أمي بقلم: حسين المناصرة
تاريخ النشر : 2020-03-22
أمي بقلم: حسين المناصرة


أمي...
قصة : حسين المناصرة
عندما تموت أمك.. عليك أن تبكي كثيرًا، في أي وقت، وفي كل مكان. والمهم ألا يراك أحد!
عليك أن تبكي وحدك، أن تجري دموعك لتغسل وجهك كله، وتبلل قميصك أو حجرك.. فهي أمك التي ماتت!! إنها حياتك المثمرة، ووجودك الذي لا قيمة له بغير أمك! نعم أنت مجرد أمك.. وعندما تموت أمك فأنت بلا جذر.. أنت يتيم ..يتيم حتى النخاع! ما جدوى هذه الحياة بدون أمك .. قد تعيش أمك مئة عام ..لكنّ موتها هو الكارثة التي تحاصرك لتكشف عن ذاتك المقتولة بين يدي عالم مخيف، عالم بلا أم ترحمك.. وتدعو لك، وتكون مركزًا لدائرتك التي لا يمكن أن تكون دائرة إنسانية بدون هذه الأم المركز .. أنت فقط أمك في هذه الدنيا المحزنة، المسكونة بالخوف والبكاء!!
عندما تموت أمك... أنت وحيد ..مسكين ..قشة في إعصار مخيف.. فأين أمك؟! إنها ماتت.. وأنت ميت بدونها .. أحلامك تتلاشى، تفقد بريقها يوم أن كانت أمك ترعاك بدعائها، بابتسامتها، بحزنها، بألمها، بسنواتها المسكونة بكل ما هو خير ومؤلم وحزين وإنساني.
عندما تموت أمك احملْ سجادة الصلاة، واسجد لربك داعيًا باكيًا متجردًا من كل هيباتك المزعومة، تدعوه سبحانه وتعالى أن يدخلها فسيح جنانه بغير حساب، ألا تتعرض لأي سؤال يكشف أنّ لها سيئة، حتى لو كانت مثقال ذرة، أن يأخذ الله سبحانه وتعالى برحمته التي وسعت كل شيء كلَّ حسناتك، ويعطيها لأمك، ويستل من صحفها كل سيئاتها، ولا تظن أنّ لديها سيئات، ويضعها في صحفك .. وأنك على استعداد أن تقتحم الجحيم حفاظًا على جنتك في أمك، هي الجنة، ولا بدّ أن تكون في الجنة، والجنة لها؛ لأنها أمك، فهي في مرتبة الأنبياء، وأمهات المؤمنين، والصالحين، والشهداء.. كيف لا تكون كذلك، وهي أمك التي تنفستَ هذه الدنيا بنفسها، التي عشت حياتك بفرحها وحزنها بسببها، تشعر أنها النهر الذي يرويك في هذه الصحراء الموغلة في الجدب واليباس!!
أمك آمنت بربها، وأدت فرائضها، وتجسّدت في إيمان العجائز اللائي ليس لهن إلا جنان النعيم... نعم هي للجنة، وأزكيها لأنها أمي، وأنا ابنها، ولا بد أن تكون للجنة؛ لأنها كانت خيّرة، وسيدة عظيمة، آمنت بربها، ولم تعصِ له أمرا.. ولكن كيف تتأكد من أنها اقتحمت جنان النعيم بغير حساب..؟! تدعو الله تعالى أن يسرب مع ملك كريم في رؤيا عظيمة، تريك أنها في جنتها، وأنها مبتسمة بعرض مياه الكون كلها، وراضية بطول السماوات والأرضين.
لعنة الله عليكم أيها الملحدون الضالون البائسون .. لعنة أبدية تفضي بكم إلى زمهرير الجحيم، كيف تزعمون أن الحياة هي الحياة، وأن الموت هو الموت، ولا جنان هناك أو جحيم؟!
كنت منكم، ولعنت نفسي آنذاك!! كيف صدقتكم ؟! كيف آمنت مثلكم بتفاهات الدنيا وبهيميتها، وأن الإنسان حشرة، جاءت بالمصادفة، وتتلاشى بالمصادفة، والكون كله مصادفة!! أي غثاء هذا الزعم المنحط.. لا قيمة لنا بدون رحمة ربنا!! أمي أم عظيمة، ولا بدّ أن تكون مكافأتها جنان النعيم!!أمي رحلت إلى جنتها، وستدخلها بغير سؤال أو حساب.. فهي أم عظيمة مات بعض أبنائها في حياتها.. وجزاؤها الجنة، ولا بديل عن ذلك.. ما أعظم أن أصحو يومًا، وقد رأيتها باسمة مشرقة كوردة جورية، مزهرة في جنتها، وقد رحمها الله برحمته العظيمة، وأجزل لها عطاءها، فكانت جنتها لا مثيل لها في حياتنا البائسة، رغم ما فيها من زركشة!!
