتحات جدار الضم والتوسّع والعنصرية الإسرائيلي. يهبطون من الحافلات و"يُغربلون" ويفحصون وتصل ايادي الجنود الى مشيمة جيناتهم وبطاقات تعريف فصيلة دمائهم ومسامات جلودهم.

ثمّ "يُشحنون" الى الداخل الفلسطيني، الى ورش البناء والمصانع والمزارع، وهي في معظمها أشغال شاقة تحتاج الى مجهود عضلي والى تحمّل وصبر على تلميحات وتصريحات وتقريعات و"تلقيحات" مشغّليهم الإسرائيليين المتغطرسين أو "زملائهم" من الإسرائيليين الذين يدّعون، ظلما وجهالة، تفوّقهم عليهم.

ومؤخّرا أن يتحملّوا الإهانة في ابشع صورها بحذفهم من أماكن عملهم لمجرّد الإشتباه بإصابتهم بفيروس كورونا.

أول أمس ألقت قوّات الإحتلال بعامل فلسطيني، كان يعمل في إسرائيل، على قارعة الطريق على حاجز بيت سيرا، غرب مدينة رام الله، بشبهة إصابته بفيروس كورونا. إشتبه به المقاول الإسرائيلي في موقع البناء، فتم شحنه وحذفه فورا خارج "إسرائيل"، دون سؤاله أو محاولة تقديم اي مساعدة طبّية له.

وقد بقي العامل ملقى يفترش الأرض والحصى بجانب الطريق خارج الحاجز حتى قدمت سيارة إسعاف فلسطينية من الهلال الاحمر الفلسطيني وتم نقله وحجره والتحفّظ عليه وأخذ عيّنات منه لفحصها. وقد تبيّن، ويا لألطاف الله وسخرية القدر، بأن هذا العامل، "المقذوف" من مكان عمله "بوحشية"، سليما معافا وليس مريضا بالكورونا.

واليوم حصلت "مسرحية" مُشابهة، سيّئة التأليف والإخراج من قبل قوّات الإحتلال، حيث أحضرت عاملا مشتبها به بإصابته بالكورونا وأنزلته على مفرق بلدة حارس، التي تقع على تقاطع الطريق العريض الرابط بين زعترة والداخل الفلسطيني المحتل، إسرائيل. وقد ذهب محافظ محافظة سلفيت، اللواء عبد الله كميل، يرافقه قائد المنطقة، لإستلامه. وقد إستدعى المحافظ سيارة إسعاف فلسطينية لنقله لإجراء الفحوصات اللازمة له. وقد بقي المحافظ في المكان يتحدّث عن بعد مع العامل "المشتبه به إسرائيليا" حتى قدمت سيارة الإسعاف.

وفي وقت لاحق عصر اليوم أعلن محافظ محافظة طولكرم، عصام أبو بكر، عن إستلام عدد من العمال الذين تم "تسريحهم" من قبل أرباب العمل الإسرائيليين بالداخل، وإلقائهم على الحواجز، وعلى بعضهم آثار سخونة عالية. قدمت الطواقم الطبية الفلسطينية وأخذت منهم عيّنات لفحص الكورونا، وتمّ وضعهم في الحجر الصحي.

وقال المحافظ أن لجنة الطوارئ وخليّة الأزمة قد إتّخذتا تدابير مُشدّدة لمنع حركة العمال من خلال فتحات جدار الضم والتوسُع العنصري، وذلك حفاظا على سلامتهم وسلامة عائلاتهم وابناء شعبنا عامة.

هذا هو رغيف الخبز المغمّس بالدم، الذي يُجبر العامل الفلسطيني للعمل في إسرائيل من أجل قوت أطفاله وعائلته.

وهذه هي ديمقراطية إسرائيل، "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" كما يتبجّحون. يُفترض أن يكون لهؤلاء العمال تأمينا صحيّا يُلزم المقاول والمُشغّل الإسرائيلي بتقديم العلاج اللازم للعامل إذا ما أصيب أو جرح أثناء تأديته لعمله في موقع العمل. لكن "ديمقراطية إسرائيل" لا تشمل العمّال الفلسطينيين، إنّما يُمارس عليهم أشد وأقسى أنواع التمييز في الأجر وفي المرض وفي ظروف العمل.

في دول كثيرة في هذا العالم، قامت الحكومات، مضطرّة، بإخلاء سبيل الآلاف من السجناء الجنائيين أو السياسيين أو مسجوني الرأي وحريّة التعبير. لكن إسرائيل، ورغم مطالبات الجانب الفلسطيني، ما زالت ترفض إطلاق سراح معتقل فلسطيني واحد، حتى لو بقي له يوما واحدا في محكوميّته، بسبب الحكم الجائر الذي وقع عليه من محاكم الإحتلال، التي تحكم بسجن صبي لسبع سنوات بمجرّد إلقائه حجرا على قوات الإحتلال، هذا اذا لم تُطلق النار عليه وتقتله بدم بارد.  

نتمنى السلامة لعمّالنا وأن يفتح الله عليهم باب رزق بعيدا عن لُئم وجشاعة المحتل، وأن يُعينهم على تأمين حاجات ومتطلّبات عائلاتهم.، وأن يُعوّضهم الله خيرا. وسلّم الله شعبنا من كل مكروه وشعوب المعمورة جميعا.