على عتبات التسول والسؤال بقلم : محمد الدرقاوي
تاريخ النشر : 2020-02-13
على عتبات التسول والسؤال بقلم : محمد الدرقاوي


على عتبات التسول والسؤال
وقفت الزوجة أمام القاضي توضح سبب طلب الطلاق...
كانت تنتصب في تحد مقلق أمام كل من حولها، وترنو الى زوجها بنصف اغماضة ساخرة ، أثارت القاضي الذي اكتفى بنظرة متفحصة اليها، كشفت بعضا من انزعاجه وكأن شيئا ما غامض وراء الزوجة .
كان الزوج يقف الى جانبها ممتقع اللون ،يضطرب نقمة على امرأة ، جرته لموقف ماكان يتصور أن يجد نفسه فيه ابدا ، كان يطرق برأسه الى الأرض ،يترقب بما ستعلل طلبها .. ثم يرفعه ملتفتا وراءه وكأنه يستنجد بأمه الجالسة خلفه ،يستمد منها قوة ..كانت تنظر اليه وكأنها تريد أن تقول شيئا ،لكنها أمام هذا الحضور لاتملك الا الصمت..
قالت الزوجة : سيدي القاضي ! ..زوجي هذا قد اهانني ، أدخل بيتي متشردة،أولجها حمامي ، واعطاها ثيابا من خصوصياتي ،ثم نام 

معها على سريري،اصر على الطلاق ـ سيدي القاضي ـ كما أصر على تعويض مادي لا يقل عن خمسمائة الف درهم وان يقتسم معي كل ثروته لأني انا من ساعدته على اكتسابها وجمعها...
قطب القاضي حاجبيه ،و حرك عينيه علامة استغراب،
ثم خاطب الزوج قائلا:
ـ مارايك في الذي تقوله زوجتك ؟
تنهد الزوج بعمق ثم نظر بلا تركيز في وجوه من حوله ..
كل صور الماضي تتدارك تباعا أمام عينيه .. من اين سيبدأ ؟
فتح فمه ، ومرر لسانه على شفتيه ، بلع ريقه ثم قال :
سيدي القاضي : ما قالته زوجتي صحيح ، لكن اسمحوا لي أن ابدأ من حيث أنهت كلامها ؛
زوجتي هذه الماثلة أمامكم بكل هذه الحلي والحلل هي نفسها لم تكن غير متشردة تدق أبواب البيوت يوميا ، تتسول وتطلب الصدقات ..
صادفتها ذات يوم وانا عائد الى البيت قلب مزبلة تبحث بين ركامها،
رق قلبي لها ،خصوصا واني كنت اصادفها بباب بيتنا كل يوم تقريبا..
ترجلت من سيارتي متوجها اليها ، مسكت بيدها وعدت بها الى السيارة ثم تابعت الطريق الى البيت ،أدخلتها حمام أمي ،وقدمت لها مما في دولاب أمي من ثياب، كما ناولتها عطرا ومساحيق من خزانة أمي،


لما اغتسلت وخرجت من الحمام ، انبهرت لما رأيتها !!
لقد تغيرت كلية وصارت امراة ثانية ، تفور كما تفور حوريات
الجنة في أحلامنا؛
وأنا على وشك توديعها بالباب أقبلت أمي بعد زيارة لاحد اقاربنا ، لما رأتها، حسبتها أنثى من صديقاتي، أو احدى كاتبات شركتي ، لكن حين سلمت عليها ودققت فيها النظر ، استغربت من ان الواقفة أمامها ترتدي ثيابها ،وان عطورها هي ما يفوح من الزائرة ..
نظرت الي امي نظرة استفسار ، فغمزتها بعيني واضعا يدي على فمي،كأني اتوسلها الا تغضب ،او تطرح اي استفسار ،يجرح الزائرة
او يحط من كرامتها...
توقف الزوج هنيهة :كأنه يسترد أنفاسه، أخذ نفسا طويلا ثم تابع :
كان وقت الغذاء قد حان ، فأقسمت عليها أمي ان تتناول غذاءها معنا؛
بعد الغداء تركتها أمي منشغلة بعروض التلفاز و شرب الشاي واتت الي تستفسرني عنها..عن دولاب ملابسها الذي انتهكه ابنها اكراما للزائرة ،عن عطورها ومساحيقها التي تعتز بها كبقية من هدايا المرحوم والدي؛ لم أخف سرا على أمي ولم أحاول ان اتكتم على أي شيء بل أخبرتها حتى عن أسمال الزائرة اين وضعتها ..
وفاجأتني أمي بدمعات تنحدر على وجنتيها
قلت: مابك أماه ؟
قالت : كم من جمال ضيعه الفقر وغيبه الإهمال والحاجة !!
هذه البنت لن تخرج من بيتي بعد اليوم..
مرة أخرى يتوقف الزوج عن الكلام قليلا وكأنه يشحن صدره
بقوة تمنحه القدرة على المتابعة ...
او ربما كان يفكر كيف يختصر حديثه ،وكيف ينتقي الكلمات التي لا تجرح الواقفة بجانبه:
هكذا سيدي القاضي بدأت هذه السيدة المحترمة حياتها معي
ظلت معنا في البيت تتشرب من عاداتنا ،وطقوسنا، وطريقة حياتنا، كانت أمي تعيد تربيتها دقة دقة كما يقولون الى أن صارت واحدة منا، ألفناها وألفتنا ،فصار لها ما لنا ،وعليها ماعلينا،تقرأ وتكتب ، تحاور وتناقش ،تلتهم المجلات النسائية ، والحق يقال انها كانت تتوفر على قدرات هائلة مكنتها من تجاوز كل عارض يحول دون بلوغها ما تريد...
ثم بدأت تتقرب مني ، واليها بدأت أميل...
وكانت المفاجأة من والدتي أن أتزوجها..
وبعد احاديث طويلة، وتفكير عميق، ونقاش عن الغير من حولنا ،عن زيف المظاهر والأسماء والألقاب ،عن ألسنة المجتمع الطويلة وأبواقه القوية، اقتنعت بان الامر يخصني وحدي ولا يهم احدا غيري؛
بعد سنة من زواجنا ،لاحظت اهتمامها بالتجارة ، وبايعاز من والدتي مرة أخرى، فتحت لها متجرا للألبسة النسائية ثم آخر للعطورات والماكياج،لكن بعد ان انجبت ابننا الوحيد بدأت تتغير .. صارت لا تستقر في مكان ، متنقلة بين دور العرض والموضة، وبين اكثر من مدينة وعاصمة عالمية ، جوابة للمراقص والملاهي ...

