ستائر معتمة بقلم:نزهة الرملاوي
تاريخ النشر : 2020-03-22
(١)
ستائر معتمة/نزهة الرملاوي - القدس-
في غرفة تهادى إليها لؤم الحياة، معزولة عن الفرح والأمان، نظرت عجوز إلى مرآتها المنتصبة أمام السّرير، فتمثّلت لها بشرا، ابتسمت لها، منكرة أيّ تغيير طرأ على تقاسيم وجهها، عدّلت نظّارتها بإعجاب، ورفعت انحناء ظهرها قليلا، باغته الألم فآثر الانحناء، قالت تحدّث مرآتها: مضت سنوات عملي الطّويلة بحلوها ومرّها، مضى فيها كلّ شيء، إلا أنت بقيت معي ترافقيني الحياة، بدأت أحسّ بالرّاحة، ها أنا ذا أحيا بعيدا عن الالتزام، وما يشبه النّظام، بعيدا عن الكره والحبّ.. عطّلت لغة التّنافس بيني وبين الآخرين، وتجاهلت فلسفة التّهميش التي كانت تدور معي في كواليس الإدارات الحزبيّة، أحبطت تلك المحاولات التي قامت لتفشل نجاحي وتحدّ من أحلامي، طويت المواقف التي كانت مبعثا للتأزّم بيني وبين المتحاورين، سأستبدل كلّ آلامي بذكريات رائعة بين أروقة المدرسة.. أمام السّبّورة أو تحت ظلال شجر شهد كتابة الحروف الأولى لأحبّة ومراهقين مضوا للحياة.. سأبدأ أيّامي بحريّة وانطلاق وتجديد.
أشاحت وجهها عن مرآتها ، ثم أعادت النّظر إليها، تمتمت في نفسها وقالت: أيتها الخريفيّة الحمقاء.. لا، لا.. بل الرّبيعية الرائعة.. فراشة بوح وعطر نرجس فوّاح أنت.. ستبقين في كلّ المواسم حبّا يطاول الجمال والبقاء..
أرسلت قبلة إعجاب للمرآة، أشاحت وجهها عنها، ثم نظرت إليها وقالت: لقد هدّني التّعب.. كم تمنّيت أن أحظى بساعات من الهدوء، أرتّب ذاتي المتهالكة، وألملم قوّتي المبعثرة، وها أنا ذا أراني أتقن لعبة الصّمت التي تتخطّف ساعات وحدتي باقتدار، تمرّ أعوامي كالبرق، لا أحسبها ولا تحسبني، كدت أنسى التّكلّم أو حتّى الإصغاء.. حتّى الحروف قفزت من دفاتري، نجت من تكويناتي وتسلّطي، فلا أريد علاقاتها العبثيّة الحقيقيّة أو المتخيلة، أغلقت عينيّ عن وجهيّ الصّدق والنّفاق المنتظرة أمام محكمة الذّات، فلا يستطيع أحد ألتّلاعب بمشاعري إلا أنت أيّتها المنحوسة.
قالت المرآة: أنا؟
- نعم أنت ساحرتي، لا حياة لي بدونك.
- مسكينة أنت يا صديقتي.. تبدين كخريفية تساقطت أمنياتها على أرصفة متهالكة منذ زمن بعيد، غفلت عن أبواب الحقيقة.
- أنا؟
- نعم.
- ويحك، بماذا تهذين؟
- بالحقيقة التي لا تسمعين.
- أيّ حقيقة؟ سأكسرك إن تكلمت مجدّدا.
- أعرف أنك ستغضبين منّي وتقذفيني في أقرب حاوية للقمامة إن صارحتك بالحقيقة.. بل لن تتواني عن بيعي في سوق الخردة بعد هذا العمر، امسحي غبار الوهم عن وجهك، أرجوك.. امسحيه ولو لساعة.
- مسكينة أنت، لقد هزم الزّمن صفاءك، لكنّي لا أجرؤ على رميك، أنت رفيقة عمري التي تؤنس وحدتي.