لم أعد شيئًا مهمًا في هذه الدنيا، صارت الحياة عادية جدًا، والآمال مختزلة جدًا، وذاكرتي أمي فقط؛ لأنها وجودي يوم أن شعرت بأنني بلا قيمة بدونها... بسمتها حياة، دعاؤها مصير، حزنها موعظة، لقمتها سعادة، قرشها ليس لها، ذاكرتها حكايات داخل حكايات، ثيابها برائحة المطر فوق أرض تشققت عطشًا، نظرتها بلسم للقلوب الكليمة، نفسها دفقة من الروح الخالدة، حركتها أمانة مقدسة.. هي أمي التي تجعلني أشعر دومًا أنني بخير مادامت هي بخير !! إنها سعادة الروح يوم أن تقشعر الأبدان من بركان يلهب الأرض، هي دمعة العين الحاضرة في كل لحظة أنت بحاجة إليها!!
تتعجبُ كيف أدركتْ أنها سترحل من بيتها إلى جنتها؛ أخرجت كفنها القديم من خزانتها، وضعت ما لديها من مال في محرمة تحت وسادتها؛ قالت: "سأموت!!". كل شيء حولها صار نظيفًا، هي غدت ألماسة برائحة الريحان والمسك!! صلَّت صلاة الظهر، تمددت على سريرها في الظهيرة، تنتظر غداءها، وتُسبِّح!! وكروح تشرق مع الفجر: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنّ سيدنا محمدًا رسول الله!! غادرت روحها تتدفق عشقًا إلى جنتها في ظل رحمة الله سبحانه وتعالى!! ما أعظم موت الأمهات وأروعه!! يصعب أن نتخيله!! فأرواحهن مؤمنة كصفاء العسل الخالص!!
رحلت أمي!! حملت السماء روحها الطاهرة، أرتها جنتها، ابتسمت، ولا جزاء لخمسة وتسعين عامًا في الدنيا إلا الجنة.. لا بدّ أن أشعر بأنها امرأة عظيمة، أم مقدسة!! سيدة كريمة، وهي تدفن في قبرها ليلة الجمعة المباركة.. قبرها ليس قبرًا. إنه جنة!!
الدعاء، والصدقة!! سندعو لك في كل نهار وليلة، ونتصدق باسمك حتى نشعر أننا نستظل بحبك، وإنسانيتك، وروحك الطاهرة...فأنت الأم التي تدمع العين لأجلها، ويخشع القلب لسيرتها، ولا يكون للفكر أية قيمة إن لم يؤمن بأن رحمة الله واسعة، وأن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله فحسب، وإنما برحمة ربه خالق هذا الكون العظيم، سبحانه ما أعظم شأنه، وأعزّ مكانه!! أما أنتم أيها الملحدون فتأكدوا أنكم خلاصة الجهل والحقارة واللعنة!!
من أنا حتى أكتب حكايتك؟! وماذا أعرف عنها؟! ما أغباني، وأنا أتصور نفسي قادرًا على أن أكتب حكايتك في دنياك الصغيرة؟! ..نعم أنا جاهل .. أنا أحببتك يا أمي .. ولكني لا أعرفك...أنت تعرفينني جيدًا ؛ لأنك أمي !! قلب الأم على ولدها، وقلب ولدها على الحجر!! نحن الأبناء نجهل أمهاتنا.. لم ندرك كم تضحيتهن؟! كم معاناتهن؟! كم هن سيدات ولدنَ من الجنان؛ ليرعين أبناء الجحيم!! ما نملكه دمعات تسقط حزنًا..!!
أشرفت على الستين... لم أكن يتيمًا، رغم أن والدي رحمه الله مات منذ خمسين عامًا!! كنت طفلًا.. كان ينبغي أن أشعر بالحزن واليتم!! اليوم فقط أنا يتيم!! منذ أن وصلني خبر وفاتك، رحمك الله، شعرت في كياني كله أنني بدأت يتمي الحقيقي وحزني الأبدي!!
نعم، أبكي على نفسي؛ لأنني فقدت أمي... عشت غريبًا، وكنت حيًا ؛ لأنك حية !! أنا الآن غريب ويتيم!!
الآن، كل الأشياء حولي بلا قيمة يوم أن غادرت هذه الدنيا البائسة!! ما جدوى أن أكون أنا في هذا الكون، وأنت لست فيه؟! عزائي أنك أم صالحة، سيدة مباركة، امرأة جليلة.. رحبت برحمة ربها، فأخرجت كفنها من خزانتها، واغتسلت، وذكرت الله كثيرًا، ونطقت الشهادتين، ثم انتقلت من دار الدنيا إلى الدار الأخرى، تستظل برحمة ربها سبحانه وتعالى!!
ما أعظمك يا الله، وأرحمك، وأعدلك، وأنت الغفور الرحيم، قدّرت الآجال والأرزاق، وأنت أرحم الراحمين.
اللهم ارحم أمي برحمتك، وأسكنها في جنان النعيم بلا سؤال أو حساب!! وارفع منزلتها إلى جوار الأنبياء والشهداء والصالحين!!
آمين!!