توقف الزوج قليلا وكأنه يكتم غصة خنقته ، بلع ريقه ، ثم تابع ٠٠
- اهملتني سيدي القاضي،وأهملت بيتها ، ابنها ،
ولولا أمي اطال الله في عمرها،ما وجدت من يسهر على ابني
او يهتم بشؤوني...
أحس الزوج كانه قد خرج من بين الأمواج ، يتصبب عرقا ،لكنه أخف مما كان قبل ان يحكي ... التفت الى أمه ، وقد تربعت على وجهها ابتسامة رضا وتشجيع..
كان القاضي يتابع القصة مستغربا أن تكون التي أمامه قد كانت من شحاذات الشوارع ، وهي اليوم تشكو زوجها لسلوك كانت هي أول من غرفت منه وارتوت ..
التفت القاضي الى الزوج وقال تابع
تنحنح الزوج، ثم شهق من قهر ..قال :
ما فعلته مع المتشردة هو نفسه ما حدث مع زوجتي، مع فارق
ان زوجتي بقيت في بيتنا واستطابت الحياة فيه واكتسبت عادات البيوت الكبيرة ولكنها ما تعلمت ان الحر من دان انصافا كما دين ..
زوجتي هذه سيدي القاضي لم تستطع ان تتخلص من مرض نفسي يتلبسها :الطمع، وعدم الرضا، والتطلع لما عند الغير ...
حين كنت اودع المتشردة بالباب اعطيتها مالا وألبسة أخرى ،وعطورا
ثم قلت لها : لا اريد ان اراك بعد اليوم تتعاطين التسول ، لك سأبتاع احدى الشقق الاقتصادية تأويك ، و ستصير لك نفقة شهرية لتدبير

شؤونك، فحرام أن يذوي هذا الجمال على عتبات التسول ..
ارتمت علي وعانقتني وهي تبكي ثم قالت :
ماذا بقي لم تقدمه الي يا سيدي ؟
أحسست برغبة تشدني اليها فهمست لها :
لك كل ماتريدين... فقط اياك ان تمارسي التسول بعد اليوم..
ودون شعور منا وجدنا نفسنا فوق سرير غرفة نومي ...
سيدي القاضي ما فعلته مع هذه المرأة لا يتعدى حقا من حقوق
الله هو في ذمة كل ميسور منا، صادفها حظا من حظوظها دون غيرها قد يكف عنها مذلة السؤال والتشرد، وربما هي احق به من غيرها ممن صاروا يملأون الطرقات وابواب المساجد حتى صرنا نعثر بينهم على من يمتلكون شققا ودكاكين في اكثر من حي بل وفي اكثر من مدينة يتنقلون في سيارات يملكونها..
سيدي القاضي !
ما قمت به مع تلك السيدة هو خير قدمته ما كان في اعتقادي ولا نيتي - يشهد الله -استغلالا، او انتظار جزاء، او مقابل ،لكن ما حدث هو اغراء من شر النفس وكيد الشيطان ،يلزمني اصلاحه عاجلا لذلك اطلب مهلة قصيرة ، اعقد قراني فيها على المتسولة،
ولزوجتي الاختيار ان تقبل بضرة او تصر على الطلاق،
لكن اكراما لابني منها لن أطالبها بتعويض عما صارته ، وعن نقلتها النوعية من حياة المزابل مع القطط والكلاب والحشرات ، والنوم في

الازقة والشوارع الى حياة أهل البيوت الكبيرة الذين يحسون معنى أن تكون انسانا فقيرا ثم يغنيك الله من فضله ، ولن أطالبها برأس المال لما تدره عليها شركات انا من أسستها بمالي وعرق جبيني.
أطرق القاضي برأسه الى منصة الحكم، كان يستحوذ عليه تفكير واحد ،و كمشة من الأسئلة تتسابق الى لسانه فارضة عليه أجواء من التصورات والظنون ......
عماذا كان يبحث هذا الشاب بين المتسولات ؟
لماذا كانت نظراته تتحول الى انكسار ، فيبادر الى الالتفات الى أمه
يطلب منها المدد والقدرة ؟
ما أصله ؟ وما مصدر ثروته ؟
هل حقا كل ذلك رحمة وشفقة وفعل خير ؟
اذا كانت الرحمة قصده لماذا انساق الى ما حرم الله ؟