- لا زلت تجيدين إغرائي.. تحسنين انتقاء الكلمات في حضرتي، وأنا كذلك أحبّك، أتقن رسم ملامحك بشفافية.. ولكنّك لا تفتحين ستائر العتمة المسدولة أمام عينيك، ولا تصغين لكلماتي كلّما حاولت..
- أرجوك لا تكملي.. سأدبر غاضبة إن تابعت الحديث، سأتوارى من أمامك ولا أعود..
- لا تفعلي ذلك أرجوك، ابقي هنا.. لا تهربي، اسمعيني ولو لمرّة واحدة. أنظري إلى بقايا شعرك.. غزاه الشّيب بلا رحمة، وغدت عيناك الغائرتان مبعثا للشّفقة، اقتربي، حدّقي جيّدا.
- سأتركك وأمضي إن تفوّهت بكلمة واحدة.
- كعادتك دائمة الهروب.
- ليس من عادتي الهروب بل المواجهة، ما زلت على حالي منذ أن التقيتك أول مرّة، أتذكرين؟ لا أدري ربّما تمكّن منك الخرف.
- كيف أنسى وقد كان بريق عينيك يضيء وجهي صباح مساء؟
- ولا زال..
- وكان قوامك الممشوق أسطورة تتمدّد على جسدي.. فأنهال تسبيحا بما خلق الله.
ضحكت وأردفت: ولا زال..
- وحينما يأت الليل.. تنزعين ظلمته بإطلالتك، فتبدين قمرا يراوغ شفافيتي بإتقان.
- يا إلهي.. أخجلتني.
- لا تخجلي.. فأريجك الذي كان يتخطّر حولي يُسكرني، وأحمر شفاهك يُذيبني، وكُحل عينيك يُغرقني، في كلّ لحظات شدوك أمامي، أفرش مباسمي على مساحات الورد في خديك وأغفو.
- لا لا لا.. ما أضعفني أمام هذا الإطراء والدّلال!
- تضاريس جسدك مطبوعة بذاكرتي، تلهو في ساحاتي منذ عقود، حتى تفاصيل شاماتك المختبئة كانت جلّ اهتماماتي..
- يا أناي أنت.. يا قبلة ذاتي.
- نحن وجه واحد لمصيرين مختلفين، ربما يتشابهان بالكسر والتّحطّم، ولكنّا لا نختلف أبدا.
- لن ننكسر.. ولن نفترق ما دامت لنا الحياة.
- ولكنّك صديقة عنيدة، تتركينني وحيدة ألهث وراء خيباتي حينما أحاول مصارحتك بما جدّ عليك…
تتركينني وتمضين بلا اكتراث.
- أنا آسفة، ليس هناك متّسع من الوقت لبدء نقاش جديد.. صدقا لا أملّ من الحديث إليك، ولكن إن حاولت مضايقتي من جديد، سأغرب عن وجهك ولن تريني ثانية..
- لا تشيحي بوجهك عنّي.. توقّفي أرجوك لا تذهبي.
- لا أستطيع البقاء.. فأنا أتهاوى في لحظات العصبيّة والتّوتر.
- لا أريد أن أسمع أحدا، أريد أن أبكي، أن أملأ الدنيا صراخا.. دعيني أُغرق وجهك المغبرّ ببعض الدّموع، متعبة أنا حتّى النّخاع.. لا مجال للتوقّف، ثمّة أشياء تناديني لإنجازها، بعد ساعة سيعود صغاري من المدرسة.
- صغارك؟
- أقصد أولادي وزوجاتهم، وبناتي وأزواجهنّ، أطفالهم الحاملين أحلامهم وألعابهم سيأتونني فرحين، سيركضون إليّ بشوق كبير، سأفتح ذراعيّ وأضمّهم، ونتعانق بحرارة.
أدارت وجهها عنها وتمتمت في نفسها: أعرف أنّهم سيطيلون النّظر إلى وجهي، لن أدعهم يرون كآبته وشحوبه، لن أدعهم يتوغّلون في قبح تجاعيده الآخذة بالازدياد، ولن أفسح لهم المجال للسّؤال عن اصفراره، سأغطّيه بمسحوق تجميليّ مارس عليه أشكالا من الاحتيال والنّفاق منذ زمن طويل، وسأخبرهم أنّ نتائج تحاليلي الطبيّة كانت جيّدة، ولن أخبرهم بتكهنات طبيبي الأخيرة، سأخطف يديّ من بين أيديهم بمهارة، حتى لا يخافوا بروز عروقها المزرقّة وتجاعيدها المتراكمة إذا ما تأمّلوها، وإذا ما همّوا بالإمساك بها والإصرار على تقبيلها، سألتقط أياديهم وأضمّها بسرعة.
استدارت مرّة أخرى، حاولت الوقوف ثانية أمام المرآة لكنّها أخفقت، حاولت مجدّدا، وقفت وقالت مبتسمة: سأحسن اختيار ملابسي لاستقبالهم اليوم، سأبتعد عن الألوان الحزينة الدّاكنة، وعن هذا اللون الأبيض الذي أرتديه، سأنتقي واحدا من فساتيني المهجورة، ربّما أختار فستاني الأصفر ليبهج النّاظرين، أو الأحمر كلون طلاء الشّفاه الذي ينتظرني بشغف كلّ يوم ويذوب على شفتيّ بعد ساعات نومي الطّويلة، سأضع شالي المشجّر بعد أن نسي تفاصيل جسدي منذ زمن.
- سيلاحظون أنك تبالغين وتهربين من مواجهة الحقيقة.
- ممّ أهرب؟ سأغضب منك إن كرّرت أقوالك.
- تدّعين أني صديقتك، وأنت لا تحتملين صراحتي.
- سأدعوهم لتناول الطّعام، وأدعهم ينظرون إلى ما تحتضنه المائدة باندهاش.
- ولكنّ رجفة يديك ستسقط الصحون والأواني فلا تحاولي.
- سأكسرك إن أحبطت عزيمتي مرّة ثانية.
- ولم كلّ هذه الحماقة؟ اطلبي لهم وجبات طعام جاهزة وأريحي نفسك من عناء الطّبخ والوقوف وجلي الصّحون، فأنت لا تستطيعين الوقوف؛ الهشاشة تسري في عظامك، تمسّكي بعكازك جيّدا حتّى لا تسقطي على الأرض، فلا زال حوضك يعاني وجود مفصل دخيل وقطع من البلاتين، ارحمي نفسك من شفقة أحدهم إن بقيت الإنسانية في قلوبهم.
- ما أقساك! تبّا لك، أوقفت أحلامي في إعداد مائدة تريني على وجوههم ابتسامات الرّضا، أعلم جيّدا أنهم سيفتشون عن نواقصها ويرفعون أصواتهم عاليا ويسألون.. أين ال؟ لماذا لم؟ لو.. سيجلس الصّغار على مقاعد مائدتي الفارغة ويملؤونها ضحكا يطاول السّماء، سأبتسم طويلا وأحمد الربّ كثيرا، سأغطّيهم بوشاح حناني، وأقبلهم دون انقطاع، سألغي كل آهات التّعب الخارجة دون إرادتي، وأروي لهم حكاية مملوءة بالأمل.
- مسكينة وطيبة أنت، ستمتلئ المقاعد، ولن يبق لك مقعدا بينهم، سيأكلون بنهم وينسون أنك تقفين أمام جبل من الأواني المتّسخة لتنظيفها، وتتحايلين على الدّقائق كي تخرجك من أزمة الانتظار.
- تبا لك، أفقدتني شهيّتي للأشياء الجميلة.. كلّ الأشياء التي تبقيني على أمل، راقبي وصولهم، سأصلي صلاة شكر لله أنهم بخير وسعادة.
سأنظر من نافذتي، أمدّ رأسي لمشاهدتهم وهم ينزلون من حافلة المدرسة واحدا تلو الآخر أمطرهم رضا وأدعية، هه.. إنّي أسمع ضجيجا بالخارج، لقد عادوا.
- من؟
- لقد عاد أولادي من المدرسة.
- ازددت خرفا، كبر الأولاد وتخرّج الأحفاد وتزوّجوا، أنسيت ذلك مجدّدا؟
- صه.. ها هم يلعبون في فناء المنزل مع أصدقائهم بعد عودتهم من المدرسة، تناولوا غداءهم وحلّوا واجباتهم المدرسية وخرجوا لممارسة مواهبهم.
- ليسوا من تنتظرين يا عزيزتي.
- من الذي يتحرك خارج الغرفة إذن؟
- الأطباء.
- الأطباء؟ ولكنّي لم أطلب طبيبا، أنا لست مريضة.
- أنت في مشفى بيت المسنّين.
- أنا بالمشفى؟ بماذا تهذين؟
- أنا لا أهذي ولن أنسى مشهد أولادك حين جاؤوا بك قبل سنوات طويلة إلى هنا، ونادرا ما يأتون لزيارتك.
- لا مستحيل.. متى؟ ولماذا؟
- مع الأسف يا عزيزتي، عقلك ينكر الكثير من الوقائع.
- أنسيت ما حدث قبل سنوات؟ لم يتحمل أولادك ما فعلته، وجودك بينهم هدّد استقرارهم مع أزواجهم، وقلّل هيبتهم أمام الناس، وزعزع مكانتهم في المجتمع كما قالوا، مدّعين أنك أصبت بالنّسيان والخرف، وأنّك خرجت من بيتك ذات صباح ولم تعودي إليه.. قاموا بالبحث عنك، لمحك بعض معارفك تتسوّلين في شوارع المدينة، تقفين على إشارة المرور وتسجدين العابرين.. أخبروا أولادك عن مكانك، فعادوا بك إلى البيت ساخطين، ضجّ الحيّ وأنت بنت الأكابر وزوجة الغنيّ.. تشاوروا في أمرك وقرّروا إرسالك إلى المشفى، بعد إثبات الأطباء أنك مصابة بالخرف.
- لا، ليس صحيحا ما تقولين.
- ولم البهتان؟ صدّقيني هذه هي الحقيقة التي تفرّين منها. لكنّك لا تمسحين غبار السّنين عن عينيك وعنّي، ارفعي ستائر العتمة وشاهدي صورتك بوضوح فيّ.
- سأحطّمك، سأكسرك.. سأتخلى عن صداقتك.
- ويحك، لا تلوميني، ابتعدي عنّي لا تحطّميني أتوسّل إليك، ستفتقدين بعدي الحقيقة، أرجوك أبقي على صداقتنا.
- لا تتوسّلي.. سأتركك هذه المرّة وآوي إلى سريري، أنا متعبة مكسورة.. سألملم حطامي وامض إلى عمق ذاتي..
- ألن تتناولي طعامك؟
- أكلت قبل قليل.
- ويحك لم تتذوقي الطّعام من البارحة، سيأتي الطّبيب يثبت في يدك حقنة توصل الغذاء لجسمك المتهالك.
- سأمشّط شعري قبل قدومه، أحبّ كلماته وملاطفته، كم أتمنّى ان لا يترك يدي، وكم أتمنى أن أنام على صدره.. أحتاجه في كلّ لحظات ألمي وضعفي.
- من؟ الطّبيب؟
- نعم.
- لكنك شتمته في الصّباح وحاولت رشقه بكوب الحليب.
- لا أذكر أنّي فعلت ذلك.
- بل فعلت، مع أنك تحبّينه وتحتاجين إليه لكي تغفي على صدره كما تقولين.
- ويحك.. ليس من عادتي النّوم على صدر الأغراب، قصدت احتياجي لابني الطّبيب أيّتها الحمقاء، كم أحتاجه، أريد أن أبكي على صدره طويلا.. أشكو إليه وجع الغياب، ليته يأتي لأيام فقط، لأكحّل عينيّ برؤيته مع صغاره وزوجته، أخذته الغربة بعيدا وما عاد.. أنصتي، إنّي أسمع صوته مع أخيه المحامي وأخته وزيرة شؤون المرأة، لقد عادوا..
- أتت عاملات التنظيف لغسلك.
- هذا ليس وقت الاستحمام.
- نعم، ولكن أنظري تحتك وما فعلت بسروالك، ملأت رائحة برازك الغرفة.
- أنا خجلة، خائفة، متعبة، أرجوك قفي إلى جانبي، سانديني.. سأتعرّض للّكمات من تلك السّمينة في أثناء الاستحمام.
- لقد ظلمتها.. ألم أقل لك أنك تنسين، تلك العاملة هي التي تخاف عليك، هي التي تحنّ عليك في ليل الآهات ووجع المرض وألم الاغتراب.
بكت العجوز طويلا.. سمعتها الجدران فبكت معها، ازدادت حزنا، أخرجت مرآتها الصّغيرة من تحت وسادتها وقالت: وأنت يا رفيقتي الصغيرة، ماذا تقولين فيما يجري لي؟ سترافقينني طيلة الوقت؛ لن أستطع الوقوف أو التحدّث ثانية أمام تلك الثّرثارة التي تتصيّد زماني ومكاني وتختلق الألاعيب والأكاذيب، صديقاتي رحلوا إلى السّماء وبقيت وحدي على الأرض انتظر دوري كما ينتظر الآخرون الراحة بعد مواسم شقائهم، ماذا تقولين أنت؟
قالت المرآة: مسكينة أنت.. متعبة كما المتعبين على هذه الأرض، المُتحايلين على الوجع والحزن، مع أنّكم الباقون في عبق الذكرى.. لكن، لا ضمائر حيّة تصغي لآهاتكم، ولا حروف تتجمّع لتعلن وصاياكم، ولا عيون ترصد نعوشكم حين تمرّ وتسكن القبور بأمان.
صاحت العجوز: ويحك لقد أفزعتني، أخاف الموت.. وأخاف القبور الموحشة آه..آه..
قذفت العجوز مرآتها الصّغيرة فتحطّمت، ركضت العاملة السّمينة لتلملم الحطام قالت العجوز لها: أيتها الرّشيقة الجميلة، خذي حطام هذه المجنونة إلى جهنّم، وتلك الخرفة المعلقة على الحائط أمام سريري، احمليها.. اكسريها في الخارج ثمّ ارميها في أقرب حاوية للقمامة.
دهشت العاملة وقالت: يا إلهي.. ها أنت تتكلّمين، عشر سنوات مضت عليّ وأنا في خدمتك لم أسمع منك حرفا واحدا.. لقد يئس الأطباء والعاملون من سماع صوتك، لا نسمع منك إلا تمتمة أمام هذه المرآة، وحين نسألك لا تجيبين.. ولا تبوحين بشيء من ألمك أو فرحك.. ما أجمل صوتك! وما أعذب كلماتك! تبدين سيّدة متألقة في ريعان شبابها، متوّجة بالصّحة والعافية، هيّا ساعديني، اجلسي على كرسيّ الاستحمام، سأنظّفك وأسرّح شعرك وأزيّنك قبل أن يأتي الأحباب لزيارتك ككلّ يوم، وسيأكلون ما لذّ وطاب ممّا صنعت يداك.
ابتسمت المرآة المعلّقة وقالت للعجوز ساخرة: أيّتها المسكينة، الحاضرة الغائبة، أنتم الآدميّون تهربون من الواقع، تتخلّون عن الحقيقة لأجل مرضاة أنفسكم، تُحبّون من يُجاملكم ويخدعكم وينعتكم بما ليس فيكم..
نظرت العجوز إليها وقالت: الحقيقة مرّة يا عزيزتي.. تغرس في دواخلنا الاكتئاب، وتجدّد أحزاننا، حروب ودمار وتهجير واغتراب، سلب ونهب وعقوق واقتتال، أرجوك لا تذكّريني بما يصدم نشوتي وشعوري بالانتصار عليك.. على ذاتي، لا حقيقة ستنال منّي بعد اليوم، سيبقى الأمل فيّ ما دامت الحياة.. بشائر نور وأهازيج فرح.
لكنّ الحقيقة تنتظرك هناك.
أيّ حقيقة؟
الصّمت يتجدّد، العاملة تدفع الكرسيّ بقوّة، العجلات تدور وتمضي بالعجوز للاستحمام الأخير، وعيون مرآتها ترصد آخر أنفاسها وتُلاحقها بالبكاء.